الحياء خُلُقٌ يتكوّن في الإنسان كأنه ستارٌ لطيف بينه وبين ما يجرح كرامته أو يفسد جمال روحه، وهو ليس مجرد خجلٍ من الناس ولا خوفٍ من اللوم، بل إحساسٌ داخليّ يوقظ في المرء معنى “لا يليق بي” و “لا يليق بالآخرين أن أؤذيهم أو أكشف سترهم أو أبتذل ما ينبغي صونه". فحين يقترب الإنسان من قولٍ جارح أو فعلٍ فاضح أو تجاوزٍ للحدود، يشعر بانقباضٍ رقيق لا يُشبه الرهبة القاسية ولا ذعر الخوف، وإنما يُشبه يقظة الضمير وهي تقول له: قف هنا، فهذه منطقة تمسّ شرفك أو تمسّ حرمة غيرك. ومن هنا ندرك أن الحياء في جوهره علاقةٌ بين الإنسان وقيمه، ثم بينه وبين صورة نفسه التي يريد أن يلقى بها ربّه ويلقى بها الناس ويلقى بها نفسه حين يخلو إليها.
وفي خضمّ عالمٍ ماديّ تتقاذفه الصور الظاهرية وتسيطر عليه الرغبة في التحرر من كل قيد، يعود بنا القرآن الكريم بهدوءٍ ليضع "الحياء" في قمة الهرم القيمي، معتبرًا إياه معيارًا للوجود الإنساني السويّ لا مجرد خصلة هامشية. وعندما نتأمل هذا المفهوم بعين علم النفس الحديث وبصيرة الوحي، نكتشف أن الحياء ليس خجلًا أو انطواءً، بل هو "منظومة ضبط داخلي" تحمي جوهر الإنسان، وهو ما تجلى في أبلغ صوره حين وقفت السيدة مريم العذراء -عليها السلام- أمام أصعب اختباراتها، مطلقة صرختها الخالدة: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾.
إن التحليل النفسي لهذه اللحظة الفارقة لا يقرأ فيها يأسًا من رحمة الله، بل يرى فيها تعبيرًا عن أقصى درجات "الضغط النفسي الأخلاقي"؛ فمريم الصدّيقة كانت تخبر نساء العالمين ضمنيًا أن الشرف والحياء ليسا مجرد كلمات، بل هما "هوية" تلتصق بالروح، وأن خدش هذا الحياء كان في ميزانها النفسي أشد وطأة من الموت والفناء. هنا تتجلى عظمة النفس السوية التي تضع قيمها الأخلاقية فوق غريزة البقاء البيولوجية، معلنةً أن الحياة بلا شرف لا تستحق أن تُعاش.
يتكوّن الحياء في النفس عبر تداخل أمورٍ عديدة، أولها أن يتشكّل لدى الإنسان معيارٌ واضح لما هو حسن وما هو قبيح، لأن من لا يملك معياراً لا يملك حياءً مستقراً، بل يملك تقلباً بحسب الجوّ المحيط. ثم تتكوّن صورة الذات والكرامة؛ فالإنسان يستحي حين يشعر أن فعلاً ما يُنقص قدره الداخلي أو يُشوّه اتساقه مع ما يؤمن به، وهذا ما يجعل الحياء أعمق من مجرد تجنب الفضيحة. ويأتي بعد ذلك عنصر التعاطف؛ فكلما كان المرء أقدر على إدراك أثر كلمته ونظرته وتصرفه على مشاعر الآخرين وخصوصياتهم، ازداد حياؤه؛ لأنه يفهم أن الاقتحام نوعٌ من الأذى ولو لم يكن ضرباً ولا شتماً. ثم تأتي التربية والبيئة والقدوة، وهي ليست مجرد أوامر ونواهٍ، بل هي تدريب يومي على الحدود: كيف يُستأذن، كيف تُحفظ الأسرار، كيف تُصان العورات، كيف يُختار اللفظ، كيف يُراعى المجلس. ومع الزمن يتحول الضبط من رقابة خارجية إلى رقابة داخلية، فيصبح الحياء ملكةً لا تحتاج إلى صخبٍ ولا إلى استعراض، بل تعمل بصمت.
