ما هو المنهج، ومن الذى يضعه؟
السلطة هى التى تضع المنهج، سواء أكانت سلطة سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية، فى كل تفاصيل الحياة هناك أفكار نتوارثها وعادة نسلم بصحتها.
شاهدت فيلم (برا المنهج) للمخرج عمرو سلامة، الذى شارك فى كتابته مع خالد دياب، يقترب (سلامة) بحذر شديد من نيران المحظورات، وقبل أن تلسعه ألسنة اللهب يسارع بالابتعاد بعيدًا عن منطقة الخطر.
فى ختام مهرجان (البحر الأحمر) بجدة، تابعت (برا المنهج)، توقعت له فى مصر قدرًا لا بأس به من النجاح الجماهيرى، رغم يقينى أن جمهورنا لديه قائمة بأسماء نجوم الشباك، وماجد الكدوانى صاحب الموهبة الاستثنائية ليس من ضمن تلك القائمة، ولا أيضًا روبى، التى تتمتع بقدرة على الجذب فى مجال الغناء والاستعراض لم تحظ بها بعد فى السينما. الجمهور، على الأقل فى الأسبوع الأول، يذهب للنجم، وبعدها فى الثانى يصبح الفيصل هو الشريط السينمائى، إلا أن الفيلم فعليًا لم يمكث طويلًا، محققًا إيرادات لا تُذكر، هذا الجمهور شاهدته مثلا يُقبل فى نفس التوقيت على فيلم (من أجل زيكو) لبيتر ميمى.
وينطبق عليه أيضًا توصيف بلا نجوم شباك، إلا أن الشريط كان جاذبًا، وهناك أيضًا عامل آخر أراه مهمًا، وهو أن الإنسان كما يقول علماء النفس (عدو ما يجهل)، والفيلم يفترض أن الجمهور ملم بتفاصيل حياة الوطن، رغم أننا نحتاج بالفعل إلى حصص مكثفة فى التربية الوطنية، ولهذا لم يكن الجمهور على نفس الموجة مع الشريط، لأنه يجهل الكثير من التفاصيل.
فى العرض السينمائى خارج مصر كانت هناك بين الحين والآخر ضحكات، وفى نهايته استمعت إلى تصفيق، بينما عندنا لا ضحك ولا تصفيق، ولا (الهوا).
لماذا مرَّ الشريط سريعًا؟ لدى كاتب هذه السطور قناعة بأن الجمهور على حق دائمًا، وأرفض أى اتهام لذوق الناس، وعندما يخفق عمل فنى جماهيريًا، لا نردد مثل هذا الموسيقار الكبير الذى راهن على نجاح قصيدته الجديدة، ولكنها لاقت فتورًا، فقال نجحت القصيدة وفشل الجمهور، ولم يعترف بالهزيمة.
السيناريو اعتمد كاتباه عمرو سلامة وخالد دياب على افتراض خاطئ أنه يعرف ولو خطوطًا عريضة عن حياة الوطن، بينما الحقيقة أنه حتى من عاشوا تلك الحقبة الزمنية، وأعنى بها هزيمة 67، صاروا قلة وأغلبهم لا يتذكر التفاصيل.
شخصية بطل الفيلم، التى أداها باقتدار ماجد الكدوانى، مستوحاة بتصرف من الإذاعى الكبير الراحل أحمد سعيد، الذى كان منوطًا به إلقاء البيانات العسكرية فى 67، وعليه أن يلتزم قطعًا بكل ما يأتى إليه من القوات المسلحة، وإلا وجد نفسه يُحاكم عسكريًا بتهمة الخيانة، فكان يشير إلى تحقيقنا انتصارات مدوية على العدو، وهو قطعًا لا لوم عليه، الإذاعى أحمد سعيد رحل عن عالمنا قبل سنوات قلائل أيضًا فى يونيو، ولهذا كتبت عنه بعد الرحيل أنه مات مرتين: الأولى واكبت الهزيمة التى تحملها هو أدبيًا فى 67، وهكذا سكن فى الذاكرة الجمعية باعتباره مروجًا للأكاذيب، وتلك هى الضربة القاصمة التى تلقاها بعد رحيله.
