صدرت دراسة جديدة في كتاب للزميل د. محمد يونس بعنوان "حماية البيئة في الفكر الإسلامي"، ووقعه المؤلف في معرض الشارقة للكتاب، يوضح الكتاب - الصادر عن دار هماليل بأبو ظبي- أن الفكر الإسلامي يربط حماية البيئة بدور الفرد ومسؤوليته التي هي الضمان الأفضل في علاج قضايا البيئة، بحيث يتحول من كونه جزء من المشكلة إلى جزء من الحل.
ويبين انه في تناول ملامح التصور الإسلامي لعلاج قضايا البيئة وأهمية حمايتها، لسنا بصدد مجرد تسجيل سبق علماء المسلمين في هذا الميدان، وإنما بصدد التوعية برؤية حضارية شاملة يطرحها الفكر الإسلامي ليس فقط للمسلمين وإنما للبشرية جمعاء، لا تقتصر على مدخل بعينه مثل المدخل التشريعي وإنما تقدم أكثر من زاوية لعلاج هذه القضية تركز على الإنسان وتراهن على مسؤوليته ووعيه ودوره ومشاركته في الحل وهو ما انتبهت إليه مؤخرا المنظمات الدولية المعنية من خلال التركيز على هذا المدخل عبر تنظيم احتفالات وتخصيص أيام سنوية للتوعية بقضايا البيئة وحث الأفراد ودعوتهم إلى المساهمة في مواجهة هذه القضية وإقناعهم لكي يتحولوا من كونهم جزء من المشكلة إلى أن يصبحوا جزءا من الحل.
وفي هذا السياق صدرت منذ بدايات القرن الماضي وحتى اليوم العديد التشريعات المحلية والمواثيق الدولية بشأن الحفاظ على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة، ولكن كل ذلك لم يوقف مسلسل التعدي على عناصر البيئة البرية والبحرية، ولم يوقف جموح النمط الاستهلاكي للفرد ، الذ هو في الواقع ضحية وهدف للترويج لهذا النمط الاستهلاكي عالميا، مما يتطلب البحث عن مداخل أخرى لعلاج قضايا البيئة، ترتبط بضمير الإنسان وعقيدته، ويأتي تفعيل دور الدين وبخاصة الإسلام في مقدمة هذه المداخل.
ويوضح المؤلف د. محمد يونس في هذا الكتاب أن الرؤية الإسلامية إزاء هذه القضية، تجسد في مجملها منهجا شاملا لعلاج هذه المشكلة، حيث يربط هذا المنهج العناية بالبيئة وحمايتها من التلوث بعقيدة الإنسان من جهة ويدعوه إلى التعامل الراشد مع الموارد الطبيعية من خلال تحقيق التنمية المستدامة في إطار وظيفته في إعمار الأرض، ويتضمن التشريعات الرادعة من جهة ثانية، ويقدم النموذج الذي يحتذي في الحماية الشاملة والمباشرة للبيئة من جهة ثالثة.
وهذا ما يتناوله هذا الكتاب في ستة فصول، يعرض الفصل الأول لمفهوم البيئة ومكوناتها و أبرز مشكلاتها ومظاهر الاهتمام العالمي بهذه القضية .ويتناول الفصل الثاني قضية تلوث البيئة بمختلف أبعادها، ويعرض الفصل الثالث لمفهوم البيئة في الفكر الإسلامي.
ويستعرض الفصل الرابع قضية التوازن البيئي والتنمية المستدامة من المنظور الإسلامي،ويخصص الفصل الخامس لمصادر ووسائل المنهج الإسلامي في حماية البيئة من التلوث والحفاظ على المصادر الطبيعية. ويعرض الفصل السادس والأخير لجهود حماية البيئة في العالم الإسلامي على المستوى الدولي مع دراسة متعمقة لجهود حماية البيئة على المستوى المحلي في إحدى بلدان العالم الإسلامي وهي دولة الإمارات العربية المتحدة التي تقوم بجهود متميزة في الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث أهلتها لاستضافة المقر الرئيسي للأمانة العامة للوكالة الدولية للطاقة المتجددة "أيرينا"، وهذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها وكالة دولية باختيار مدينة في منطقة الشرق الأوسط كمقر لها.