وتتوزع دوافع الحياء بين دوافع داخلية وأخرى اجتماعية، غير أن القيمة الحقيقية له تظهر حين يكون الداخل هو الأصل. فمن دوافعه الداخلية حفظ الكرامة، والرغبة في الطهارة النفسية، والنفور من الابتذال، والشعور بالمسؤولية الأخلاقية، ثم ما هو أرفع من ذلك عند من آمن بالله: أن يستحي من ربه، أي أن يستحي أن يراه حيث نهاه أو يفتقده حيث أمره، وهذا يعطي الحياء عمقاً لا يحدّه وجود الناس أو غيابهم. أما الدافع الاجتماعي فهو مراعاة السمعة والخوف من اللوم والحرص على قبول الجماعة، وهذا قد يكون نافعاً في منع بعض الفوضى، لكنه إذا انفرد صار حياءً هشاً يتبدل بتبدل الجمهور، وقد ينقلب إلى نفاقٍ أو ازدواجية: يظهر الإنسان شيئاً ويخفي نقيضه.
ونعود إلى الخيط النوراني في القرآن الكريم ليأخذنا هذه المرة إلى مشهد آخر في مدين، حيث أراد الله أن يصف الفتاة التي ستكون زوجًا لنبي، فلم يتطرق وصفه جل جلاله لطولها أو لونها أو ملامح وجهها، بل اختزل جمالها كله في سلوك حركي واحد يحمل دلالات نفسية عميقة: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾. كانت تلك المشية رسالة واضحة المعنى، ففي علم النفس السلوكي، تُعد "لغة الجسد" المرآة الأصدق لما في الداخل. مشيتها لم تكن مجرد حركة، بل كانت رسالة صامتة تخبر عن نفسٍ مطمئنة، مترفعة، وعفيفة. هذا "الاستحياء" هو ما أسر موسى -الرجل القوي الأمين- لدرجة أنه قبل أن ينفق عشر سنوات من عمره في العمل الشاق مهرًا لها. لقد أدرك بفطرته السليمة أن الجمال الجسدي يبلى، لكن جمال الروح المتدثرة بالحياء هو العملة النادرة التي تستحق أن يُفنى العمر في سبيلها.
إن الربط بين المشهدين يقودنا إلى الحقيقة التي صاغها النبي ﷺ فيما روي عنه: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت". وعلم النفس يخبرنا أن غياب الشعور بالخجل أو الحياء يؤدي إلى انهيار الحواجز النفسية التي تمنع الإنسان من الانحراف. فالحياء هو "الأنا العليا" التي تراقب تصرفاتنا. وحين نفتقده في زماننا هذا، فإننا لا نفقد مجرد عادة اجتماعية، بل نفقد "المناعة النفسية" التي تحفظ للمجتمعات تماسكها وللأفراد إنسانيتهم.
ويظهر الحياء في حياتنا حقيقة على هيئة سلوكيات دقيقة أكثر مما يظهر في هيئة ادعاءات كبيرة. يظهر في اللسان حين يمسك الإنسان عن الفحش والغيبة والسخرية، وفي الجسد حين يصون ما ينبغي صونه ويحفظ الخصوصية ولا يتساهل في كشف ما يجرح الحرمات، ويظهر في العلاقة مع الناس حين لا يحرجهم ولا يقتحم مساحتهم ولا يفتش في أسرارهم ولا يفضح زلاتهم، بل يختار الستر والرفق. ويظهر أيضاً في تحمل المسؤولية؛ فثمة حياءٌ من التقصير في الأمانة، وحياءٌ من أكل الحق، وحياءٌ من الغش، وحياءٌ من الكذب، وكأن الإنسان يخجل من نفسه أن تكون صغيرة أمام امتحانٍ كبير. وهذا النوع من الحياء هو الذي يصنع الاستقامة العملية لا مجرد المظهر.
أما نتائجه على الفرد فهي عميقة ومتعددة؛ لأنه يعمل كميزانٍ نفسي يضبط الاندفاع ويمنع التورط فيما يجرّ الندم. الإنسان الحيي غالباً أقدر على حفظ حدوده وحفظ حدود الآخرين، فيعيش علاقاتٍ أكثر أمناً وأقل صداماً، ويملك وقاراً يجعل حضوره محترماً دون أن يكون متكبراً. كما أن الحياء يحمي صاحبه من التدرّج في القبح؛ لأن من فقد الحياء عادةً لا يسقط فجأة، بل يعتاد خطوة بعد خطوة حتى يصبح ما كان يرفضه مألوفاً. وفي المقابل، إذا اختل الحياء أو تضخم وانحرف عن مساره، قد يتحول إلى خجلٍ مُعطِّل يجعل الإنسان عاجزاً عن طلب حقه، أو قول الحق، أو التعلم، أو المبادرة، وقد يصبح ستاراً للجبن أو القبول بالظلم. لهذا كان الحياء فضيلة تحتاج توازناً: أن يمنع من القبيح دون أن يمنع من الحق، وأن يرشد إلى الأدب دون أن يصنع انكساراً مرضياً.