الإذاعى الكبير بنيانه النفسى أقوى بكثير مما قدمه الفيلم، فهو لم يشعر يومًا بالذنب لأنه نفذ التعليمات، بل كان هو الضحية.
الجمهور لم يجدد مبررًا دراميًا لتلك الحالة من التخفى التى تعيشها الشخصية، لأنه ببساطة لم يكن على الموجة، عاش فى فيلا مهجورة ويرتدى قناعًا، حتى ابنته الوحيدة روبى تنكرت له وتنكر لها.
الطفل يعيش فى عالمه الخاص يريد أن يخلق لنفسه واقعًا مغايرًا لما فرضوه عليه، الطفل اليتيم نور، بينما فى المدرسة أطلقوا عليه عماشة، يتحدى الجميع ويلعب حارس مرمى، عالمه الخيالى، كان هو وسيلة لكشف أكاذيب المناهج التى تعيشها كل الشخصيات، حرص المخرج أن يدفع الجمهور للرؤية من خلال عيون الطفل، لنعيش الواقع بأحلامه، وعندما يستعيد التاريخ فهو يقدمه بدرجة أقرب للرسم البدائى، ليصبح معادلًا موضوعيًا لما يعيشه بطل الفيلم.
الشريط يشبه حالة عمرو سلامة فى فيلم (لا مؤاخذة) بطولة طفل، ومن خلال تعرضه للتنمر الذى يمارسه البعض بحسن أو بسوء نية مع من يخالفه الدين، عالم الطفل يسمح بأن تناقش كل القضايا وأنت بمأمن من الرقابة، كما أن عمرو كما يبدو فى تجاربه يجيد توجيه الأطفال وضمان بكارتهم أمام الكاميرا، وهى من أصعب الأدوات التى يجب أن يتحلى بها المخرج (الحفاظ على الأداء الطبيعى).
وكان اختيارًا موفقًا للطفل، واسمه بالصدفة عمر شريف، وكأنه يقدم له أملًا من خلال الاسم للوصول إلى تلك المكانة. كل شىء مصنوع بروح الطفل، واستطاع الموسيقار راجح داوود أن يحافظ بموسيقاه على تلك البساطة والمشاغبة الخفيفة، مثلما تمكن قبل 18 عامًا من تقديم موسيقى رائعة تعبر عن روح الطفولة فى فيلم (بحب السيما) للمخرج الراحل أسامة فوزى.
شخصية روبى كانت بحاجة إلى تعميق لرسم شخصيتها، روبى فنانة محيرة، تصل فى دور لذروة التألق والوهج، وفى آخر يخبو التألق وينطفئ الوهج، تركيبة خاصة جدًا، تحتاج إلى عين مخرج يضعها على (التراك) المضبوط، وهو ما لم يتوفر هذه المرة مع عمرو سلامة.
محاكمة الماضى الذى توارثناه تبدو فكرة عميقة وغنية وتفتح الباب أمام لمحات إبداعية أكثر رحابة مما شاهدناه.
الفيلم هُزم فى دور العرض، لديه مساحته فى الفضائيات، حيث إن الجمهور ربما أكثر حميمية فى تقبل الفكرة.
ويبقى أن أتوقف أمام عمرو سلامة، أحد أهم مخرجى الألفية الثالثة، أتابعه بشغف منذ أول أفلامه (زى النهارده) 2008، ثم (أسماء) و(لا مؤاخذة) و(صُنع فى مصر) و(الشيخ جاكسون)، وهى حصيلة جيدة، بمقياس هذا الزمن، لمخرج لم يبلغ بعد الأربعين، ولديه فعلًا منهج فى أفلامه، فهو يشاغب دائمًا (برا المنهج)!!.
التعليقات