حرمه الله من نعمة البصر، وعوضه بنعمة البصيرة.. كان طُموحه بلا حدود، وكانت ثقته بنفسه تفوق كل الحدود، ولهذا أرسلته الجامعة المصرية لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة (مونبليه) بفرنسا.. وهناك قابلها..
قابل الإنسانة التي أعارته عينيها فرأي بهما الدنيا بأكملها، إذا عاني أعانته، وإذا مرض طببته، وإذا تحدث أنصتت إليه بنهم الظاميء إلي قطرة الماء، والمختنق إلي نسمة الهواء، ولذا وصفها ذات يوم بقلمه قائلاً:
كأنها نور الشمس التي سطعت في يوم مزهر بالربيع، فأجلت عن سماء المدينة كل ما علق بها من برد وغيوم وسحب كادت تركب بعضها إلي سموات سبع، وكأنها العصا السحرية التي لمست الأفق فهربت العاصفة وسكت الرعد والبرق.. وطلعت الطيور الملونة تغرد لي!!..
ان المتأمل للكلمات السابقة سوف يشعر أنه أمام صورة وصفيّة رائعة لا يقدر عليها إلا شخص أبصر الدنيا بعيون من أحب أو شخص أضاءت له البصيرة ظلمات البصر..... و ...وأحبها..
أحب (طه حسين) عينيه الباريسيتين (سوزان).. صارت سطور النور التي يقرأها بقلبه، والصوت الحاني الذي يقرأ له جميع المراجع الأدبية المتصلة برسالته الجامعية، صارت العذوبة التي يستقطرها من العذاب، والحس الذي يحتويه بالإحساس، وعنها يقول :
لقد كنت أسمع صوتها وهي تقرأ لي أو تتحدث إليَّ.. فأشغل بهذا الصوت مما كان يحمل إليَّ من الألفاظ.. عما كانت تدل عليه هذه الألفاظ من معانٍ.. ولو أن سائلاً سألني في وقت من هذه الأوقات عما سمعت أو عما وعيت.. لما استطعت أن أجيب إلا بأني سمعت أجمل الموسيقي وأعذبها.. ولو أن سائلاً سألني عما وعيته من هذه الموسيقي العذبة.. لما استطعت أن أجيب إلا بأني أحب مصدرها.. ولكن أحدًا لم يكن يسألني.. فلم أكن بحاجة إلي أن أجيب.. إنما كنت أسأل نفسي.. وأجيب عن نفسي.. وأغتبط بما كنت أجد من سعادة!..
العين تحكي
بعد رحيل (طه حسين) في 28 أكتوبر سنة 1973 قامت السيدة (سوزان طه حسين) بكتابة قصتها معه وأشيع أن الكاتب الصحفي أنيس منصور هو من قام بترجمته ، وقد صدر هذا الكتاب عام 1982 بعنوان (معك)، وفيه روت قصة اللقاء الأول بينهما وما تلاه من أحداث قائلة:
** أول مرة التقينا فيها كانت في 12 مايو 1915 في مونبليه (ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص). ولم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصُحبتي أن تتصور أمرًا مماثلاً. وكنت علي شيء من الحيرة، إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت (أعمي).. لقد عدت إليه أزوره بين الحين والآخر في غرفته التي كانت غرفة طالب جامعي، كنا نتحدث وكنت أقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسي. ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل. فقد كان هناك أعمي آخر ــ هو الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرسه اللغة اللاتينية ــ قد أدرك ذلك وقال له( سيدي، هذه الفتاة ستكون زوجتك).. كُنا في غمرة الحرب وكانت الجامعة المصريّة تتصل بمبعوثيها بصعوبة، كان نسف البواخر يزداد، واستُدعي المبعوثون إلي القاهرة. فيعود (طه) إلي مصر ويوشك أن يقع مريضًا لشدة ما كان تعسًا لعدم استطاعته مُتابعة دراسة كانت لا تزال في بدايتها، وأخيراً حصل مع آخرين علي إذن بالعودة في عام 1916..
كنا ــ أمي وأختي وأنا ــ قد أقمنا في باريس. وكُنا نلتقي ــ أنا وطه ــ وكان ثمة غرفة شاغرة في بيتنا، وكان يبدو مُهملاً، ضائعاً برغم حضور أخ له لم يكن للأسف مُعينًا له، وإنما كان مصدر همِ متواصلٍ واقترحت أمي علي (طه) المجيء للسكن عندنا، ووافق بعد تردد، لأنه ـ وهو الذي لا يوقفه شيء عند اتخاذه القرارات المهمة ــ كان شديد الخجل في الحياة اليوميّة، لم يقبل إطلاقًا أن يتناول وجباته معنا. كان ثمة قارئة تأتيه بانتظام، وكانت هناك سيدة أكبر في العُمر تصحبه إلي (السوربون).. لكني ــ شيئاً فشيئاً أخذت أتدخل في ذلك وأصحبه أنا الأخري إلي الجامعة من وقت إلي آخر حتي بت أصحبه غالبًا.. وكنت أقرأ له عندما يكون وحيدًا.. كُنا نتحدث بكثرة، وكان يحقق تقدمًا عظيمًا في اللغة الفرنسيّة.. وذات يوم قال لي:
-(اغفري لي، لابد من أن أقول لكِ ذلك، فأنا أحبك..) وصرخت ــ وقد أذهلتني المفاجأة ــ بفظاظة: -(ولكني لا أحبك!!..) كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة.. وقال (طه) بحزن بالغ:
آه.. إنني أعرف ذلك جيدًا، وأعرف جيدًا ــ كذلك ــ أنه مستحيل..
