على الفور عندما يتم اختيارى النادر للمشاركة فى أى من اللجان الرسمية يطرق أذنى صوت شكرى سرحان فى فيلم «رُد قلبى» للكاتب يوسف السباعى وإنتاج آسيا عام 1957 وهو يقول عندما تم قبوله طالبا بالكلية الحربية بلا واسطة: «والغريب أن اللجنة قبلتنى والأغرب أن قبلت سليمان أيضًا»، وبعدما استوعبت لفترة مسألة وجود الاسم فى اللجنة الرئيسة لتطوير الإعلام المصرى ذهبت لحضور أول الاجتماعات بمقر الأكاديمية الوطنية للتدريب بمدينة الشيخ زايد برئاسة المهندس خالد عبدالعزيز رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ووزير الشباب والرياضة السابق من يحمل له القلب إرث معزّة من نوع خالص وخاص وحميم، فساعة أراه أو يدوى اسمه فى المحيط أستشعر تفاؤلا للقادم على يديه، مع استرداد شعور براحة غابت عنى سنين تحضرنى فيها صورة والده الزميل والصديق الراحل محمود عبدالعزيز مدير تحرير الأهرام – فى زمن على حمدى الجمال – بهيئة المشيب الوقور رغم شرخ الشباب، والابتسامة المرحبة دومًا التى تغسل التوتر، والدور القيادى كحمامة سلام تصلح ما تُفسده النميمة والمنافسة، ليخرج محمود من مكتبه بالدور الرابع لصالة التحرير بالأهرام متوسطًا من كانا خصمين بعدما أصبحا بتدخله الملائكى بمثابة الشقيقين.. وكان أن تنازلت يوما عن استقالتى المسببة لأجل خاطره.. الإنسان الرائع الذى كتب الأديب يوسف إدريس مقالا متفردا عنه بعنوان «الدمث» قائلا إنه لم يجد أجدى ولا أجدر من ذلك الوصف الجامع والموجز والمعبر لمن بلغ أعلى مرتبة للأخلاق الرفيعة.

جلست وكلى آذان صاغية للنقاش الثرى الدائر المتداول بين أجيال الصحافة والإعلام من الرواد المخضرمين المجربين المتمهلين المتسامحين المنهكين بأصواتهم الخافتة التى تنبض بالكاد مع ذبذبات الميكروفون، وتصمت طويلا لالتقاط الأنفاس المتخاذلة إذا ما تم اختراق مسار أفكارها من تدخل خارجى عشوائى لاستعادة جمع شتات نقاطها المرتبة على سطور مفكرة العقل، لطرح حلول جذرية لمشاكل الإعلام عجزوا هم عن تحقيقها أو الوصول إليها، هذا بينما على الجانب الآخر تطلب الكلمة ولو فى غير دورها أصوات الشباب المنفعل الرافض المتعجل الطارح للقضايا وأسبابها وكيفية علاجها بصخب الطلقات المدوية، ويفض المايسترو فى الحال آفاق الاشتباك ليُحقق الفرصة لطرح آراء غالبية الحضور، كل هذا وأنا فى عجب بالغ من الزميل الجالس أمامى فى الجهة المقابلة من ترابيزة الاجتماع، صاحب العمر بين بين - أى لا هو بعد الستين وإن تخطى الخمسين - ذى الوجه الحالم الهادئ، والملامح الطيبة المتصالحة، والعيون التى يسكنها التساؤل والإجابة، والابتسامة التى لا تغيب، وكنت قد التقيت به فى أكثر من مجال إعلامى، وتصافحنا أكثر من مرة، لكن ذاكرتى الآن تجعل الشروخ الذهنية المتواترة تتسع تباعا ليسقط فيها أسماء أصدقاء العمر الطويل... الزميل الجالس قصادى طوال فترة الاجتماع التى قاربت على الأربع ساعات لم يرفع عينيه عنى مؤكدًا متابعتى بابتسامته الحنون، حتى إننى مكثت أشعر بالإحراج من التركيز المفرط نحو شخصى بالذات وليس أحدًا غيرى، ولو مددت مسطرة مرقمة بين نظراته ورأسى ستجدها فى مركز التسديد تماما، ولقد حاولت أكثر من مرة تنحية رقبتى أو الاستدارة بكامل جذعى لأكثر من جهة بعيدًا عن مسار يمينه أو يساره لأنقل إليه خلاصة رسالتى بأنه كفاية كده اهتماما بشخصى وشوف لك يا سيدى أحدًا غيرى.. وعندما أوشكت التعبير علانية غيرت رأيى وقمت مغادرة مكان الاجتماع لفترة راحة، والغريب أن وجدته فى عودتى مازال ينظر لمكانى الشاغر بنفس المتابعة الشغوف، واكتشفت أنه فى خلفيتى تماما تقع شاشة تليفزيون ضخمة تنقل جميع وقائع الاجتماع وشخوصه فى جميع الأركان، وأننى كنت بمثابة عامل تشويش على الزميل المقابل المهتم بما يقال ثانية بثانية، وأنه كان كريما معى إلى حد كبير إذ لم ينهنى عن التسبب فى قطع متابعته بانفعالاتى الرعناء.... وها قد تكونت لجان التطوير لأنضم إلى لجنة تطوير الصحافة الورقية والرقمية من بين لجان ثمانٍ سوف أحرص خلالها على النظر للخلف قبل الجلوس والتركيز فيما يقال ويعتمد لا فيمن يتابعنى بعينيه.