وعلى مستوى المجتمع، الحياء يشتغل كقانونٍ غير مكتوب يخفف احتكاك الناس ويقلل أذى الألسنة وانتهاك الخصوصيات، ويرفع منسوب الثقة العامة؛ لأن الناس يأمنون من يحفظ الحدود ويصون الحرمات. والمجتمع الذي يملك حياءً متوازناً تكون لغته ألطف، ومساحته العامة أقل ابتذالاً، وتكون الروابط فيه أمتن لأن الأفراد لا يسهّلون الفضح ولا يطبعون أنفسهم على القسوة. وإذا ضعف الحياء اجتماعياً ظهرت مظاهر التطبيع مع الفحش، وتراجعت الهيبة الأدبية للفضاء العام، وكثرت جرأة البعض على الأذى، وصار احترام الإنسان لنفسه ولغيره أقل حضوراً، حتى لو بقي القانون المكتوب قائماً.
إذن فالحياء ليس ضعفًا ولا انطواءً، بل هو قوة نفسية هائلة جعلت مريم تفضل الموت على أن يُمس، وجعلت موسى يبذل سنوات طويلة من عمره ليظفر بمن تحلت به.
ويبدو أن هناك علاقة متينة بين الحياء كخلق وبين الصدق بجميع طبقاته ومستوياته، نعم، فالحياء يرتبط بالصدق ارتباطاً وثيقاً، لأن الحياء في جوهره لا يعيش إلا في بيئةٍ داخلية تتغذى على الصدق، والصدق بدوره لا يستقر ويستمر إلا إذا كان في النفس حياءٌ يردعها عن التزييف ويصونها من الاستسهال. العلاقة بينهما ليست مجرد تلازم أخلاقي عام، بل هي علاقة “آلية” في النفس: الحياء يوقظ حسّ الانسجام الداخلي، والصدق هو مضمون هذا الانسجام. فإذا ضَعُف الصدق اضطرب الحياء، وإذا مات الحياء تساهل الإنسان في طبقاتٍ من الكذب قد لا تبدأ بالكذب الصريح، لكنها تنتهي إليه.
فحين يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، يتكوّن داخله معيار واضح لما يليق وما لا يليق، ويصبح لديه إحساس حاد بالتناقض إذا قال شيئاً لا يؤمن به أو فعل شيئاً يخالف قيمه. هذا الإحساس بالتناقض هو مادة الحياء الأولى؛ لأن الحياء ليس شعوراً عائماً، بل هو انقباضٌ عند الاقتراب من مخالفة ما يراه المرء حقاً. أما إذا تعوّد الإنسان أن يبرّر لنفسه وأن يلوّن الحقائق وأن يخفف ثقل الخطأ بالتسميات، فإن هذا “الكذب الداخلي” يرخّي ذلك الانقباض تدريجياً. بعبارة أخرى، الصدق مع النفس يصنع حياءً من الداخل، والكذب على النفس يُميت هذا الحياء من الداخل قبل أن يظهر أثره في الخارج.
ثم يأتي الصدق في القول، وهو أقرب مظاهر الصدق إلى الناس. الحياء هنا يعمل كحارسٍ للسان: يستحي الإنسان أن يُعرَف بالكذب، ويستحي أن يُوقع غيره في الوهم، ويستحي أن يقطع ثقةً بُنيت بسنوات في لحظة تزوير. لكن الأعمق من ذلك أن الحياء يمنع ما هو أوسع من “الكذب المباشر”، فهو يمنع المراوغة المذمومة، وإخفاء ما يلزم بيانه، وتقديم نصف الحقيقة على أنها كل الحقيقة، واستعمال العبارات التي تضلّل السامع دون أن تنطق بكذبة صريحة. كثير من الناس لا يقع في “كذبٍ مكشوف” لكنهم يفرّون إلى منطقة رمادية، والحياء الصادق يضيّق تلك المنطقة الرمادية؛ لأنه يستحي أن يكون صادق اللفظ كاذب المعنى.