والقلب يعشق
ومرت بضعة شهور وأحست (سوزان) بأنها صَدمت (طه) بعد أن صارحها بحبه، أحست بحزنه البالغ وصمته البليغ وأحست معهما أنها أيضاً تحبه، وأنها لا تستطيع الابتعاد عن هذا الرجل الرائع، وجاء اليوم الذي صارحت فيه أهلها بأنها تريد الزواج من هذا الشاب، وجن جنون الجميع وسألوها في غضب ثائر وثورة غاضبة:
كيف تتزوجين من شاب أجنبي؟.. وأعمي؟.. وفوق ذلك كله مسلم؟!.. لا شك أنك جننت تماماً!!..
وتعلق (سوزان) في كتابها علي كلمات أهلها قائلة:
ربما كان الأمر جُنوناً، لكني كنت قد اخترت حياة رائعة، لقد قالت لي صديقة عزيزة ذات يوم: - لقد كان عليكِ أن تضطلعي بهذه الرسالة، لقد ملئت حياتك إلي أقصي حد!! ..
نعم، لقد ملئت حياتي إلي أقصي حد، كان (طه) قد قال لها:
- لعل ما بيننا يفوق الحب!!..
وتستطرد (سوزان) في سرد قصتها قائلة:
فيما يتعلق بي، كان هناك هذا الشيء الرائع.. الفخر واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل، ومن أنه ليس هناك علي الإطلاق أية فكرة مريبة أو بشعة أو منحطة يمكن أن تأتي لتحقر أو لتنقد الكائن الذي أقاسمه حياته.. آه!!.. كان لابد من النضال بالطبع بسبب ذلك القرار.. وجاءني أكبر عون من عم لي كنت أكنُ له إعجاباً عظيمًا، وكان هذا العم قساً.. وقد حضر ليتعرف علي (طه)، وتنزه معه وحيدًا في الحقول لمدة ساعتين ثم قال لي عند العودة:- بوسعك أن تنفذي ما عزمتِ عليه.. لا تخافي.. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلي ذلك سبيلاً، إنه سيتجاوزك باستمرار!!..
وأحب عم سوزان (طه) وبادله طه حبًا بحب واحتراماً باحترام، لكن الموت اختطف هذا العم بعد عدة سنوات قليلة من هذا اللقاء وظل (طه) يردد لسوزان حتي النهاية:
لقد كان عمك القس أحب رجل إلي نفسي..
وقد كتب إلي أم سوزان ينعيها قائلاً:
** كان مثلنا ودليلنا ومحل إعجابنا، كان يجعل كل شيء جميلاً، وكان يجعل كل شيء نبيلاً، لقد كانت الحياة تغدو بصُحبته فجأة.. حياة أرفع وأخصب..
والعقل يحلل
بعد كل ما تقدم من أحداث يتضح لنا أننا أمام قصة حب استثنائيّة فريدة بطلها شاب أزهري النشأة، مصري الجنسيّة، حاصل علي شهادة الدكتوراة من الجامعة المصريّة عن (تاريخ أبي العلاء المعري) بدرجة جيد جدًا، أرسلته الجامعة لإتمام دراسته بفرنسا ونال شهادة (الدكتوراة) من (السربون) بتفوق باهر وكان موضوع رسالته عن فلسفة (ابن خلدون الاجتماعيّة) ومنحته (الكوليج دي فرانس) جائزة (سنتور) المعروفة تقديرًا لتفوقه، وكان في الطرف الثاني من القصة فتاة شابة جميلة تقرر الزواج من ذلك الشاب (الأزهري المسلم) وهي (الفرنسيّة المسيحيّة) وتتمسك به وهو الضرير الذي لا يملك من متاع الدنيا إلا عِلمه وقلبه الذي أحبها وبضعة فرنكات ضئيلة ترسلها لها دولته لإكمال دراسته بالكاد.. ثم نري في تلك القصة ــ أيضاً علاقة صداقة وود متبادل بين قس وأزهري ــ عم سوزان وطه ــ وهي علاقة ثقة وسماحة دينية مفرطة لدرجة أن هذا (القس) نصح ابنة شقيقه بألا تترد في الزواج من هذا الأزهري المسلم الضرير..
إنها بداية مدهشة لقصة عجيبة لو لم تكن أحداثها حقيقية لاتهم القاريء كاتبها بالمبالغة في الخيال والجنوح في التفاؤل والانصراف عن الواقع المنطقي أو المنطق الواقعي للأحداث..
والجامعة توافق
في كتاب (الأيام) يستعرض د. طه حسين أهم العقبات التي واجهته لإتمام زواجه من (سوزان) فيقول عن لسان بطل القصة:
ولكن مشكلة خطيرة عرضت له، وكانت خليقة أن تفسد عليه أمره كله، ولم يكن بينها وبين الدرس صلة، فهو قد خطب تلك الفتاة إلي نفسها وإلي أسرتها، وقد قبلت الفتاة خطبته بعد تردد طويل، وقبلتها الأسرة بعد امتناع وإباء، ولكن صاحبنا لم ينس إلا شيئاً واحدًا، وهو أنه قد أعطي الجامعة قبل أن يسافر إلي أوروبا ذلك العهد الذي كان يعطيه أعضاء البعثة جميعًا قبل سفرهم ألا يتزوج في أثناء إقامته في الخارج طالب العلم.. وهو لم ينقض هذا العهد لأنه خطب ولم يتزوج ولكنه عجل إلي الزواج، فليس له بد إذن من استئذان الجامعة أو نقض العهد الذي أعطاه لها، وقد أزمع أن يستأذنها وكتب إليها في ذلك. ولكنه كان يطيل التفكير في عواقب هذا الكتاب، كان يرجح ألا تأذن له الجامعة، وكان يسأل نفسه فيطيل السؤال عما يكون من أمره إن رفضت الجامعة الإذن له فيما يريد، وكان ذلك ربما نغص عليه حياته من حين إلي حين..
