بيرجمان كان مخرجًا ملهمًا لأجيال متعددة، بل إن البعض يعتبره هو السينما كما ينبغى أن تكون السينما.. مخرجو (الموجة الجديدة) الفرنسية مثل جودار وتريفو وكلود شابرول قالوا في الستينيات إنه المرجعية لدستورهم الفكرى والبصرى، كما أن الأمريكى الشهير وودى آلان وصفه بأنه أهم مخرج في التاريخ.
حطم الحائط الرابع السينمائى وهو النظر للكاميرا، الممثل لا يتحدث للكاميرا التي تصبح في هذه الحالة هي عين المتفرج، بيرجمان أراد لممثليه أن يضعوا الكاميرا في مكانة القسيس الذي يعترفون أمامه بكل أخطائهم وخطاياهم، فكان الممثل هو الأهم وهو ينظر لعين عدسة الكاميرا ليبوح بكل شىء بلا خجل.
فيلم (جزيرة بيرجمان)، الذي عرض في (كان) داخل المسابقة الرسمية، ليس سردا لقصة حياته، ولكنه يتحرك في نفس المكان الذي عاش فيه بيرجمان العقود الأخير من سنوات عمره بجزيرة (فارو) بالقرب من السويد، فأصبحت تعرف باسمه، إخراج مياهانسن وهى أيضا كاتبة السيناريو..
يحكى الفيلم قصة زوجين يعملان في نفس المهنة يسافران للجزيرة من أجل الحصول على قدر من الإلهام فيختلط الواقع بالخيال، ويعيش كل منهما قصة واقعية بها ملامح من الأفكار التي يدونانها على الورق، الزوجان لعب دوريهما مياواسيكو وتيم روث. عندما رأيت الفيلم أعادنى إلى تلك الأيام التي قضيتها على نفس الجزيرة، عشت بالضبط الكثير من اللحظات، وعايشت من قبل الأماكن، وذلك في مثل تلك الأيام قبل ثلاث سنوات، عندما تلقيت دعوة عزيزة من سفارة السويد بالقاهرة، قالوا إنه تم اختيارى ضمن عدد محدود من النقاد يمثلون العالم للاحتفال بمئوية المخرج الأسطورى بيرجمان، قضيت نحو خمسة أيام في حضرة هذا المخرج الذي صور أهم أفلامه هناك، وأنشأ دار عرض صغيرة لا تزال محتفظة بنفس طقوسها، وتعرض أفلامه كما كان يشاهدها، كما عايشنا أماكن التصوير الواقعية التي قدمها في الأفلام، مثل (بيرسونا) و(العار)، حيث كنا نتابع الفيلم داخل دار العرض التي أقامها بعد معاينة أماكن التصوير الواقعية.
ولتلك الدار طقوس وضعها بيرجمان، والكل يلتزم بها، عليك أولًا أن تخلع نعليك قبل أن تدلف للسينما، المقاعد لا تتجاوز 30، بينها في الصف الأول مقعد في أقصى اليمين، أمامه مائدة صغيرة، وبه مخدة، إنه مكانه الأثير، غاب عنه 14 عاما، ولا يجرؤ أحد احتراما والتزاما أيضا على الجلوس سوى خلفه أو بجواره، كل التفاصيل التي أحبها احتفظوا بها، وهى أيضا ما استعادها الفيلم الجديد، كما هي في الواقع.. على الباب تنويه بالسويدية يطلب الحذر.. لا يمكن أن تدلف منه دون انحناء.. كل هذه التفاصيل تدخل من باب الاحترام لصاحب المقام السينمائى الرفيع.
يعشقون هذا المخرج الذي أضاء باسمه السينما السويدية في العالم ومنحها حضورًا، ولهذا احتفلوا بمرور 100 عام على ميلاده في 14 يوليو 1918، المركز السينمائى يحمل اسمه في السويد.. ميزانية مهرجان بيرجمان كانت محدودة، ولكن الدفء الذي يحيطون به الضيوف لا يعرف الحدود.
تستوقفك انحناءة الشاطئ واقعيا، وتتذكر مشهدًا من الفيلم النفسى (بيرسونا)، حتى الأماكن التي وُضعت فيها الكاميرا يستعيدونها مجددًا، وكأن الزمن توقف فقط عند بيرجمان، وهو ما شاهدته أيضًا على الشاشة وحرصت عليه المخرجة، لتدعم فيلمها بكل التفاصيل عن صاحب المقام الرفيع في السينما.
عشقَ بيرجمان تلك الجزيرة، فَدُفن في كنيستها طبقا لوصيته مع واحدة من زوجاته إنجريد بيرجمان، وهى طبعا غير النجمة الأمريكية الشهيرة السويدية الأصل أيضا، وهكذا بدأت الاحتفالية في الكنيسة (البروتستانية)، وقدموا عددا من الأغانى التي كان يحبها، وتوجهت أيضا كاميرا المخرجة إلى تلك الأماكن.
منح السينما السويدية خصوصية ولم تبهره هوليوود، صنع أفلامًا تُبهر هوليوود، كان من عشاق شارلى شابلن، في كل عيد ميلاد يمنح نفسه هدية، وهى مشاهدة الفيلم الصامت (السيرك)، وحتى نستعيد اللحظة، أعدنا معه- أقصد- في دار العرض التي تحمل اسمه مشاهدة الفيلم الذي أنعشنا مجددا.
أخرج للسينما 50 فيلما، وكان يعتبرها عشيقته، بينما المسرح الذي شهد انطلاقه فهو زوجته التي يعود إليها طالبا الصفح والسماح بعد كل غزوة سينمائية، أفلامه غلب عليها الأبيض والأسود وبلاغة التعبير بالإضاءة، ومنح ممثليه أفضل أدوارهم، فكان يعتصر بزاوية وحجم اللقطة تعبيرات ممثليه فتفيض على الشاشة.
من أهم معالم الرحلة زيارة لمنزل بيرجمان، وهو فعلا ما قام به أيضا بطلا الفيلم.. وفى البيت تتجسد أمامك شخصيته، وهو ما حرص عليه الفيلم، فلقد كان مثل الأطفال يكتب على الأبواب والحوائط أحيانا بعض لمحات عن أفلامه بتعبيرات تغلب عليها روح التلقائية، وفى الحمام كتب ساخرا: (إلى الجحيم).
(جزيرة بيرجمان) كشريط سينمائى افتقدت فيه السحر الذي تنضح به أفلامه، المخرجة وكاتبة السيناريو لم تقدم عنه سيرة ذاتية، ولكن حالة سينمائية موازية له، فيلمها يمر بك وكأنه مجرد زمن، حتى لو كنت شغوفا به، فهو ينتهى بمجرد نهايته على الشاشة.. بينما أفلام بيرجمان تكتشف أنها غادرت الشاشة لتسكن وجدانك!.
التعليقات