هذا أول مقال أضع عنوانه قبل كتابته، فلقد كانت تجربة قاتلة وكاشفة في نفس الوقت.
كعادتي أذهب وأعود من القاهرة وإلى الإسكندرية، فلي أحبابي هنا وهناك. قررت أن أصطحب سيارتي معي، لطول فترة بقائي هذه المرة بالقاهرة.
أعاني منذ طفولتي من ضعف شديد في الإبصار، ترك الله لي هذه النعمة أتمتع بها، رغم سوء حالة عيني فإني لا أنسى أبدًا أن أرى بهما كل جميل. وهي لعمري نعمة من فيضه لا يوفيها شكر.
منذ زمن طويل وقت فقدان أعز صديقاتي بصرها رحمها الله، والمعاناة الشديدة التي عشناها سويا في تحدي الحياة بلا إبصار؛ عاهدت نفسي أن استمتع بما هو متاح لي من نعم وليس ما أرغب فيه.
الفرق بينهما لو تعلمون عظيم، هنالك يسكن الرضا قلبك فلا ينقصك شئ. نحن نكتمل بالرضا، هي النعمة الوحيدة التي تُجَمِل حياتك على نحوٍ لا تتوقعه. ودائمًا يَمُر الناس في حياتك لسبب.
تحركت من الإسكندرية عصرا، متناسية بصدق تمامًا حقيقة أني لا أستطيع القيادة ليلاً على الطرق السريعة.
بَدَت رحلة لطيفة جدًا استمتعت بصحبة ابنتي الجميلة وروحها الطيبة، موسيقى وأغاني، ضَحِك ومزاح، إلى أن دخل المغرب. نظرت إلى علامات الطريقة واكتشفت أن مازال لدي نصف الطريق لاقطعه في الظلام.
تحدثت لزوجي هاتفيا بأني سأتبعه كظله، فقد كان بسيارته أمامي.
رويدًا رويدًا بدأ الليل يدخل وتختفي معه معالم الطريق، فأخذت عيني تتعلق بفوانيس سيارة زوجي. أدركت ابنتي الصغرى بلطفها قلقي العنيف فأخذت تتحدث معي وأنا عاجزة تمام العجز عن الرد.
ثم أخذ الليل في الهبوط أكثر واختفت خيوط النور من على الطريق، شعرت لحظتها أني أقود سيارتي على سطح البحر.
اختفت الأرض تماما من تحت قدمي، وتقلص الطريق كله أمامي إلى فانوسي سيارة زوجي وخطّي الطريق الأبيض الباهت المتقطع.
هنا شعرت بالعجز التام، تجمدت يدي وعجزت عن تحريكها. فقدت قدرتي أيضا على استخدام المرايا الجانبية والوسطى. أصبحت كمن تُجَر سيارته بحبل.
انعزلت بكياني عن العالم الخارجي لساعة ونصف من الزمن مَروا عَلَيَّ كالدهر، لا أستطيع أن أتوقف، وغير قادرة على الإستمرار وأحبس أنفاسي حتى لا أُشتت.
تستطيع أن تغالب مصاعبك عندما تمتلك ترف الوقت لتفكر فيها. أما وأن هذا كان مستحيلا، فقد كان على أن أتحدى ضعفي بمنتهى الصرامة والقوة.
أقود وابنتي بجانبي ولا أخشى شئ سوى أن أؤذيها. لم استهن أبدا بالموقف لكنه خطأ في تقدير الوقت.
في النهاية وصلنا جميعا بالسلامة، فدائما الله لطيف بنا على نحو مُذهل.
هزني الموقف بشدة، فنحن لا نُقَدِّر أحيانا سوء إمكانياتنا إلا وقت سقوطنا في الفخ.
ليس عيبًا ألا تمتلك، العيب الوحيد أن تدعي أنك تستطيع وأنت أبعد ما تكون عن ذلك.
هذا يحدث لنا جميعًا كل يوم، وطوال الوقت.
اختبارنا الحقيقي دائمًا لا يأتي إلا ونحن غير مستعدون له. كلنا نرى أنفسنا بخير وعلى خير، فهل نحن كذلك؟
حياتنا ببساطة هي صور مختلفة لمثل هذا الموقف، كم شخصًا منا يستطيع أن يرى نفسه على حقيقتها؟ كم واحدًا تعرفه لا يضع نفسه في موضع يلومه عليه الآخرين؟ وكم إنسان منا يُقْدِّر إمكاناته، لا يتخطاها ولا يُلزم من حوله بالمزيد لأنه يرى نفسه يستحق؟ وأخيرا من منا يمتلك الرضا التام عن نفسه وعن نِعَمُه؟
تحديد قدراتنا بصدق هي في نظري أهم أسباب السعادة. لن تخدع سوى نفسك إذا قررت المُضي في طريق غير ممهد لا يناسب قدراتك.
كذلك هي الحياة!
لا فرق في السعادة بين البشر، كلنا مرزوقين.
قناعتك الشخصية أنك تنال وفقا لتقدير الله لك، هي ما يجعل القليل الذي بين يديك يكفي ويفيض.
تعامل الإنسان الجيد مع إمكانياته الحقيقية، يجعل مروره في الدنيا مريحًا، والحياة إلى جانبه آمنة.
لم أرغب يوما سوى في عطايا الله لي، فلقد اتخذتُ مما ينقصني مصدرًا للقوة وحافزًا مستديمًا للاستمرار.
لا تحتاج أكثر من إرادة جيدة لتأخذ مكانك الصحيح في الدنيا.
كل ما تحتاجه حقًا، هو أن تؤمن أن مصدر قوتك ينبعث مما أُخذ منك وليس ما حَصُلت عليه.
التعليقات