وفي كتاب (ماذا يبقي من طه حسين؟) يقول الأستاذ سامح كريم):
كتب الدكتور (طه حسين) رسالة إلي الجامعة المصريّة القديمة تعد من أطرف الوثائق الموجودة بها، والتي نجتزيء منها هذه الفقرة التي يقول د. طه حسين فيها:
إنه بالنسبة إلي حالتي الطبيعية الخاصة التي تقتضي إشراك شخص آخر معي ليساعدني علي الدراسة، وبالنسبة إلي طول مدة إقامتي في فرنسا، وجدت في أسرة منها.. فتاة كانت قارئتي وكاتبتي.. وقد أخلصت لي الإخلاص كله. بحيث أصبحت لا أري بُدًا من مرافقتها، فألتمس من الجامعة التجاوز لي عن الشرط القاضي بعدم زواج الطلبة مدة دراستهم، والإذن لي بصفة استثنائية في الزواج...
وسُمِحَ لطه حسين بالزواج من الفتاة التي اختارها من بين فتيات أوروبا، وفضلته علي الآلاف من الشبان المبصرين.. وعاش الاثنان في منزل متواضع في الحي اللاتيني بباريس، وأصبحت (سوزان) الحاسة السادسة بالنسبة له، وأخذت تكافح معه كل حجب الظلام.. وعن ذكريات ليلة الزفاف تقول( سوزان) في كتابها:
تزوجنا يوم ٩ أغسطس 1917 ببساطة مطلقة، إلا أن الجميع أصروا علي أن ألبس ثوب الزفاف الأبيض وأن نركب العربة المقفلة، وكان في الشوارع جنود يقضون أجازاتهم القصيرة بعيدًا عن المعارك، ولم يكن منظر الزيجات آنذاك مألوفاً. فكيف يسعني أن أنسي نظرة المودة التي كان يتطلع بها إليَّ هؤلاء الجنود، كانوا يحيوننا ويهتفون: (تحيا العروس!!..) وكنت أقول لهم (شكرًا) وكانت تلك الكلمة هزيلة للغاية بالنسبة لأولئك الذين كانوا يعودون للجحيم وإلي الموت للكثير منهم، أولئك الذين بلغ بهم الكرم إلي حد أنهم كانوا يبتسمون لنا!!..
وفي مدينة (مونبليه) الفرنسية أنجبت (سوزان) ابنتها (أمينة) في الخامس من يونيه عام 1918 وبعد مولد (أمينة) بستة عشر شهرًا عاد (الثلاثة) إلي مصر لتبدأ مرحلة جديدة من حياتهم !!..
الثورة والثائر العنيد
بعد إندلاع ثورة 1919 بستة شهور تسلم (طه حسين) عمله في الجامعة المصريّة كأستاذ لمادة التاريخ القديم والروماني، وقرر (طه) أن يبدأ عمله بتدريس التاريخ اليوناني لتلاميذه وهو التاريخ الذي اعتبره الأساس الحقيقي لفهم تطور الفلسفات الحديثة وظل (طه) يعاني من هجوم معارضيه ما يقرب من ستة أعوام نتيجة لإصراره علي هذا المنهج، ثم اختارته الجامعة أستاذًا للأدب العربي بعد أن تحولت من جامعة أهلية إلي جامعة حكومية، وخلال حياته الجامعية لم ينقطع أبدًا عن كتابة مقالاته للصحف والمجلات وتولي الإشراف علي الصفحة الأدبية في جريدة (السياسة) عام 1922 ونشر بحثًا في الأدب العربي ضمنه الكثير من آرائه الجريئة وأعلن أن العصر الذي أعُلنت فيه نهاية (الدولة الأمويّة) وقامت من بعدها (الدولة العباسيّة) هو عصر (شك وعبث ومجون)، وأثار هذا البحث ثائرة رجال الأدب والفكر واتهموه بأنه اتبع المنهج (الديكارتي) في بحثه وبأنه يدعو إلي التشكيك في موروثاتنا الأدبية والفكرية، ولم يهتز (طه) أمام كل هذا، بل وزاد علي ذلك أنه كان أول المؤيدين للشيخ (علي عبدالرازق) عندما نشر كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي حاول أن يثبت فيه أن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام وقد أثار هذا الكتاب ضجة شديدة وقامت لجنة من العلماء بالتحقيق مع الشيخ (علي عبدالرازق) واتهموه بالإلحاد وأصدروا قرارًا بإخراجه من زمرة العلماء، فكتب (طه حسين) مقالاً عنيفًا في جريدة (السياسة) مُدافعاً عنه ومُهاجمًا لهذه اللجنة، ولم يمض عام علي ظهور هذا المقال إلا وأصدر د. طه حسين كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حتي الآن!!..
كان (طه) قد انتهي به البحث إلي أن الكثرة المطلقة مما نسميه بالشعر الجاهلي هو ــ في الواقع ــ لا ينتمي إليه بأية صورة، وإنما هي أشعار منتحلة ومؤلفة بعد ظهور الإسلام وأن ما بقي من الشعر الجاهلي لا يمثل شيئاً ولا يدل علي شيء ولا ينبغي أن يعتد به كدليل علي الصورة الأدبيّة الصحيحة لهذا العصر الجاهلي، وأن أكثر ما نقرؤه من شعر أمريء القيس وابن كلثوم وطرفه وعنترة ليس من هؤلاء في شيء، وإنما هو من اختراع واختلاق وتلفيق الرواة..
وواجه (طه حسين) هُجومًا عنيفًا نتيجة لنشر هذا الكتاب وانهالت البلاغات علي النائب العام تطالب بمحاكمته وتتهمه بالإلحاد وإزدراء الدين، وتم ـــ بالفعل ــ تحويله إلي النائب العام حيث قال مدافعاً عن نفسه:
إن الأدب يعتبر لدينا حتي اليوم علمًا تابعًا للدين فأي بلد في العالم يتهم في القرن العشرين بالإلحاد أستاذاً يريد أن يدرس الآداب ذاتها!!
