لا يوجد في الدراما التليفزيونية فن للنخبة وآخر للعامة، تذوب الحدود الفاصلة بين الدائرتين، عندما تخاصم الجماهير عملًا فنيًا ستجد من يتهم الجمهور بالتخلف، أحد كبار الملحنين في مطلع السبعينيات لم تنجح قصيدته، بدلًا من أن يبحث عن السبب، أطلق هذه العبارة (نجحت وفشل الجمهور).
أتذكر، في نفس السياق، عبارة رددها محمد عبدالوهاب، في نهاية الثمانينيات، قبل سنوات قليلة من رحيله، عندما سألوه عن حال الغناء أجابهم: (المستمع الآن الله يرحمه)، ورغم ذلك فإن المستمع الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى، ظل «عبدالوهاب» يلحن له حتى آخر نبضة في حياته، وقدم له «من غير ليه» بصوته، ثم «أسألك الرحيل» بصوت «نجاة»، أكثر من ملحن اقتبس نفس المعنى مع تغيير فقط في الكلمات، عندما يسألونهم لماذا لا تلحنوا الآن يقولون جهاز استقبال العمل الفنى أصبح معطوبًا، تحمل هذه العبارة هجومًا حادًا على الجمهور، كما أنها في نفس الوقت تؤكد تعالى الملحن عن الوصول للناس، المطرب القديم صالح عبدالحى (أستاذ عبدالوهاب) سألوه في الخمسينيات بعد أن انحسرت عنه تماما الأضواء عن رأيه في عبدالحليم ونجاة وشادية، قال لهم (أصواتهم تشبه الصراصير، والجمهور حاليًا يفضل الصراصير)!!.
هل حقًا جهاز استقبال الجمهور أصبح لا يميز بين الغث والسمين؟، أقصد بين الصرصار والكروان؟، أم أن بعض المبدعين عجزوا عن فك «شفرة» الناس، فاعتبروا الجمهور دون مستوى إبداعهم في كل المجالات مسلسلات وأغنيات وأفلام ومسرحيات؟.
دائمًا لكل جيل مفردات في الحياة، وأسلوب التخاطب وأحلام وآمال وواقع، ولهذا تتغير في كل حقبة زمنية لغة الحوار، تولد كلمات وتموت كلمات، والفنان حتى يظل على الموجة عليه أن يستقبل كل هذه المتغيرات، وإذا توقف عن الاستقبال يجد نفسه وكأنه بمفرده في صحراء يتكلم ولا أحد يجيب، صوت بلا صدى، الزمن يلعب دورا سلبيا في قدرة جهاز الاستقبال لمفردات الحياة، ولكل ما هو جديد، كما أن الزمن يخصم أيضًا منا أهم ما في الإبداع، وهو اقتحام المجهول، أقصد روح المغامرة، التي هي سر الإبداع، الفنان كلما تقدمت به السنوات بات غير قادر على الاستقبال، كما أنه يفضل ما تعود عليه واختبره من قبل، فيرسله لجمهوره بدون أن يعرف طبيعة الجمهور، مع يقينى بالطبع بأن بعض الفنانين الكبار استطاعوا مع مرور الزمن الحفاظ على تجددهم وتواصلهم، فكانوا أكثر شبابًا حتى من المبدعين الشباب، على كل فنان أن يعرف أولًا هل لا يزال قادرًا على استقبال الجديد، وبعد ذلك يتأكد هل جهاز إرساله لا يزال بحالة جيدة أم أصابه التشويش؟!.
الإبداع وفى كل المجالات يحتاج إلى يقظة دائمة، رحلت أمينة رزق، 90 سنة، وهى تحتفظ بلياقتها الإبداعية وقدرتها على الأداء الدرامى بأسلوب عصرى، وكأنها من جيل (منة شلبى)، الفنان التشكيلى «صلاح طاهر»، 92 عامًا، لم يتوقف عن الإمساك بالفرشاة حتى رحيله، وكان دائمًا قادرًا على إدهاشنا، رحل «يوسف شاهين» وهو في الثانية والثمانين، وكانت تجمعه جلسات عمل حتى اللحظات الأخيرة، مع الكاتب «ناصر عبدالرحمن»، لتقديم فيلم جديد يحمل اسم «الشارع لنا».
من يستمر هو من يجيد قراءة الشارع، من يتعالى على الشارع لا يجد حتى رصيفا يقف عليه ليلتقط أنفاسه، وليس أمامه سوى أن يردد وحيدا موال (سوق الحلاوة جبر/ واتقمعوا الوحشين)!!.
التعليقات