لا تكتفي كرة القدم بدروسها المستفادة من اللعب على المستطيل الأخضر، لأن سوسيولوجيا الرياضة تكشف لنا دروسًا أخرى، لا تقل أهمية، في اللعب خارج النجيل.
ومع الحدث الرياضي الأهم، بالتوازي مع الألعاب الأولمبية، وأعني به كأس العالم، يبدو الحراك أكثر إثارة إعلامية لحدثٍ يستقبل مليارات من المشاهدين، ويعرف مليارات أخرى من الإنفاق قبل وخلال الأسابيع الأربعة التي تشهد إقامة 64 مباراة، بدأت بدور المجموعات واختتمت بالمباراة النهائية.
في الساعات التالية لحفل الختام، لم يكن هناك حديثٌ عن الأهداف الرائعة، والفرص الضائعة، وأخطاء الحكام، وسقطات اللاعبين، وفشل المدربين، وأمهات المحترفين، واعتزالات الخاسرين، والمبعدين، كانت كل هذه جعجعة، وبقي الطحن لمشهد وحيد: البشت الذي ألبسه أمير قطر، منظم البطولة، للاعب ليونيل ميسّي، الفائز بكأسها.
البشت، وجمعها بِشُوت، يُعرف في بعض اللهجات العربية المنطوقة باسم مِشْلَح، أو بالعربية: عَبَاء، وهو عباءة رجالية تقليدية شائعة في العالم العربي ظل ارتداؤها لآلاف السنين، كما ظهرت في رسومات قديمة ، وكان أهل الشام يرتدون رداءًا مشابهًا، وهو عباءة خارجية متدفقة تُلبس فوق الثوب.
عادة ما يتم ارتداء البشت من أجل الهيبة في المناسبات الخاصة مثل الأعراس أو المهرجانات كالعيد أو لصلاةالجمعة (وحتى صلاة الجنازة)، يرتديه المسؤولون العلمانيون أو رجال الدين ، بما في ذلك رؤساء القبائل والملوك والأئمة كملبس ذي مكانة يرتبط بالملكية والمكانة الدينية والثروة والمناسبات الاحتفالية ، مثل بدلة السهرة السوداء في الغرب.
لا زلت أذكر أنني حين زرت إحدى عائلات مدينة القصير، قرب حمص، في سورية الحبيبة قبل سنوات الدمار، لم يجد راعي البيت أثمن من أن يخلع عليَّ البشت الأسود بإطاره الذهبي، وكان كأنه وهبني تاجا.
وقبلها بسنوات، حين كنت طالبا في الثانوية، وصلتني بطاقة مصورة من عمي يرتدي فيها البشت، وكان يعمل في البحرين، ترمز إلى مكانة كبيرة أراد توثيقها. أما أبي، فلم ينس حين عاد من الحج، أن يرتدي البشت الذي اشتراه من مكة المكرمة، حين يذهب للصلاة بالمسجد، خاصة أيام الجمعة. هكذا، بالنسبة لي، ارتبط ارتداء البشت بالتكريم، فما بالكم إذا جاء التكريم من الأمير؟
هذه العباءة التقليدية المتدفقة تميز من يرتديها. يقول الناس أنه لا يوجد قماش يمكن أن يميز البشت المصنوع يدويًا، هذا هو السبب في أن فن خياطة البشت هو مهارة تنتقل من جيل إلى جيل.
تعد منطقة الأحساء في المنطقة الشرقية موطنًا لأفضل خياطي البشت لأكثر من 200 عام ولكبار المنتجين له في دول الخليج منذ عام 1930. لذلك لم يكن غريبا، حين اكتشفت العدسات المصورة الدقيقة العلامة التجارية للبشت الذي قدمه الشيخ تميم لميسّي، وهي علامة لواحد من أكثر تجار البشت المحترمين في قطر، بشت سالم من عائلة يعود أصلها للأحساء ، وقد بدأوا عملهم في البشت المصنوع يدويًا في الدوحة عام 1930.
انقسم المعلقون على الصورة الأشهر، بشت ميسّي، بين من يرى في المشهد تلقائية وفطرية، تسير على منوال تعريب أيقونات كأس العالم 2022، أو خلجنته وقطرنته في الشعار، لعّيب، وفي الاستادات وأشهرها "البيت" على هيئة الخيمة، والغناء بالعربية، والختام بالشعر، وكأننا أمام سوق واقف الشعري، خلفا لتقاليد سوق عكاظ في الجزيرة العربية.
ولكن آخرين رأوا أنها حركة مُعدّة سلفا، وأن ميسّي – كما نشرت كاتبة عربية – لم يوافق إلا بعد أن أعطوه 50 مليونا، لكي يرتدي البشت! (قالت تحديدا: عرضت قطر فى البداية ٢٧ مليون دولار فلم يقبل ميسى، وطالب ٥٠ مليون دولار)! وإذا كان ذلك الاتفاق سريا لا تعرفه سوى الكاتبة والقصر، فإن سعر البشت الذي أرتداه النجم الأسطوري ميسّي، 4500 ريال قطري.
كان لورانس العرب أشهر من ارتدى العباءة العربية من خارج المنطقة في القرن العشرين، وأصبح اليوم "ميسّي العرب" الأشهر، خاصة وأن صورته وهو يرتديها حققت على انستجرام - بعد ساعات فقط - أكثر من 58 مليون إعجابا.
حققت اللقطة أهدافها، وعاد المشجعون الأرجنتينيون يرتدون الثوب والدشداشة والبشت إلى بيونس أيرس، ليحتفلوا مع مئات الآلاف حول مسلة مستلهمة من الحضارة الفرعونية، عاشت عقودا تنتظر هذه اللحظة، وهكذا لا يبقى من التاريخ سوى الأسماء، ولا تعبر الحدود سوى الثقافات. أما الصحف الأرجنتينية فرحبت بالعباءة، باعتبارها تكريما عربيا، يشابه إهداء مفتاح المدينة فى الثقافة اللاتينية.
التعليقات