وأصدرت المطابع عشرات الكتب التي شنت هُجومًا عنيفًا علي (طه حسين)، أشهرها : (تحت راية القرآن) لمصطفي صادق الرافعي و(الشهاب الراصد) لمحمد لطفي جمعة، و(نقد الشعر الجاهلي) لمحمد فريد وجدي، وتوجهت مظاهرة كبيرة إلي البرلمان تطالب برأس (طه حسين)، فخرج الزعيم (سعد زغلول) إلي المتظاهرين وخطب فيهم قائلاً:
إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها، هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟.. إن هذا الدين متين والذي لا شك فيه أن هذا الرجل ليس زعيماً ولا إمامًا حتي نخشي من شكه علي العامة، فليشك ما شاء.. ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟!..
في كتاب (معك) تحكي السيدة (سوزان طه حسين) أحداث تلك الفترة قائلة:
إن الهزات التي سببها كتاب (الشعر الجاهلي) قد أساءت وضعنا من جديد فالضجة التي اقترنت بهذا الكتاب، وثورة الجهل والتعصب التي أعقبت صدوره نعرفها جميعاً، أما ما لا نعرفه فهو ما كانته هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوي.. لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في يناير 1926، وأنجزه في مارس من العام نفسه، كان يعمل به في النهار ويحلم به في الليل مدفوعًا بحماسة بلغت به درجة أنه شرع فور إنجازه بتأليف كتاب عن (الديمقراطية)، لكن ما حدث له أرهقه. ولم يكن يفهم هذه الأحكام البليدة، وهذا التحيز الأخرق، وهذا الحقد الحاسد، وهذا الرياء، وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض أناس طيبين ضد إنسان شريف، وفي جره إلي المحكمة بعد أن صادروا كتابه، والحملات القاسيّة في الصحافة، والشتائم، والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة علي مدخل بيتنا أمام باب الحديقة خلال عدة أشهر، كل هذه الأحداث كانت تُذهله وتستثير ضميره العلمي وتؤلمه كثيراً.. وقد قلق فعلاً علي الطفلين عندما أرادوا أن يحرموه من مورد رزقه ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة!! ومع ذلك فقد احتمل كل شيء بصلابة ورأس مرفوع.. وعندما أُعْلِن ردُ الدعوي بعد ذلك بعدة شهور، لم يكن قد تراجع خطوة واحدة.. لم يقهر، ومن الممكن أن يظنه المرء حصينًا، لكنه لم يكن إلا شجاعًا رابط الجأش.
لم ينقذ عنق (طه حسين) من الفتك إلا رجاحة عقل النائب العام الذي مثل أمامه (طه حسين)، ففي المذكرة التي أعدها ذلك النائب المستنير نفي أن يكون المتهم قد تعدي علي الأديان بمقتضي مواد القانون قائلاً:
إن للمؤلف فضلاً لا ينكر في سلوكه طريقاً جديداً للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين ولكنه ــ لشدة تأثره مما أخذ عنهم ــ تورط في بحثه حتي تخيل حقاً ما ليس يحق أو ما لا يزال في حاجة إلي إثبات أنه حق، وأن المؤلف قد سلك طريقاً مظلماً فكان يجب أن يسير علي مهل وأن يحتاط في سيره حتي لا يضل، ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة، وحيث إنه اتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي علي الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث أنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوافر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريًا..
صدر هذا القرار بتاريخ 30 مارس عام 1927 لتنتهي بذلك قضية مثيرة من أكبر القضايا التي أثارها هذا الأديب الثائر، ولكي يتمكن (طه) من التغلب علي مرارته واستعادة صحته التي ساءت، صحبته (سوزان) إلي (فرنسا).. إلي قرية صغيرة في (السافوا العليا) وهناك.. كتب (طه حسين) خلال تسعة أيام فقط كتابه الخالد (الأيام)!!..
مبارزات وعواصف
في كتاب (ما بعد الأيام) يكمل د. محمد حسن الزيات تتابع الأحداث قائلاً:
وتستأنف الجامعة حياتها في خريف عام 1927، ويصمم أساتذة الكلية علي انتخاب (طه حسين) عميدًا لها في ذلك العام، ولكن تعيين مصري عميدًا كان أمرًا خطيرًا، وتعيين (طه حسين) عميدًا كان أمرًا خطرًا.. إن السفارات الأجنبية ترغب في الاحتفاظ بمناصب عمداء الكليات للأجانب، والإنجليز يعتبرون أنفسهم مسئولين عن حماية مصالح هؤلاء الأجانب!!..
وانتهت الانتخابات باختيار (طه حسين) عميدًا ورفعت النتيجة إلي وزير المعارف (علي الشمسي باشا) لإقرارها فدعي (طه) لمقابلته وأبلغه بما تواجهه الحكومة من حرج، وأبتسم (طه حسين) ابتسامة خفيفة وأبلغه بأنه لا يريد أن يتسبب للحكومة في هذا الحرج واتفق معه علي أن يقوم الوزير بإصدار قرار بتعيينه عميدًا للكلية بحيث يتسلم مقاليد منصبه لمدة يوم واحد فقط ثم يقوم بتقديم استقالته إليه، وبهذا تم تنفيذ الاتفاق بين الطرفين وعين الأستاذ الفرنسي (ميشو) عميدًا لكلية الآداب بعد استقالة (طه حسين) من منصبه كعميد للكلية.. وبانتهاء فترة العميد الفرنسي في منصبه تم انتخاب (طه حسين) من جديد عميدًا للكلية، ويتولي طه مقاليد منصبه كعميد، وفي عام 1923 يقرر رئيس الوزراء (صدقي باشا) أن يمنح (الدكتوراة الفخرية) من كلية الآداب لبعض السياسيين، ويقابل هذا القرار من (طه حسين) بالرفض، ويعبر عن هذا الرفض في لقائه مع وزير المعارف قائلاً:
يا باشا.. عميد كلية الآداب ليس عُمدة، تصدر إليه الأوامر من الوزير، أنا لا أوافق علي إعطاء الدكتوراة الفخرية لأحد، لمجرد أنه من الأعيان، لا أوافق ولا أستطيع حتي أن أعرض هذا الأمر علي مجلس الكلية لأن المجلس لن يوافق!!..
