قبل ٤٣ عامًا فى بدايات حياتى الصحفية، كان مهرجان الإسكندرية السينمائى هو الجهة الوحيدة التى ننتظرها من العام للعام، أنا وأبناء جيلى، لأنه ببساطة المكان الوحيد الذى يعترف بنا خارج حدود القاهرة. أصبح بينى وبين المهرجان واقعة لا تُنسى، إنه فيلم عاطف الطيب «سواق الأتوبيس»، عُرض فى اليوم قبل الأخير، من خلال (بانوراما السينما المصرية)، ولم تكن على الساحة العربية إلا عدد قليل جدًا من المهرجانات. كان لجائزة (عروس البحر) لأفضل فيلم مصرى، التى تمنحها جمعية كتاب ونقاد السينما التى تقيم المهرجان، سحرها وجاذبيتها. تسربت جوائز المهرجان قبل إعلانها الرسمى، وعلمنا أن الفائز بالذهبية فيلم يوسف شاهين «حدوتة مصرية» والفضية فيلم كمال الشيخ «الطاووس» والبرونزية فيلم هشام أبوالنصر «قهوة المواردى»!!
أُقيمت صباح اليوم التالى ندوة ساخنة ولم يبقَ من الصحفيين والنقاد حتى اليوم الأخير سوى عدد محدود، حيث إن الكبار كانوا قد عادوا إلى القاهرة، كما أن اسم «عاطف الطيب» لم يكن يشكل وقتها أى جاذبية. فيلمه الأول «الغيرة القاتلة» كان متوسط القيمة. شعرنا أن علينا أن ندافع عن «سواق الأتوبيس» وكأنه يمثلنا أكثر مما يمثل مخرجه، كنا نقاتل من أجل الفيلم وكأننا نقاتل للحصول على حقنا فى الوجود. وأتذكر أسماء المقاتلين: «محمود سعد» وزوجته الكاتبة الصحفية «نجلاء بدير»، وكانت فى بداية الحمل لابنتهما الوحيدة، وأيضًا الراحلان «محمد دسوقي» و«محمد رفاعي»، ونجحنا فى انتزاع الجائزة البرونزية للفيلم بدلاً من «قهوة المواردي». شعرنا بانتصار حقيقى لنا، ربما أكثر مما شعر به «عاطف الطيب» والذى كانت هذه هى أولى جوائزه.
كان «سواق الأتوبيس» على المستوى الشخصى هو الثغرة التى نفذت منها لكى أكتب أولى محاولاتى فى النقد السينمائى على صفحات مجلة (روزاليوسف). لم أكتب مقالاً منفردًا عن «سواق الأتوبيس» ولكنى كتبت عن ستة أو سبعة أفلام مصرية عُرضت بالمهرجان، كل منها أخذ مساحة لا تتجاوز فقرة. كان المقال أقرب إلى صيغة التحقيق حتى يُسمح بنشره. كانت الفقرة التى كتبتها عن الفيلم بعنوان «أتوبيس الطيب.. آخر الخط»، وقصدت أنه عُرض فى نهاية أحداث المهرجان. ويمر الزمن ويرحل «الطيب» ١٩٩٥، وبعدها بعام يصدر مهرجان القاهرة أول استفتاء لأفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية، ويأتى اسم «سواق الأتوبيس» رقم «٨»، وهو المخرج الوحيد فى جيله الذى حظى بتلك المكانة.
وكان له أيضًا «البرىء» ٢٨ و«الحب فوق هضبة الهرم» ٦٨، وكان له «قلب الليل» فى الخمسين فيلمًا التالية للمائة الأولى، وسقط، ولا أدرى لماذا، فيلمه «الهروب». والمؤكد أن «ليلة ساخنة» الذى عُرض بعد الاستفتاء، لو كان قد لحق به لدخل على الفور قائمة المائة!. «سواق الأتوبيس» هو فيلمه الروائى الثانى، أكد أنه صاحب إطلالة خاصة للحياة، رؤية تؤكد أن لديه ما يريد أن يحكيه. وجاء هذا الفيلم بعناصره الفنية، وعدد كبير منهم قد ساهموا بقسط وافر فى سينما ذلك الجيل. القصة السينمائية اشترك فيها «محمد خان» مع «بشير الديك». السيناريو لبشير الديك. التصوير «سعيد شيمي». المونتاج «نادية شكري». و«نور الشريف» هو البطل، صاحب الرصيد الأكبر مع «أحمد زكي» فى أفلام جيل مخرجى الثمانينيات!!
