من أول ما تزوجت في مدينتي الحبيبة بالإسكندرية كنت اقطن في الطابق الخامس. البيت يحتوي على بلكونتين، واحدة ملحقة بحجرة المعيشة وبها منشر خارجي للملابس كبير، وأخرى ملحقة بالمطبخ وبها منشر ملابس حائطي داخلي.
أنا شخص لا أحب تنشير الغسيل لأن لدي دوار من الأماكن العالية. شعوري بأن كل ما أحمله في يدي سيسقط حتما يُصَعِب على التخلي عنه او تثبيته على الحبل. كما تعرضت مرتين لدوار كدت أن أكون شهيدة المنشر لولا ستر الله.
كنت امسك بقطعة الملابس والمشابك كأني أثبت أحد أبنائي على المنشر، وأضع عدد عظيم من المشابك على كل قطعة لا داعي لذكره. أما بعد أن تجف الملابس والتقطها فإن عدد من الملابس التي ذهبت مع الريح أخجل من ذكره.
قررت بعد فترة من المعاناة، استخدام المنشر الداخلي في بلكونة المطبخ، ثم أمعنت في القرار بإجحاف، ولم أضع على الملابس مشابك أبدا. كنت اعطي ظهري للخارج وابدأ في وضع الملابس بسرعة وانتهي دون أن اواجه مخاوف الارتفاع.
كنت اقوم بنشر الأجزاء الطويلة من الملاءات في الخارج لتصد الهواء، وملابس الخروج بالداخل حتى أبقى على علاقتي بزوجي في حيز الأمان.
في الشتاء ومع النوات والعواصف لا يتغير شيء، الملابس التي تقع في أرضية البلكونة فهي حلالنا ولنا فيها نصيب، أما المأسوفة على أمرها التي طارت، فليست نصيبنا ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
ظللت على هذا المنوال لمدة ٢٢ عامًا، نعم اثنان وعشرون عاما، أقوم بنشر الملابس بلا مشابك.
ثم شاء السميع العليم أن نقوم بإدخال البلكونة في المطبخ وتوسعته وتغييره، فاشترينا مجفف ملابس وانتهت مشكلة الملابس الطائرة والمشابك العاطلة عن العمل.
طوال الوقت كانت لدي مشكلة وقيد ملزم على أن أجد له حلول، طوال الوقت لم اكره الغسيل، وطوال الوقت حرصت بشدة ألا أنظر للموضوع على أنه مشكلة، بل كان حديث للمزاح والتندر.
ذاك القيد كنت أحبه!!
الحرية ليست في كسر قيودك، بل في اختيار تلك القيود التي تناسبك.
بل ربما بعض القيود التي تفرضها أنت على نفسك تكون أقسى من اختيار الآخرين لك.
فهل في هذا الموقف كنت أشعر بأن لدي مشكلة عويصة أو ضغط كبير عليّ التعامل معه؟ بالقطع لا!!
وجدت المشكلات في الحياة من أجل خلق التحديات التي تناسب أرواحنا وتهيئة المناخ المناسب للظفر والنجاح.
أعترف أني شخص لا أفضل الرغد في كل شيء، شخص "معافر"، وهبني الله تلك المقدرة لمعرفته بحجم نصيبي من التحديات التي في علمه سبحانه وتعالى.
تلك التحديات البسيطة تهيأك لنجاحات بسيطة تصنعها كل يوم، كما ترشحك لنجاحات أكبر لأنها تجعل منك شخص أكثر صلابة ومرونة، ثم تفضي بك إلى طريق ترى نفسك فيك أكثر قدرة على مواجهة نفسك في المقام الأول ثم العالم من حولك.
يا إلهي إن صناعة الإنسان لأمر عسير، وإن قدرتك سبحانك على دعم أركان أرواحنا لأمر نعجز عن استكمال تصوره.
رغم أن تلك القصة قد انتهت منذ بضع سنوات، لكن بقيت العبرة منها، ألا إنه لا شيء يقف أمام طوفان الإرادة بداخلك لو ادخرت العزم المتين لمواصلة حياتك متخليا عن صوت المعوقات.
عندما رأى أبنائي وهم صغار المشابك عند بعض الأهل سألوني لماذا لا نستخدمها، فكنت أجيب أنها لا داعي لها، وظلوا وهم شباب ينشرون الملابس دون مشابك ودون شعورهم بالحاجة لذلك.
هناك بعض التفاصيل الكبيرة الهامة في دنيتك تستدعي أن تتعامل معها بالكثير والكثير من الجودة والاتقان.
أما بعض التفاصيل الأخرى تحتاج لرصدها وإيجاد حلول لها من خارج الصندوق، ثم عليك أن تنقلها من خانة المشكلة إلى خانة الإنجازات.
سيدي لست بحاجة لتعرف أن لكل معضلة حلول كثيرة، أنت تدرك ذلك جيدا.
تحتاج يا صديقي أن تنزع عنك عباءة المعوقات وترتدي عباءة التحديات، عليك أن تكون نفسك بنفسك طوال الوقت، عليك أن تستدعي جنود القوة بداخلك لتصد عنك كل المواقف العسيرة أو حتى السازجة التي تجابهها.
عِش قيد التنفيذ والظفر وكأنك تمضي بلا خسارة وبلا عناء في رحلة ستكلفك عمرا بأكمله لكنها تستحق.
جمال التواجد والرغبة في حياة هينة تجعل دومًا قصاصات أوراقك تحوي كلمات مختلفة.
التعليقات