وغضب وزير المعارف من رد (طه حسين) غضباً شديداً وقال له:
ــ أنت لا تسمع الكلام.. سنري من منا سينفذ كلامه؟!..
وما هي إلا أيام قليلة إلا وكان (طه حسين) قد نُقل من الكلية إلي وزارة المعارف، ورفض (طه) العمل وكتب عدة مقالات شن فيها هجوماً عنيفاً علي الحكومة، واستغل (صدقي باشا) وأعوانه هذه المقالات في إثارة ضجة كبيرة، استطاعوا معها أن يعيدوا إلي الأذهان أزمة كتاب (في الشعر الجاهلي) مرة أخري وأوعزوا إلي الشيخ الظواهري (شيخ الأزهر) بأن يعلن إدانته لطه حسين من جديد، وقد كان..
فعلها شيخ الأزهر وأصدر (صدقي باشا) قراراً بفصل (طه حسين) من وزارة المعارف فقامت المظاهرات في كل أحياء القاهرة تطالب بعودته، وفي تلك الأثناء لزم (طه) بيته واقتصر نشاطه علي الكتابة في جريدة (السياسة اليومية) دون مُقابل مادي، وفي عام 1934 أعيد إلي الجامعة كأستاذ للأدب وبعد عامين أُعيد انتخابه عميدًا لكلية الآداب واستمر عميدًا لها ثلاثة أعوام، وعندما رفضت حكومة (محمد محمود باشا) إعادة تعيينه، اضطر إلي الاستقالة من العمادة والبقاء أستاذاً، ثم انتدب مُراقبًا للثقافة بوزارة المعارف واستمر في عمله حتي عام 1942 وهو العام الذي عاد فيه (الوفد) إلي الحكم حيث عينه وزير المعارف (أحمد نجيب الهلالي) مستشاراً فنياً للوزارة ثم أنُتدب مديرًا لجامعة الإسكندرية في العام نفسه وفي أكتوبر عام 1944 أحيل إلي التقاعد، وأراد رجال الصحافة تكريمه عام 1949 بانتخابه نقيبًا لهم لكن (القصر) هدد النقابة بحلها إذا تم هذا الانتخاب فاعتذر (طه) عن عدم قبول هذا الترشيح لكي يجنب النقابة الدخول في صدامات ومهاترات وظل بعيدًا عن مواقع المسئولية حتي عام 1950 حيث تفرغ للكتابة والإبداع..
طه حسين وسوزان برستو.jpg" />
العميد وزيرًا
ذات يوم كتب د. طه حسين يقول:
اللهم أشهد أني ما ذهبت قط إلي الجامعة أو إلي (وزارة المعارف) إلا كانت فكرة التعليم للجميع بالمجان ملء قلبي، وإلا ذكرت أني كنت سعيدًا حين تعلمت علي حساب الدولة، فمن الحق عليَّ أن أتيح بعض هذه السعادة لأكبر عدد ممكن من (شباب مصر) ولو استطعت لأتحتها لهم جميعاً!!..
ويقول الأستاذ (محمود شرف) في إحدي الدراسات التي كتبها عن (طه حسين):
عندما عرض (مصطفي النحاس باشا) علي (طه حسين) منصب (وزير المعارف) اشترط د. طه حسين شرطاً واحداً لقبول الوزارة وهو إصدار مرسوم ملكي بمجانية التعليم في الوقت نفسه الذي يصدر فيه مرسوم تعيينه وزيراً للمعارف. وكان هذا الشرط يمثل عقبة كبري أمام (النحاس باشا)، فقد كان يصعب عليه أن يقنع الملك بمجانية التعليم في ذلك الوقت القصير ولم يجد أمامه حلاً إلا أن أقسم للدكتور طه حسين بأن ينفذ له ما يريد لكن بعد أن تتولي الوزارة مهامها، وأكد له أنه مثله يؤمن بأن التعليم حق لكل مواطن وكان رد (طه حسين) أنه يوافق ولكن إذا لم ينفذ (النحاس) هذا القرار فسوف تكون استقالة (طه حسين) هي أول عمل يقدم إلي الحكومة..
وصار (طه) وزيرًا للمعارف ونفذ النحاس وعده وأُعلنت (مجانية التعليم الثانوي) خلفاً لمجانية التعليم الإبتدائي التي كانت قد أعلنت عام 1945 بإيعاز من (طه حسين) أيضاً، حيث كان (طه) وقتها مستشارًا فنياً لوزارة المعارف.. وفي عام 1952 ترك (طه) منصبه كوزير وتفرغ لكُتبه ومؤلفاته بعد أن أصبح العلم ــ علي يديه ــ كالماء والهواء مُتاحًا لكل أبناء مصر.. وبعد قيام الثورة كتب (طه حسين) يقول:
ما أشك في أن ثورتنا هذه القائمة ثورة أصيلة لا يكفيها أن تسقط حكومة وأن تنفي ملكاً وإنما سقوط الحكومة ونفي الملك عندها وسيلة لإصلاح أعمق وأشمل وأكمل في هذه الأحداث الأخيرة الخطيرة، الظاهرة التي يتحدث عنها الناس الآن في أقطار الأرض والتي سيتحدث عنها التاريخ فيحسن الحديث..