فى مجمل أفلام «الطيب»، تستطيع أن ترى أنه يقدم السينما بشروط لا تتناقض مع السوق، وليس معنى ذلك أنها توافقت تمامًا مع السوق، اختلفت بدرجة لا تصل إلى حد التناقض، لتتيح له تقديم بصمته.
«حسن» بطل «سواق الأتوبيس» هو أحد أبطال حرب ٧٣ الذين دفعوا الثمن، ولكنه يجد أن الآخرين قد حصلوا على المكاسب، وأن المجتمع قد فرض نمطًا استهلاكيًا مختلفًا، وعليه إما أن يخضع لهذا النمط أو يواجه طواحين الهواء. يكتشف بطل الفيلم أن عليه أن يواجه نفسه أولاً وأن ينتصر على السلبية التى فرضت نفسها عليه!.
كانت القفزة الثانية لعاطف الطيب هى قصة «نجيب محفوظ» «الحب فوق هضبة الهرم»، وشارك هذا الفيلم فى (أسبوع المخرجين) بمهرجان «كان».
كاتبنا الكبير «نجيب محفوظ» قال: (لم أكن قد سمعت عنه بسبب بعدى عن المجال السينمائى، ولكنى بعد أن شاهدت الفيلم اكتشفت فيه عبقرية واعدة، وعجبت حين علمت أنه ما زال شابًا، وتنبأت له منذ ذلك الحين بمستقبل كبير فى السينما المصرية. لقد قدمت لى السينما عشرات العشرات من الأفلام، ولكنى أعتقد أن «الحب فوق هضبة الهرم» من المعالجات السينمائية الجيدة التى لم تستغل الأصل الأدبى لأسباب لا تمت للأدب أو الفن بصلة، إنما حولت القصة الأدبية إلى شكل سينمائى متميز، جعل منها بالفعل علامة مهمة فى تطور السينما فى مصر، وجعل من مخرجها بحق عميدًا للخط الواقعى فى السينما المصرية الحديثة).. انتهت كلمات أديبنا الكبير!.
يلتقط «عاطف الطيب» قضايا الشباب الذى يقف على أبواب الثلاثين، وربما يتخطاها، ثم لا يجد شقة الزوجية، ويقف حائرًا بين معاناته النفسية ومشكلته الاجتماعية وتقاليد المجتمع. ويصل «الطيب» إلى ذروة المواجهة عندما يسأل «أحمد زكي» أمام الجامع عن حل لمشكلته، فيُخبره بنص الحديث («من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم»). ويأتى الرد التلقائى: ومن لم يستطع تحمل نفقات الزواج ولا مشاق الصيام، فماذا يفعل؟!
فى تاريخ السينما المصرية، أفلام تم ذبحها ولم تُعرض جماهيريًا، وفيلم «الزمار» لعاطف الطيب هو أحد هذه الأفلام التى تم اغتيالها. فقد أراد الموزعون وأصحاب دور العرض اغتيال «الزمار» وتحديد إقامته فى الأرشيف بعيدًا عن التداول، بحجة أنه لن يحقق أى إيرادات بسبب ما رأوه من قتامة، رغم أن بالفيلم شجن نبيل، لكنهم لم يستطيعوا إدراكه، ونجحوا فى منع عرض الفيلم داخل دور السينما. إلا أن «الزمار» استطاع أن يقفز بعيدًا عن الأسوار، وتنفس من خلال الفيديو وعروض التلفزيون، وغنى «الزمار» رغم محاولات كتم أنفاسه!. ومن أفلامه الاستثنائية «البريء». فى حادثة استثنائية أيضًا، تم التصريح بالفيلم عام ١٩٨٦، حيث استتبع الأمر حضور أربعة وزراء معًا فى جلسة ساخنة: وزير الدفاع المشير «أبو غزالة»، ووزير الداخلية اللواء «أحمد رشدي»، ووزير الإعلام «صفوت الشريف»، ووزير الثقافة «د. أحمد هيكل». أحداث الفيلم تجرى بدون تحديد الزمان والمكان. الفيلم يفضح تسلط الدولة وديكتاتورية الحكم، ولهذا تعاملت الرقابة بضراوة مع الفيلم، وتم الإفراج عنه بعد حذف أكثر من ١٥ دقيقة.
نرى السجين وكأنه السجان، وتختلط جدران السجن بحدود الوطن، وعندما يتحرر الإنسان من داخله، يستطيع أن يحرر أيضًا الوطن. الوطن ليس هو مساحة الأرض التى نعيش عليها بقدر ما هو إحساس الكرامة الذى نحياه!!