أجلس معهم، وأقعد مع نفسى، فى محاولة لفهرسة وتدبر مسألة تطوير الإعلام وواجهته الصحافة بشطريها الورقية والرقمية، فأجدنى فى البدء كنت قد سكنت عمارة ضخمة بها خمسون شقة لأصحابها من أطباء وقضاة ومهندسين وتجار ورجال أعمال الخ، هؤلاء معظمهم بأزواجهم وزوجاتهم وذريتهم من جميع الأجيال ومراحل التعليم المختلفة الخاص والعام، ليس فيهم من أصبح يولى اهتمامه بالجرنال الذى كانت له منزلة رغيف العيش اليومى والصديق الوفى فى البيت والشغل والمواصلة وقعدة القهوة، اللهم إلا إذا ما توفى أحد أقارب شقة التاسع أو الأرضى كمثال فإنه يرسل شغالته لتضرب جرس بابى لاستعارة النسخة الورقية الوحيدة فى العمارة لعدة دقائق لا غير لتتأكد الهانم أو البيه من عنوان سرادق العزاء، وأعطيه لها عن طيب خاطر مع توصيتى بقراءته كله ولو على سبيل التعارف بعدما صرت أظن أن صناعة الصحف أصبحت تندثر كصناعة الطرابيش..

هذا بينما لا يوجد فرد واحد بينهم وبين غيرهم لا يصاحبه الموبايل أينما أكل وشرب وقام ونام ودخل الحمام، وأقارن بين ما يدفعه المواطن محدود الدخل فى أى من خطوط المحمول المتأرجحة فأجده لا يقل عن 400 جنيه شهريا، بينما لا يتطلب ثمن جرنال ما سوى ثلاثة جنيهات أى 90 جنيها شهريا، ومن هنا ضاق حيز اتساع النظر والرؤية الشاملة إلى ضيق ملليمترات شاشة يغذيها الشاحن وتتلاعب بها الاختراقات السالبة الموجهة، وانقضى زمان تحليل الخبر إلى مجرد عنوان مختصر، وراحت فى خبر كان متعة قراءة القصص القصيرة والروايات المسلسلة لأصحاب الفكر، وقصائد لها وزن وأسعار البورصة ورسوم صحفية لكبار الفنانين، وأغلق الكتاب ضفتيه فلا الزمان ولا المكان ولا فقرات الهياكل والرقاب فى استطاعتها دوام الانحناء فوق المنمنمات، وأبدًا لن تقوم زهور الرسائل وفيروزات الصباح وتهانى الأعياد وعزاء المواقع وصور العيال بتوثيق الروابط العائلية المبددة مع لمسة الأصابع، وأنت إذا ما توقفت صدفة لمتابعة إعلان لسلعة على الجهاز فقد أصبحت ضحية على المشاع لكافة الشركات التى تنتج مثيلتها، حيث لن ينقطع الرنين فى أى من ساعات الليل والنهار مثل رنين مكاتب بيع العقار التى تعرض عليك فرصة لشراء المتر بثلاثة ملايين علي ناصية بركة السبع الثالثة صباحا، أما عن أسرار البيوت والنجوم والطلاق والموديلات الكاشفة فسوف تتبدد أيامك حقيقة، ويسرق عمرك وحياة النبى، فى متابعة تحركات دستة مشاهير بعينهم يتجمعون ويتفرقون مثل ورق الكوتشينة أينما حطوا الرحال من الجونة لبلاجات شرير الشمال، وعلى المتابعين لأحدث التريندات المليونية من بعد هوجة سرقة الأعضاء والواد اللى قطع زميله بالمنشار الكهربائى لمشاهدة منصات الكيد والردح ما بين الثرى العربى وأهلنا المجروحين.

