أثناء انتظاري داخل القطار للوصول للأسكندرية خطرت ببالي فكرة غريبة أحب أن أعرضها عليكم.
لو أنك اضطررت اليوم وبدون ترتيب أن تُحَضِّر حقيبة واحدة للسفر بلا عودة فماذا أنت واضعًا فيها؟
وماذا لو طُلِب منك أن تحدد قائمة بأشخاص تأخذهم معك في رحلتك، فهل أنت مستعد أن تضع أسماء لأناس تلتزم معهم البقية الباقية من عمرك؟
في حقيقة الأمر الفكرة بدت لي بناءة، معبرة ومُوَتِرة بعض الشيء.
إن من أهم مميزات دنيانا أنها تمنحك الكثير من الفرص وتعطيك في أغلب الأحيان الوقت لتتعلم ثم تتصدق عليك بترف تعديل أخطائك. أما وإن كنت من تختار وحدك من يكمل معك رحلتك فهنا لا رجعة ولا تعديل لاختيار.
هذه الصورة الذهنية المجنونة تصلح لتدريبك على التعامل في دنيتك وليس لتعيش من خلالها الحياة، كذلك تعطيك فكرة عظيمة عن فضل نعمة كبيرة في حياتك ألا وهي: "أنك دومًا لديك اختيار".
وأنت تقرأ السطور الآن، أرى أشيائك تترتب داخل عقلك، لكني أراك تكتب عشرات الأشياء ثم تمزق الورقة وتكتب قائمة أخرى. إذا كنت تفعل ذلك فأنت لم تعرف بعد كيف تحب أن تمر في دنيتك ولا على أي شيء تفضل أن تتركها.
حقيبتي الشخصية أعرف عن يقين كيف أملأها.
سأضع داخل حقيبة سفري ذاكرة تخزين الصور والفيديوهات، صور أبنائي وأحبائي الفوتوغرافية، خطابات وذكريات الحب، هدايا أبنائي وأحبابي وإن نال منها الزمن ولم أعد أستخدمها، كل ثمين جعلني سعيدة، قصاصات الأوراق التي تحمل كلمات المودة، بعض شرائط الكاسيت والفيديو وبعض الكتب وأجندات المأثورات التي شكلت وجداني.
سأخصص ركن لذكريات بسيطة من أحبتي الذين تركوني، نظارة أبي وقبعة حمايا وبعض خطابات الكلية موقعة من زوج خالتي وقت أن كان عميدا لشئون الدراسات العليا، زجاجة عطر فارغة تلامس ذكرى عميقة في قلبي.
وفي ركن خاص جدًا سأضع فرشاة شعر أطفالي وخصلات شعورهم التي احتفظت بها من وقت أن كان عمرهم شهرين، تذاكر سينما وترام للخروجات الحلوة والتي كنت اكتب عليها أجمل أحداث اليوم، هدايا أبنائي وقت أن كانوا صغار وقصاصات الأوراق التي تحمل مشاعرهم وجمال قلوبهم الصغيرة.
سأحمل مشاعري التي دونتها في كراسات ملونة، وبعض ذكريات طفولتي.
لن أجد مكان أضع فيه ملابسي، سأحمل كل كارت كتب لي أحدهم عليه كم كان ولا يزال يحبني، سأضع في الحقيبة صينية جدتي وحقيبة يدها وساعتها، وعُقد أمي الذي أخَذَته عن جدتها وحقيبتها السمسونايت الحمراء.
قد أحمل معي زوج من الطيور تعلق بهم قلبي، مفتاح أول سيارة امتلكتها ولازلت احتفظ به، أول صندل لأبنائي والقليل المتبقي من ملابسهم.
أتعرف يا صديقي أني لن أنسى أيضًا تلك المقولات التي كنت أضعها على مكتبي وكانت تدفعني للأمام. صور خطيبي وقت خطوبتي التي كانت ترافق مجال نظري على حائط مكتبي والذي أصبح فيما بعد زوجي، والعديد من الأشياء البسيطة الأخرى …
سأجتهد أن أحمل ذكرياتي القيمة وليست الثمينة، لكن يأتي السؤال الأهم والأصعب من سأصطحب معي؟
لن أعدد أسماء لكن الأجمل أن أخبرك عن صفاتهم.
على أول قائمتي من بادلني الحب بالدفء من ساعدني وساندني فأقامني وقت عثرتي، من شعر بوخز قلبي قبل أن أتألم، من تمنى لي الخير طوال الطريق، من كان يرى أن نجاحي وتقدمي يُجَمّله، من أحمل له في قلبي صدق الضحكات وطيب الأوقات، من أَحَب أبنائي وتمنى نجاحهم، من قدرّ زوجي وراعى صحبته، ومن يسر على أمي وأفسح لها من وقته.
سيكون معي من جَمّل دنيتي، من أعانني على حسن البقاء فيها، ومن اصطحبني خلالها معروفا.
سأحمل معي أصحابي وأخوات يعرفون أنفسهم لم تلدهم أمي، من كانوا كتفي في رحلتي ومن كانت أياديهم بيضاء على قلبي.
ستكون قائمة الأفراد طويلة جدا فقد منّ الله عليّ بالكثير والكثير من الأحباب وأصدقاء السند والعمر الجميل … ولا يزال يفعل.
إن أفضل ما يمكنك تحقيقه في دنيتك أن تظل الذكرى الطيبة في قلب أحدهم، أن يُنَادى عليك وقت الشدائد، أن تكون صحبتك آمنة وكتفك متين، ألا أطلبك بل تأتيني لأنك تشعر بي، وأن تترك داخلي يقين بأنك لن تغادرني لو وجدت من هو أفضل مني.
لقد ظللت لفترة قريبة من العمر أساند دون أن أُسئَل، أُعطي وأحب العطاء ولا أتحرى أين أعطي.
إلى أن جاء أُناس لا تليق بهم المحبة أخبروني عن النضج وأجبروني عليه وكانوا أحد أهم أسباب الإنارة في دنيتي.
البني آدم الوغد له فضل كبير عليك فهو أول من علمك قيمة الوفاء وأهميته، ضرورة الالتصاق بالطيبين وكيفية الحفاظ عليهم وفضل الاعتماد على إنسان مأمون الجانب منير القلب مؤتمن.
من سنوات ليست بعيدة لم أكن أعرف عن جد هل كانت تلك القائمة رابحة وحقيقية أم زيف في عقلي، لكني اليوم أصبحت أعرف!
التعليقات