ونتوقف مع فيلمه الذى استعيده كثيرًا «الهروب». السلطة ليست دائمًا هى الشرطى الذى يطارد المجرم، ولكنها أحيانًا تصبح المجرم الذى يحاول الإفلات من عقاب الشرطة. يُوصف فيلم «الهروب» بأنه الأجرأ فى تاريخ السينما المصرية، وربما كان ذلك صحيحًا إلى حد بعيد، ولكن ليست الجرأة فقط هى سر هذا الفيلم. ويُوصف «الهروب» أيضًا بأنه كان الأسبق فى انتقاد العديد من السلبيات الاجتماعية والسياسية، وربما كان هذا أيضًا صحيحًا، حيث يناقش الفيلم قضايا الناس الملحة، ولكن ليس السبق وحده هو سر هذا الفيلم. ربما يأتى من هو أجرأ، وربما كان من هو أسبق، لكن لا شك أن «الهروب» هو الأصدق!!
زاوية رؤية المخرج ليست هى فقط تشكيل الصورة فى الفيلم، ولكن اكتشاف زاوية جديدة داخل الممثل، وعاطف كان دائمًا قادرًا على اقتناص لمحة جديدة ونبرة مختلفة، ربما لم يكن يدركها الفنان من قبل. هذا هو ما يمكن أن نكتشفه فى «ليلة ساخنة»!!
الأحداث الساخنة هى التى تكشف المخرج، لأن عليه ألا تأخذه سخونة الحدث عن تأمله. وأحداث فيلم «ليلة ساخنة» أكدت أن «عاطف الطيب» مخرج يجيد التأمل والهدوء فى عز لحظات الغليان!!
٥٠٪ من رصيد «عاطف الطيب» السينمائى كان من نصيب «نور الشريف». ما بينهما أكثر من مجرد مخرج يرى فى نجم ملامح البطل على الورق. كان «نور الشريف» هو «عاطف الطيب» ممثلاً، مثلما كان «عاطف الطيب» هو «نور الشريف» مخرجًا. «نور» لا يجسد فقط ملامح الشخصية الدرامية، إنه يجسد لاشعورًا، وربما أحاسيس ومشاعر ونبضات «عاطف الطيب» أمام الكاميرا!!
«ليلة ساخنة» هو فيلم الوداع وترنيمة شجية لمخرج ودّع حياتنا، ولكنه لا يزال يسكن مشاعرنا!!
بعد أن قدمت «لبلبة» فيلم «ليلة ساخنة»، كتبت: (لم تكن ليلة ساخنة، بل كانت ليلة القدر التى فتحت لها أوسع أبوابها لكى تصل «لبلبة» بهذا الدور إلى القمة). كان هذا الفيلم هو مسك الختام لهذه الرحلة، وكأن «الطيب» يلقى نظرة بانورامية على كل أفلامه، حيث ستجد أن فيه من «سواق الأتوبيس» إرادة التغيير، ومن «البريء» بكارة أبطاله، ومن «الحب فوق هضبة الهرم» انكسار الحلم، ومن «التخشيبة» ظلم المجتمع، ومن «الهروب» تعسف السلطة، ومن «عاطف الطيب» كل «عاطف الطيب»!. ونأتى إلى آخر أفلامه الذى حمل توقيعه الرسمى، وليس نبضه وإحساسه، وأعنى به فيلمه «جبر الخواطر». فى ذكرى رحيل «عاطف الطيب» الثالثة، عرضوا فيلمه «جبر الخواطر» مبتورًا مشوهًا، بدلاً من أن ينثروا الورد على قبره، ألقوا أحجارًا. مات «الطيب» مرة، وأرادوا أن يموت ثانية!!
كانت الحرية والرغبة فى تحطيم القيود هى الهاجس الذى يحرك شحنة الإبداع داخل «عاطف الطيب»، ولأنه كان صادقًا فى انفعاله، فإن روحه أيضًا تحررت مبكرًا من قيود الجسد. إلا أن أتوبيس «الطيب» السينمائى لا يزال منطلقًا، أراه دائمًا كلما لمحت عملًا سينمائيًا ينضح بالجمال والصدق والإبداع. على الفور أتذكر أنه كان يعيش بيننا قبل ٣٠ عامًا، عاطف الطيب، أحد أهم عناوين الجمال والصدق والإبداع!!.
التعليقات