وتتصدر الديون المثقلة المتراكمة على المؤسسات الصحفية التى تورِّثها الإدارات لبعضها أهم أسباب إعاقة انطلاقها وحيويتها، ليزداد الأمر سوءا بلا تعيينات جديدة لآلاف من خريجى كليات الإعلام على مستوى القطر، ولا تدريبات عملية - حيث قيل فى الاجتماع أن المتدرب الواحد يُكلف الدولة أكثر من مائة ألف وزيادة - وبلا مكاتب إعلامية فى الخارج لأزمة النقد الأجنبى، ومن يصلح للإعلام بمهارة اللغات الأجنبية لن يرضى بمرتب الثلاثة آلاف أعلى سقف للمعروض، ولا أى اهتمام بإعلام الطفولة وبرامجها وإصداراتها التى لم يعد لها وجود اللهم إلا المترجم منها بشخصياته ومناهجه المنفلتة واهتماماته التى يشذ منها الكثير، مع إغلاق مجلات المرأة لتوفير الورق والحبر، وانعدام الابتسامة التى يخلقها فن الكاريكاتير وكانت نكتة واحدة لصلاح جاهين توزع الجرنال بآلاف النسخ، حتى برنامج الكوميديا أغلق بالضبة والمفتاح على شاشة التليفزيون، وتحوَّل ماسبيرو زمان إلى إعادة لفوازير رمضان عندما كان يحيى الفخرانى فى شرخ الشباب.. وينجح المؤتمر العالمى نجاحا مبهرا وينقله الإعلام العالمى من شرم الشيخ - بلا احتكار- لصالح الإعلام المصرى ليعود دخله بثروة ضخمة، وحتى الآن لا نرى متابعة جدية للمشروع الذى سيحدث على أرض مصر ثورة حضارية وهو خط القطار السريع الذى يعد بمثابة شريان يضاهى شريان النيل وكان المثيل له منظومة أفلام أمريكية قامت بتأريخ السكة الحديد على أرضها، لنتابعها دومًا على أرضنا، ونموت من الضحك على وصف الشراقوه بالطيبة والكرم الشديد حتى يُقال أنهم عزموا القطر!!

وإذا ما كانت أبرز التحديات التى تواجه الصحافة الورقية اقتصادية فى أسعار الورق والأحبار وإشكالية التوزيع مما يعجِّز الوصول إلى جميع المحافظات خاصة فى فترة الصيف، حيث يذهب 25% من السكان إلى المدن الساحلية التى لا تصل إليهم فيها أعداد الصحف الورقية، فقل مثل هذا وأكثر منه، ولكن لا تتكلم أبدًا عن انحسار القراءة، فالإقبال المتزايد على معرض الكتاب عاما بعد عام يعد شهادة للإعلام الورقى وللكلمة المكتوبة، وبقاؤها مرهون بما تقدمه للقارئ مع الوضع فى الاعتبار بأن الصحافة الحرة ستبقى دومًا هى السلطة الرابعة ورمانة الميزان التى تكشف الفساد وتصحح الانحراف وتنقل بنزاهة وشفافية وحياد نبض الشارع لصاحب القرار وأن دعمها وإسقاط ديونها التى لا ذنب لصُنّاعها فيها لن يكلف أكثرمن تحويل جزء من أى منحة خارجية لها خاصة التى تظل مجمدة لا تجد سبيلا لإنفاقها بعدما تبددت الحاجة إليها، ولست اللاجئة لأقوال الخواجات لكنى أتوقف أمام مأثورة فولتير: الصحافة آلة يستحيل كسرها، ومهمتها هدم القديم المتداعى ليتسنى لها أن تنشىء عالما جديدا متطورًا.. و..خطوة على طريق التفاؤل يدفعنى الحرف الشريف وهدى نبض أجيال الشباب.
يُتبع الجزء الثاني..
نقلا عن جريدة الأهرام
التعليقات