خطوط ورتوش
لا أظن أن صورة (العميد) سوف تكتمل إلا بإضافة بعض الخطوط والرتوش إليها، ولن يتم ذلك إلا بسرد بعض المواقف التي حدثت له مع من عاصروه وخالطوه وتابعوه ، ومنهم الأديب الراحل (عبدالمنعم شميس) الذي حاول أن يرسم بعضًا من ملامح العميد فقال:
من ملامح شخصية (طه حسين) أنه شديد الأناقة، وكان من أكبر أساتذة كلية الآداب اهتمامًا بزيه وإذا تتبعت حركته يخيل إليك أنه مُبصر، فقد كان يصعد السلالم إلي مكتب العميد وحده دون أن يتعثر، وكان مُنتصب القامة كالرمح وكان يحلق ذقنه ويسوي شاربه دون مُساعدة من أحد وكان يعرف كيف يشعل السيجارة دون أن يخطيء ويمسك بفنجان القهوة ويضعه مكانه ثم يتناوله بدقة بالغة، وقد كنت من تلاميذه بكلية الآداب وأذكر أنني ــ ذات يوم ــ ألقيت أمامه بحثاً عن (بشار بن برد) وأهملت مسألة عماه، ظنًا مني أنني أتجاوز بذلك الإحراج مع (طه حسين) فقال موجهًا كلامه لي في بداية تعليقه: أأشفق التلميذ علي أستاذه من عماه؟!.. فقد أهملت ذكر (عمي) بشار بن برد.. لماذا؟.. ورددت ردًا غير مقنع وقلت إن هذه مسألة ليست لها أهمية لأن العميان مُبصرون فيما يوصف لهم، فقال: أنت تعرف لأنك تبصر الأشياء، أما الذين لا يبصرون فيرون أشياء أخري، وتكلم عن العميان وإحساساتهم لمدة نصف ساعة!!..
كان (طه حسين) من أنصار المساواة بين المرأة والرجل، ففي يناير 1911 كتب (طه) في مجلة (الهداية) يقول:
( لا فرق بين المرأة والرجل في الحرية، وكلاهما مأمور بمكارم الأخلاق، منهي عن مساوئها، محظور عليه أن يتعرض لمظان الشبه. للمرأة أن تطرح النقاب وترفع الحجاب، وتتمتع بلذات الحياة كما يتمتع الرجل، وليس عليها إلا أن تقوم بما أخذت به من الواجب لنفسها وزوجها والنوع الإنساني كافة) ..
وكان أيضا مُحبًا للعدل الاجتماعي، مُطالباً به، حريصًا عليه، فهو الذي أهدي فصول كتابه (المعذبون في الأرض) إلي الذين يحرقهم الشوق إلي العدل، وإلي الذين يؤرقهم الخوف من العدل، وهو القائل مؤرخًا: كان للمطالبة بتحقيق العدل الاجتماعي أبطال من حقهم أن يدرسوا، ومن حقهم أن يلهموا الكتاب والشعراء.. وهو القائل ساخرًا في مقدمة روايته التي لم يتمها (ما وراء النهر):
ليست هذه القصة مصرية، لأن مكانها لا يوجد في أرض مصر، ولأن أشخاصها لا يعيشون في جو مصر، ولأن أحداثها لا تلائم طبائع المصريين، فأهل مصر كلهم أخيار أبرار، فلست تري بينهم قويًا يستذل ضعيفًا، ولا غنيًا يستذل فقيرًا، ولا ناعمًا يستطيل علي بائس، ولا سعيدًا يستخف بشقي!!..
وفي نفس المقدمة يدعو (طه حسين) القاريء إلي أن يستشف ما يريد أن يقول بين السطور قائلاً:
هذه القصة لا تحتمل القراءة السلبية وإنما تريد، بل لا تقوم إلا علي المشاركة الإيجابية بين الكاتب حين يرسم الخطوط، وبين القاريء حين يتم الرسم، ويملأ ما بين الخطوط من فراغ، لعله ترك عن إرادة وعمد!!..
طه وهيلين كيلر
في مطلع شهر يونيو 1952 تم اللقاء التاريخي بين الكاتبة الأمريكية (هيلين كيلر) وعميد الأدب العربي (طه حسين)، وكلاهما كان (ضريراً)، إلا أن (هيلين) كانت بالإضافة إلي ذلك (صماء وبكماء)، أي أنها كانت نموذجاً إنسانيًا وتطبيقًا حيًا للحكمة الصينية التي تقول (لا أسمع.. لا أري.. لا أتكلم) وكان اتصالها الوحيد بالعالم عن طريق سكرتيرتها التي كانت تترجم لها ما تراه وما تسمعه بالدق بأصابعها ما بين الإبهام والسبابة لكف (هيلين) اليسري.. وعن طريق لغة الأصابع تمكنت تلك الكاتبة العبقرية من أن تبهر العالم بمؤلفاتها: (قصة حياتي)، (تفاؤل)، (الدنيا التي أعيش فيها)، (أغنية الجدار الحجري)، (بعيدًا عن الظلام)، (إيماني)، (في منتصف التيار)، (الجزء الثاني من حياتي)، (الحب والسلام)، (هيلين كيلر في أسكتلندا) و(فلنؤمن).. وبعد ذيوع شهرتها قررت (هيلين) أن تطوف العالم لتدعو إلي معاونة مكفوفي البصر، وكانت (مصر) إحدي محطاتها، وكان (طه حسين) أبرز الذين حرصت علي لقائهم، فهو ــ أيضاً مثلها.. قهر الظلام وتحدي الإعاقة وتمرد علي العقليات السلفية ونادي بمجانية التعليم وحقق مكانة أدبية عالمية واحتل بعلمه منصب (وزارة المعارف) وعمادة الأدب العربي، وهكذا التقي الشرق والغرب فيهما، وكان عمره وقتئذ 62 عاماً، أما هي فكان عمرها 72 عاماً.. وفي بداية اللقاء مد (طه) يده إلي (هيلين).. مدها في اتجاه حركتها باستخدام بوصلة أذنيه اللتين لا تخطئان، وبحركة مترددة مدت (هيلين) أناملها إلي وجه (طه حسين) وراحت تتحسسه في نهم من تريد أن تتعرف علي صاحب هذه الملامح بنفسها.. تريد أن تحفر ملامحه في خيالها، وارتبك (طه حسين) مُبتسماً وسأل سكرتيرتها:
ـــ هل أضع النظارة.. أم.. و..