ويوضح الكتاب أن المنهج الإسلامي لعلاج قضايا البيئة ثلاثة مداخل رئيسية هي: أولا : ربط الحفاظ على البيئة بالعقيدة الإسلامية وثانيا التدخل التشريعي لعقاب المتعدين على البيئة. وثالثا تحديد محميات طبيعية للحفاظ على عناصر البيئة.
ففي المدخل الأول يربط الإسلام قضايا البيئة بالعقيدة، حيث يعتبر أن حماية البيئة من التلوث شعبة من شعب الإيمان ، يجسد ذلك الحديث النبوي الذي رواة أبو هريرة عن النبي صلى الله علية وسلم قال : " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة : فأفضلها قول لا اله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من شعب الإيمان "
ولاشك أن إماطة الأذى عن الطريق يعنى مواجهة تلوث البيئة بكل أشكاله وتظهير البيئة التي يعيش فيها المسلم من كل ألوان النجاسات.
وقد دعا الإسلام إلى الحفاظ على المصادر الطبيعية ، وفى مقدمتها المياه، وحث على حمايتها من التلوث انسجاماً مع هذه الطهارة، فقد ورد ذكر الماء فى أكثر من 60 موضعا بالقرآن الكريم وقد وصفه تعالى بأنه طهورا أى طاهر فى ذاته ومطهر لغيره، ومن ثم يجب أن يحافظ الناس على هذه الطهارة.
كما أن الحفاظ على الأرض ورعايتها وإعمارها بالحسنى من بين التعاليم التي جاء بها الإسلام، فقد وردت كلمة الأرض قد فى نحو 500 موضعا بالقرآن الكريم.
ولمواجهة تلوث البيئة يطرح المنهج الإسلامي مفهوم الطهارة ، وهذا المفهوم يغطى الاحتياجات الخاصة بالنظافة ، بالاضافة الى جملة اشتراطات اخرى تؤهل البيئة وعناصرها لاداء مهام محددة تتعلق بحيات الانسان الدينية والدنيوية -و مادة الطهارة واشتقاقاتها المختلفة قد وردت فى 31 موضعا بالقران الكريم .
وتحتل الطهارة مرتبة متقدمة فى الفكر الاسلامى تصل الى انها تمثل نصف الايمان كما يشير الى ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (الطهور شطر الإيمان) نظراً لإشتراطه لصحة الصلاة التى هى عماد الدين .
وهذه الطهارة التى هى نصف الإيمان تعد مبدأ من المبادئ الأساسية فى الإسلام تمتد بطول حياة المسلم وعرضها وتحيطه فى نفسه ومكانه وبيئته ومن ثم تكون الطهارة هى المقابل والمواجه للتلوث على مختلف المستويات، فقد خلق الله ــ عزو جل ـــ العالم وأحاطه بالجمال ، وعلى البشر أن يعكسوا ذلك الجمال من خلال الطهارة والنظافة ومن ثم مواجهة التلوث ، وصدق المصطفى حيث قال (إن الله جميل يحب الجمال) .
وتبدأ مواجهة تلوث البيئة من داخل الإنسان نفسه الذى يطلب الإٍسلام منه أن يكون نظيفاً فى ذاته وبدنه ، فالرسول الله ــ صلى الله عليه وسلم يقول (تنظفوا فإن الإسلام نظيف)
كما حث الإسلام على نظافة المكان الذى يعيش فيه المسلم - فيقول المصطفى ــ صلى الله عليه وسلم : (إن الله طيب يحب الطيب، جواد يحب الجود، كريم يحب الكرم، نظيف يحب النظافة، فتنظفوا أفنيتكم ولا تشبهو اليهود) رواه الترمذى .
وتشمل نظافة المكان ــ بالإضافة للبيوت ـــ الأسواق والمساجد المنتديات أو غيرها من الأماكن التى يقيم فيها الإنسان ، كما يحث الإسلام بصفة عامة على نظافة الأرض وحمايتها من التلوث، فقد جعل نظافة المكان شرطا اساسيا للأرض التى تؤدى عليها الصلاة.
