يجمعنى مع المحامى الأشطر والأشهر فريد الديب العديد من المحادثات التليفونية، القسط الوافر منها نتناول معلومات فنية تاريخية يريد التأكد منها، مثل هذا اللحن لمحمود الشريف أم لمنير مراد؟.. أو هذا البيت من الشعر لبيرم التونسى أم لبديع خيرى؟.. ومن أخرج الفيلم نيازى مصطفى أم توجو مزراحى؟.
كثيرا ما أجد أسئلة الأستاذ فريد تلعب دورًا حيويًا فى تنشيط ذاكرتى، وتفتح أمامى الكثير من الأبواب، وتدفعنى للبحث عن إجابات موثقة.
يقطن الأستاذ فى فيلا بالمنيل بالقرب من منزلى، ونتعامل مع السيدة (أم سيد) بائعة الجرائد، وهى من القلة اللاتى لايزلن يبعن المطبوعات الورقية، عندما أخبرته عنها قبل بضعة أسابيع، قال لى: اشكرها لأنها تتذكرنى.. أمس عرفت خبر رحيل الأستاذ فريد من (أُم سيد).
اقرأ المزيد ..
كتبت قبل بضعة أشهر عندما نذكر (الكاريزما)، يتطرق إلى ذهننا نجوم التمثيل والغناء، رغم أن التوصيف أشمل بكثير من أن نحصره فى إطار محدد. صحيح أن نجوم الفن هم الأكثر لمعانًا وتداولًا عبر الوسائط الاجتماعية، إلا أن (الكاريزما) رأيناها مجسدة فى أحد أساطين القانون المحامى الكبير فريد الديب، الذى حقق من خلال مرافعته الأخيرة عن أحد رجال الأعمال كثافة من المشاهدة تفوقت على كل النجوم. اسم فريد الديب قبل بضع سنوات كان هو الأكثر ترديدًا فى قضية الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وقبلها الجاسوس عزام عزام. يتمتع الديب بقدرات استثنائية، تعبيره الجسدى يسبق دون أن يقصد تعبيره اللفظى، يتحرك فى مساحة من الدفء تجمع بين القلب والعقل، إلمام لغوى وانضباط فى مخارج الألفاظ، ناهيك عن سرعة البديهة وخفة الظل.
يتلقى الديب الكثير من التعليقات السلبية، باعتباره الأغلى أجرًا ويتبنى فقط قضايا لمن يدفع أكثر، وآخرها قاتل (نيرة)، يتجسد أمامنا لا شعوريًّا (أفوكاتو) رأفت الميهى بشخصية (حسن سبانخ) التى أداها عادل إمام. قال لى الأستاذ فريد إنه يدافع عن الحق حتى لو كان سيؤدى فقط لتخفيف الحكم عن المتهم، وضرب مثلًا بفعل القتل، حيث تتباين دوافعه، ومن الممكن القاتل فى ظل ظروف محددة أن يحصل على البراءة. سألته لو تواجدت قبل أكثر من 100 عام فى زمن (ريا وسكينة) وعرضت عليك القاتلتان الأشهر فى تاريخنا المعاصر الدفاع عنهما.. هل تقبل؟.. أجابنى بتعبيره الشهير: (أومال)، وأضاف: من الممكن أن أجد ثغرة لتخفيف الحكم وأبعد عنهما شبح المشنقة.
(الكاريزما) يجب أن تُدعم بنجاح وشطارة، وهذا هو ما حققه فريد الديب. لو لم يكن محاميا لوجد طريقه على خشبة المسرح أو فى الأستوديو. هل هو بالضرورة مقتنع ببراءة موكله؟، أعتقد أنه يقرأ كل التفاصيل، وبعضها من الممكن أن يدين أخلاقيًا وقانونيًا الموكل، إلا أنه ينحّى جانبا قناعاته وأحكامه الشخصية، ويبدأ فى البحث عن أسباب البراءة، لا يطل على القضية باعتباره قاضيا ولكنه محامٍ، ومن هنا جاء تعبير شهير يتم تداوله (محامى الشيطان)، عندما يعترف الجانى بارتكاب الجريمة عامدا متعمدا، ولتحقيق العدالة تتولى المحكمة وعلى نفقة الدولة اختيار محام للدفاع عنه، وعليه أن يبحث عن أى خيط لبراءة موكله، أى أن شرط العدالة يفرض توافر محام للدفاع حتى عن القاتل.
نظلم القاضى عندما نطلب منه أن يلعب دور المحامى، القاضى على المنصة يطبق القانون (معصوب العينين)، مثلما نظلم المحامى لو طلبنا منه أن يلعب دور القاضى، بينما دوره الدفاع عن المتهم مهما كانت جريمته.
تلك كانت هى المعضلة التى عايشها الأستاذ فريد الديب. الناس كثيرا ما تطلب منه أن ينزع روب المحاماة ويرتدى عباءة القاضى.
عندما تتعانق الشطارة مع الجاذبية، نصل للذروة، سواء فى ساحة الاستديو، أو ساحة المستطيل الأخضر، أو ساحة المحكمة.. وهكذا كان الأستاذ فريد الديب، عاش حياته متنقلًا من ذروة إلى ذروة!!.
التعليقات