وردت عليه السكرتيرة هامسة:
لا اتركها كما هيّ، فهيّ إنما تتحسس كما يلمس الفراش زهرة ربيع.. إن مشاعر أناملها كالنسمة!!..
وتركها (طه) تفعل ما تريد ثم جلسا يُحدث كل منهما الآخر عن نفسه وعن أعماله وعن رسالته ويبدي كل منهما إعجابه بالآخر مُنبهرًا..
إنه لقاء يصعب تكراره بين قمتين شامختين قل أن يجود الزمان بمثلهما أبدًا..
طه الأسلوب والمكانة
من أجمل ما كُتب عن أسلوب (طه حسين) في تناول اللغة ما كتبه الدكتور (عبدالحميد إبراهيم) قائلاً:
لقد أدرك (طه حسين) سر اللغة العربية فكان تجسيداً لعبقريتها وإعجازاً من وجوه إعجازها.. إنه دائماً في خدمة اللفظ يخلق منه منمنمات لها حلاوة وعليها طلاوة، أو يرسم منه سجادة مزخرفة كتلك السجاجيد التي تملأ القصور والمساجد، أو يشيد منها (مشربية) ذات خروم ووحدات متكررة ومتماثلة، وهو يستثمر في كل ذلك الوسائل التقليدية للغة العربية، فما أعظم الدور الذي يلعبه البديع عنده وخاصة الجناس، وما أروع ذلك التركيب العربي الذي يصافح الأذن، وكأنه وقع أخفاف الإبل وهي تضرب في الصحراء، في ليل قمري، يدعو فيه الكروان، ويئز الجندب، وتتحرك ظلال الكثبان والقيعان والجلاميد، وكأنها جن أو هواتف ليليه، فيخيل للساري أن أصواتاً تصل إليه، وأن هذه الأصوات تملأ أرجاء المكان، وأنحاء الصحراء وأفكار نفسه.. لقد أنهت اللغة العربية إلي (طه حسين) بكل سرها اللفظي وبكل تاريخها الذي يعبر عن وجدان قومها، وبكل تراثها المصمغ بالألوان الحسية الواضحة، فحطت رحالها عنده، ووجدت فيه ابنها الذي ينطق عن جوهرها وإعجازها، ولكنه لم يسلمها كما استلمها، فأضاف إليها من ذات نفسه، وفجرها من داخلها، وجعلها تستجيب للمنجزات الحديثة، فلم تضق عنده عن خوالج النفس ولا عن الحركة التصويرية ولا عن النجوي الداخلية ولا عن لحظة المأساة، ولم تعجز عن أداء الحوار، حتي الدعابة التي كان يترخص بعض القدماء في إبرازها كما هي، يحتال لها (طه حسين) حتي يؤديها بالتراكيب الفصحي، دون أن تفقد حيويتها وقدرتها علي الإمتاع والضحك..
بعد تولي د. طه حسين لمنصب (وزير المعارف) علق أحد الأدباء العراقيين علي ذلك قائلاً:
** أية وزارة.. وأي منصب وأي لقب يرفع شأن طه حسين؟ إن لقبه الخالد ليس (صاحب المعالي) وإنما هو (صاحب الأيام)!!..
وبعدها بسنوات كتب الشاعر الراحل( نزاز قباني) قصيدة رائعة عن عميد الأديب العربي ،يقول في مقطع منها:
(ضوء عينيك.. أم هما نجمتان
كلهم لا يري.. وأنت تراني
إرم نظارتيك.. ما أنت أعمي
إنما نحن جوقة العميان
وحدك المبصر الذي كشف النفس
وأسري.. في عتمة الوجدان!!..)
طه حسين والمرأة
تقول د. زهيرة البيلي عن دور المرأة في حياة (طه حسين):
عندما نقترب أكثر من شخصية الدكتور( طه حسين) وخاصة الدور الذي لعبته المرأة في حياته، نقول إن السيدة (سوزان) زوجته لم تكن المرأة الأولي في حياته، ففي كتاب (الأيام) مثلاً تحدث عن (نفيسة) الفتاة الغريرة التي تبرز في كُتَّاب القرية كأقدر الفتيات علي الغناء والمدح، فكانت تلهي (طه حسين) أكثر وقته بأغانيها وأحاديثها وأقاصيصها فهي تعيش في نفس سجنه المظلم (كانت أيضاً ضريرة) ثم تحدث د. طه حسين عن زوجة مفتش الري الذي كان يذهب إلي بيته لتلاوة القرآن، فهو رجل في الأربعين وزوجته لم تتجاوز الرابعة عشرة، لذلك كانت تلهو مع (طه) فكان يذهب قبل الموعد بساعة ليفوز بالتحدث معها.. وفي (القاهرة) تعرف الدكتور (طه حسين) علي الكاتبة (ميَّ زيادة) بعد أن سمعها في إحدي الحفلات فاضطرب لصوتها وبات مستيقظًا له طوال الليل.. فلم يفهم حديثها إلا علي أنه بات أسيرًا لنغمته..