أما الصدق في النية، فهو الطبقة التي تربط الحياء بأعماق الإخلاص. لأن الحياء إذا كان حياءً من الله أو حياءً من الضمير، فإنه يكشف سريعاً قبح الرياء؛ فالمرء يستحي أن يتزين للناس وهو خالٍ من الداخل، أو أن يطلب بعمله مدحاً وهو يدّعي غير ذلك. لهذا ترى أن الحياء الحقيقي لا يكتفي بأن يجعل الإنسان “مؤدباً أمام الناس”، بل يجعله يتفقد قلبه: لماذا قلت؟ لماذا فعلت؟ لمن؟ ومن هنا أيضاً نفهم كيف يمكن أن يضعف الحياء عند من اعتاد الرياء؛ لأن الرياء يتطلب قدراً دائماً من التمثيل، والتمثيل لا يستقيم إلا بتطبيع النفس على عدم الصدق، ومع الوقت تخفّ حساسية الحياء، لأن القلب يصبح منشغلاً بالصورة لا بالحقيقة.
ثم تأتي طبقة الصدق في الفعل والالتزام، وهي أن يكون السلوك مصدّقاً للقول. هنا يظهر أثر الحياء بوصفه رقيباً على التناقض؛ فالإنسان يستحي أن يتكلم عن قيمٍ عالية ثم يخونها في التفاصيل، ويستحي أن يطالب الناس بما لا يلتزم به، ويستحي أن يعد ثم يماطل بغير عذر، ويستحي أن يحمل لقباً أخلاقياً ويعيش بعكسه. كلما كان الحياء حياً في النفس، صار التناقض بين الشعار والممارسة مؤلماً، وهذا الألم هو الذي يدفع إلى تصحيح المسار. أما إذا ضعُف الحياء، صار التناقض سهلاً، ثم يصبح عادة، ثم يتحول إلى هوية مزدوجة: وجهٌ للناس ووجهٌ للحقيقة.
وفي الاتجاه المقابل، الصدق يغذّي الحياء ويصححه حتى لا ينقلب إلى “خجلٍ اجتماعي”. لأن بعض الناس يظنون أنهم أهل حياء وهم في الحقيقة أسرى للخوف من التقييم. الصدق هنا يحرّرهم: إذا صدق الإنسان مع نفسه عرف أنه لا يستحي من القبيح فقط، بل يخشى الناس، وأنه يحتاج إلى شجاعةٍ مهذبة لا إلى مزيد من الانسحاب. كذلك الصدق يجعل الحياء منضبطاً فلا يتحول إلى ستارٍ للتقصير، فلا يقول المرء “استحي” وهو في الحقيقة يهرب من واجب أو من حق أو من مواجهةٍ لازمة. الصدق يفضح الأعذار الداخلية، والحياء يدفع إلى إصلاحها بدل تزيينها.
ولهذا يمكن القول إن الحياء والصدق يلتقيان في نقطة واحدة: كلاهما يحفظ “الاستقامة الداخلية” ويمنع “الانفصام بين الداخل والخارج”. الحياء يمنعك أن تفعل ما تخجل من حمله أمام ضميرك، والصدق يجعل ضميرك واضحاً لا مخدوعاً ولا مُخادعاً. فإذا اجتمعا صار الإنسان ثابتاً: لطيفاً في أسلوبه، واضحاً في قوله، أميناً في قصده، متسقاً في فعله. وإذا افترقا صار أسهل ما في الدنيا أن تتعدد الأقنعة: قناع الأدب دون مضمون، أو قناع الصراحة دون رحمة، أو قناع التدين دون إخلاص، أو قناع الأخلاق دون أمانة.
وإذا أردت معياراً بسيطاً يقيس هذا الارتباط في نفسك: راقب اللحظة التي تميل فيها إلى تزيين الحقيقة، أو إسقاط جزءٍ مهم منها، أو تقديم نفسك بما ليس فيك، ثم اسأل: هل أشعر بانقباضٍ داخلي؟ إن وُجد الانقباض فهذه بذرة حياء تحرس الصدق، وإن غاب الانقباض فهناك موضع يحتاج إلى إحياء الحياء بالعودة إلى الصدق، لأن موت الانقباض في هذه المواطن هو أول الطريق إلى التطبيع مع التزييف.