اما المدخل الثاني لمعالجة هذه القضية من المنظور الإسلامي هو التشريع الوقائي الذى يتمثل فى منع الاعتداء على البيئة، وفى الوقت نفسه يربى المسلم على أن يكون ضميره هو العاصم من حدوث أى افساد أو تلويث فالمسلم يمتنع بوازع من ضميره عن إحداث أى اذى بأى عنصر من عناصر البيئة.
ولذا فإن الالتزام بتعاليم الإسلام تجعل الانسان لا يحتاج إلى رقابة خارجية لكى يمتنع من تجويف الاراضى الزراعية أو الاسراف فى استخدام الكيماويات التى تضر بالانسان أو الحيوان أو الغلاف الجوى.
وحرص الفقه الإسلامي على ترجمة النصوص الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية إلى أحكام تتعامل مع البيئة بشكل يؤدى إلى الارتقاء بها والاستفادة منها بأفضل صورة ممكنة، فعلى سبيل المثال نجد أن من أحكام الفقه الإسلامي تحرم الإسراف في استخدام المياه حتى في حالة الوضوء للصلاة، هذا مثال دقيق يقدمه الاسلام لضرورة الحفاظ على عنصر من أهم عناصر البيئة .
ويعد هذا التحريم للإسراف في استخدام المياه أول درجات التعامل التشريعي الإسلامي مع قضية البيئة، حيث يمكن أن يطلق عليه الأسلوب الوقائي الذي يحقق الردع الذاتي من جانب المسلم تجاه أي محاولة لاستنزاف المصادر الطبيعية أو الإسراف في استهلاكها .
ثم يتدرج هذا التدخل التشريعي إلى مستوى أشد في الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث، ويتمثل في منع جميع ملوثات المياه أو إزالتها حتى لو كانت هذه الملوثات من مساجد.
ووردت العددي من الأحاديث التي تحث على الحفاظ على الحيوانات وحسن معاملتها والتي تنهى عن قتلها لغير منفعة مرجوة، لأن هذه الحيوانات مسخرة للإنسان لفائدته، وفى نفس الوقت خلقها الله لتؤدى وظيفتها في الحياة إلى جانب الإنسان، ومن الأحاديث التي وردت في حماية الحيوانات قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن نملة قد قرصت نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" (البخاري)
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن تصبر البهائم " . (البخاري)
ويقول صلى الله عليه وسلم : " إن امرأة بغيا رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها ". (البخاري)
ثم يصل التدرج التشريعي الإسلامي إلى أعلى درجة وهو توقيع عقوبات رادعة على كل من يلوث البيئة أو يعتدي عليها، بدءاً من تدخين السجائر وحتى دخان المصانع ومروراً بكل أنواع الملوثات الأخرى ما دامت تلحق ضرراً بالإنسان، حيث أن القاعدة الفقهية التي يعتمد عليها هنا هي " لا ضرر ولا ضرار " .
أما المدخل الثالث التي يعتمد عليها المنهج الإسلامي في الحفاظ على البيئة وحمايتها من أي تعدى عليها، فهي تحديد مناطق معينة لتكون نموذجا لما سمي فيما بعد بالمحميات الطبيعية لكي يحتذي به العالم في الحفاظ على الحياة البرية . ولدينا منطقتين من هذه النوعية، هما مكة المكرمة والمدينة المنورة.
فقد حرم الإسلام التعدي على الحياة البرية في مكة المكرمة حيث يقول تعالى: "أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً" (المائدة:96)
وقد وضع القرآن الكريم التشريع الملائم للحفاظ على الحياة البرية في مكة المكرمة، حيث يقول تعالى :
" يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام " (المائدة : آية 95)
ومن المعروف أنه يحرم على إنسان محرم أو غير محرم صيد الحرم وتنفيره وقطع شجره الطبيعي .
ولكل منطقة من هاتين المنطقتين (مكة والمدينة) حدود معينة تحدد أبعادها، وهذا ما أخذ به العالم في العصر الحديث من حيث تحديد حدود معينة للمحميات الطبيعية للحفاظ على عناصر الحياة بها .
التعليقات