وفي كتاب (الذين أحبوا مي) يستعرض الشاعر( كامل الشناوي) وصف (طه حسين) لعزلة (مي) وإنطوائها في المرحلة الأخيرة من عمرها فيقول عن لسان (طه حسين):
كنت أريد أن أستنقذ (ميّ) من تشاؤم أبي العلاء كما كنت أريد أن أستنقذها من الإسراف في التأثر برجال الدين، ولكن أبا العلاء ورجال الدين كانوا أقوي مني ومن غيري أيضاً!!..
وربما كان أظهر شيء لزم حياة (مي) في هذا الطور من أطوارها حبها لحياة القدماء وآثارهم، وإلي حبها في قرارة التاريخ، وحرصها علي زيارة الآثار والوقوف أمامها صامتة مرة ومتحدثة إليها أو متحدثة عنها مرة أخري. وقد ألححت عليها غير مرة في الخروج من دارها للرياضة فكانت تتمنع وتأبي، ولكنها قالت لي ذات يوم:- إن كنت تريد أن أخرج فاصحبني إلي الهرم، فإني أحب أن أشهد هذه الآثار، وأن أقف موقف عبرة واتعاظ أمام أبي الهول.. وقد صحبتها إلي هذه الآثار غير مرة، وكانت أحاديثها عن الروح المصري القديم من أروع الأحاديث وأعمقها تأثيرًا في النفوس..
ويكمل الشاعر( كامل الشناوي) قصة (طه ومي) قائلاً:
قبل وفاتها اتصل الدكتور (طه) في التليفون، وطلب أن يلقاها فاعتذرت بأنها لم تعد تقابل إلا رجال الدين، فإذا أراد أن يقابلها فعليه أن يكون قسيساً، فضحك الدكتور (طه) وقال لها:
سيدتي يعز عليَّ ألا أراكِ، ويستحيل أن أكون قِسيسًا!!..
كل هذه العلاقات النسائية التي مرت في حياة (طه حسين) لم تكن علاقات مكتملة، كما أن معظمها ــ إن لم تكن كلها ــ لم ترق إلي مرتبة الحب الناضج باستثناء علاقته الرائعة بسوزان : زوجته وشريكة أحلامه وعينيه الباريستين اللتين رأي بهما العالم.. إنها صاحبة القصة الوحيدة في حياته!!..
رحيل الكروان
في السابع والعشرين من شهر أكتوبر 1973 شعر (العميد) بضيق في التنفس وعندما حضر إليه الطبيب كانت النوبة قد زالت، وفي تلك اللحظة وصلت برقية من الأمم المتحدة تعلنه فيها بأنه قد فاز بجائزة (حقوق الإنسان) وانتظاره في (نيويورك) في العاشر من ديسمبر لتسلم الجائزة، ولم يعلق العميد علي سطور تلك البرقية التي قرأها له الطبيب إلا بإشارة من يده.. وأعطاه الطبيب حقنة لتسكين الألم وخرج وبعد أن طمأن زوجته التي وجدت نفسها معه بمفردها، وتكمل (سوزان) تفاصيل النهاية قائلة:
كان يريد مني أن أجعله يستلقي علي ظهره، وكان ذلك مستحيلاً بسبب ظهره المسلخ. وأصُغي ــ وما أكثر ما يؤلمني ذلك ــ إلي صوته يتوسل إليَّ كصوت طفل صغير قائلاً: ألا تريدين؟.. ألا تريدين؟.. وبعد قليل قال: إنهم يريدون بي شرًا. هناك أناس أشرار.
وسألته باكية:
من الذي يريد بك الشر يا صغيري؟.. من هو الشرير؟..
كل الناس..
حتي أنا؟
لا.. ليس أنتِ..
ثم يقول بسخرية مريرة ذكرتني بسخريته في أيام مضت:
أية حماقة؟! هل يمكن أن نجعل من الأعمي قائد سفينة؟!..
من المؤكد أنه كان يستعيد في تلك اللحظة العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جوبه به، والهزء بل الشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتي يتمكنوا من الإدراك.. غير أنه لم يستمر، بل قال لي فقط، كعادته في كثير جدًا من الأحيان:
أعطني يدك..
وقبلها..
لليلة الأخيرة. ناداني عدة مرات، لكنه كان يناديني علي هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل، ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نمت ــ ولم أستيقظ ــ وهذه الذكري لن تكف عن تعذيبي..
وفي الساعة السادسة صباحًا جعلته يشرب قليلاً من الحليب، وتمتم بضع كلمات، ونزلت أعُد قهوتنا ثم صعدت ثانية ودنوت من سريره وناولته ملعقة من العسل بلعها.. وبدا لي بالغ الشحوب عندما استدرت إليه، لا تنفس ولا نبض، وجلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن.. كنا معاً.. وحيدين.. متقاربين بشكل يفوق الوصف، ولم أكن أبكي ــ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ــ ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث.. كان الواحد منا قِبَل الآخر.. مجهولاً ومتوحدًا، كما كنا في بداية طريقنا.. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الأُلفة الحميمة القصوي، أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التي كثيرًا ما أحببتها، تلك الجبهة التي كانت من النبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أي غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها..
جبهة كانت لا تزال تشع نورًا..
ــ آه يا صديقي.. يا صديقي الحبيب!!..
مصادر البحث :
1- الأيام : طه حسين (3 أجزاء)
2- معك: سوزان طه حسين .
3- مع طه حسين : سامي الكيلاني .
4- ماذا يبقي من طه حسين : سامح كريم .
5- مابعد الأيام : محمد حسن الزيات .
6- قاهر الظلام : كمال الملاخ .
7- الذين أحبوا مي: كامل الشناوي .
التعليقات