ويبقى السؤال الأخير: هل الحياء مفطور في النفس أم يمكن اكتسابه في أي وقت وأي عمر؟ والواقع أنه يجمع الأمرين معاً. ففي الإنسان استعدادٌ فطري للحياء يرتبط بالوعي بالذات وبالانزعاج من الانكشاف وبالحاجة إلى الكرامة، لكن هذا الاستعداد قد يقوى وقد يضعف وقد يتجه وجهة صحيحة أو خاطئة بحسب التربية والبيئة وما يعتاده المرء من مشاهد وألفاظ ومعايير. لذلك يمكن للإنسان أن يزرع الحياء في نفسه وينمّيه، ليس بمجرد التمنّي، بل بتغذية معنى الكرامة، وبمراجعة القيم التي يريد أن يعيش بها، وبالتمرين على ضبط اللسان والنظر والسلوك، وباختيار صحبة وقدوة تعلي من شأن الأدب، وبالابتعاد عن كل ما يميت الحساسية الداخلية ويجعل القبيح عادياً. ومع الوقت يصبح الحياء فعلاً أقرب إلى طبيعة ثانية؛ لأنه حين تتكرر الممارسة تتحول إلى ملكة، وحين تستقر الملكة يصير المرء يستحي من السقوط كما يستحي من تعرية نفسه أمام مرآته الداخلية، لا لأن الناس يرونه، بل لأن نفسه تراه، وربه يراه، وكرامته لا تسمح له أن يهون.
ولكن، كيف يمكننا اليوم، في زمنٍ سقطت فيه الحواجز وماتت فيه الخصوصية، أن نغرس هذه النبتة المقدسة في نفوس أبنائنا؟ إن الإجابة تكمن في تحويل الحياء من "موعظة" تُسمع إلى "حياة" تُعاش. فعلم النفس يخبرنا أن الأطفال يتعلمون بالمحاكاة والنمذجة أكثر مما يتعلمون بالتلقين؛ فالطفل لا يسمع ما تقول بقدر ما يرى ما تفعل. لذا، فإن الخطوة الأولى في تربية الحياء تبدأ من الوالدين؛ حين يرى الابن أباه يغض بصره ويحفظ لسانه، وحين ترى الابنة أمها تصون خصوصيات الناس وتتعفف في ملبسها، تنتقل عدوى الحياء بصريًا ونفسيًا إليهم دون حاجة لكثير كلام، مصداقًا لرفض القرآن التناقض بين القول والفعل.
وعلى جانب آخر، يتطلب غرس الحياء بناء "وازع داخلي" متين بدلاً من الاعتماد على الخوف الاجتماعي الهش؛ فتربية الطفل على عبارة "ماذا سيقول الناس؟" تخلق شخصية منافقة تخلع رداء الحياء بمجرد الاختلاء بالنفس أو السفر بعيدًا، بينما تربيته على "حب الله" و"احترام الذات" تبني ما يسميه علماء النفس "الأنا العليا" التي تراقب التصرفات في الغرف المغلقة قبل المفتوحة. يجب أن نُعلمهم أننا نحتشم لأننا "غالين" عند الله والله يحب الستر، وليس خوفًا من المجتمع.
وتكتمل هذه المنظومة التربوية بتأسيس ثقافة "الحدود والخصوصية" داخل المنزل، تطبيقًا للمنهج القرآني في سورة النور الذي أمر بالاستئذان، حتى من الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم. إن تعويد الطفل على طرق الباب واحترام المساحات الشخصية يغرس في عقله اللاواعي أن للأجساد "حرمة" وللبيوت "أسرارًا" لا يجوز انتهاكها. كما يجب تعزيز "الصمود النفسي" لدى الأبناء لمواجهة ضغط الأقران، فنعلمهم أن الاختلاف عن السائد في الملبس أو السلوك العفيف هو علامة "قيادة" وقوة شخصية، وليس مدعاة للخجل، مقتدين بتميز مريم ويوسف عليهما السلام في بيئات كانت تموج بالفتن.
إننا بهذا البناء المتكامل، الذي يمزج بين جلال الوحي وحقائق النفس، لا نربي أطفالًا منعزلين، بل نصنع جيلًا يمتلك "مناعة نفسية" وبوصلة أخلاقية تحميه من التيه، جيلًا يدرك أن الحياء هو الحياة، وأنه إذا ذهب الحياء، لم يبقَ في الحياة ما يُبكَى عليه.
التعليقات