إن ما كتبه العقاد عن المرأة يدل علي أنه فهمها بوضوح.. كأنه عرف ألف مليون امرأة، كأنه عرف المرأة منذ كان اسمها حواء، إلي أن أصبح اسمها مي أو إليزة أو هنومة.. ولم تكن علاقة العقاد بالمرأة مجرد معرفة، مجرد دراسة وبحث، كما يدرس قطة أو نحلة أو قطعة حجر، ولكن العقاد كان مُحباً، وكان عاشقاً، وعرف البكاء، وعرف جروحاً عميقة في كبريائه وتعذب من الشك!!..
بالكلمات السابقة لخص الأستاذ (أنيس منصور) رأيه في علاقة أستاذه (عباس محمود العقاد) بالمرأة، فهو القائل عن نفسه ملخصاً ــ في فترة شبابه ــ أصناف الحب:
عرفـــت من الحــــب أشـــــــكاله
وصاحبت بعد الجمال الجمال
فحـــــــــب المصــــــــــور تمـثالـــــه
عرفت.. وحب الشباب الخيال
وحــــب التـــي علمتنـــي الهـــوي
وحــــب التــــي أنـــــا علمتـــــــــها
ومن أســـتمد لديهــــا القـــــــوي
ومن بالقــــوي أنــــا أمددتــــــــها
والعقاد ــ المفكر والأديب والشاعر العملاق ــ هو الذي لخص تعريفه للحب قائلاً:
فيه من حنان الأبوة، ومن مودة الصديق، ومن يقظة الساهر، ومن ضلال الحالم، ومن الصدق والوهم، ومن الأثرة والإيثار، ومن المشيئة والإضطرار، ومن الغرور والهوان، ومن الرجاء والقنوط، ومن اللذة والعذاب، ومن البراءة والإثم، ومن الفرد الواحد، ومن الزوجين المتقابلين، والمجتمع المتعدد، والنوع الإنساني الخالد علي مدي الأجيال..
يسألونك عن الحب قل هو إندفاع جسد إلي جسد، وإندفاع روح إلي روح ويسألونك عن الروح فماذا تقول؟ .. قل هي من أمر ربي.. خالق الأرواح.. لهذه الكثرة الزاخرة في عناصر الحب بين اثنين لا يخطر علي البال أنهما يجتمعان..
وخلاصة التجارب كلها في الحب أنك لا تحب حين تختار، ولا تختار حين تحب، وأننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت!! ..
العملاق الأعزب
كان العقاد مفكراً موسوعياً، وشاعرًا فحلاً، وسياسياً عملاقاً، وأديباً استثنائياً شديد الإعتزاز بنفسه، وهب حياته للفكر والعلم والسياسة والأدب، وكان أقرانه ومريدوه وتلاميذه يخشونه ويرونه عملاقاً لا يباري في علمه وحدة لسانه إذا انفعل وبراعة منطقه إذا كتب أو تكلم، وكان يبرر لمن يسأله عن السبب في عدم زواجه بأنه لا يكره الزواج ولا يأباه، فهو سنة الحياة والطريق الطبيعي لقيام الأسرة ولكنه طبع علي ألا يشاركه أحد في حياته القاسية ــ الغارقة في القراءة والتحصيل ــ والتي يراها عسيرة عليه وعلي من تريد أن تشاركه هذه الحياة، وكان أحياناً يبرر عدم زواجه قائلاً:
حينما أردت الزواج لم أجد الوسيلة، وحينما توافرت الوسيلة لم أجد الإرادة!!..
ولكن امتناع العقاد عن الزواج لم يمنعه من الحب، بل علي العكس تماماً.. لقد أحب العقاد وذاب عشقاً، وذاق عذوبة الحب وعذابه، وامتلأت حياته العاطفية بالنساء، واحترق قلبه بالعشق والغيرة والشك والحيرة، وامتلأت أنوف المحيطين به برائحة ذلك القلب المحترق، فكتبوا عن تلك القصص الكثير وأضافوا إلي ما كتبه العقاد عن نسائه الكثير، وقد ركز الجميع ــ فيما كتبوا ــ علي ثلاث قصص أساسية عاشها العقاد الذي كتب عنها ــ تلميحاً وتصريحاً في دواوينه وكتبه، وقد كانت الأديبة ماري إلياس زيادة، (الشهيرة بمي زيادة) هي أولي بطلات قصصه، فهي الحب الأول، والملهمة الأولي، وهي ــ قبل كل ذلك ــ الأديبة الفلسطينية المولد، اللبنانية النشأة، المصرية الشهرة والتي ضم صالونها الأدبي عظماء الادب والفكر في عصرها أمثال: عباس العقاد ومصطفي صادق الرافعي وولي الدين يكن وطه حسين وخليل مطران وأحمد لطفي السيد، والشيء المدهش أن معظم هؤلاء قد أحبوا (مي) وتنافسوا علي الفوز بحبها، إلا أن الجميع قد اتفقوا علي أن (مي) قد أحبت في حياتها رجلين.. أحبت العقاد الرجل، وعشقت جبران خليل جبران الكاتب، وقد عاشت مع الأول قصة رومانسية مليئة بالأحداث ، أما (جبران ) فلم تشاهده ولو مرة واحدة في حياتها التي انتهت بالجنون!!..
مي زيادة.. الحب الأول
وصفت السيدة (هدي شعراوي) الأديبة (مي زيادة) بقولها:
كانت كل حاسة من حواسها أو جارحة من جوارحها تنم عن ذلك الذكاء فعيناها اللامعتان، وتعبيرها الحار، ولطف إشارتها، وحسن حديثها، كل ذلك ينم عن ذكائها كما ينم المسك عن المسك!!..
ووصفها الشاعر( كامل الشناوي ) في كتابه (الذين أحبوا مي) قائلاً:
لم تكن قصيرة ولم تكن طويلة.. كان قوامها نحيلاً يريد أن يمتليء، سميناً يريد أن ينحل!!..
وقد وصفت (مي زيادة) نفسها في إحدي رسائلها لصديقتها بقولها:
استحضري فتاة سمراء كالبن أو كالتمر الهندي ــ كما يقول الشعراء ــ أو كالمسك كما يقول متيم العامرية وضعي عليها طابعاً سديمياً )وليسمح لي البلاغيون بهذا التعبير المتناقض( من وجد وشوق وذهول وجوع فكري لا يكتفي، وعطش روحي لا يرتوي، يرافق أولئك جميعاً استعداد كبير للطرب والسرور واستعداد أكبر للشجن والألم وأطلقي علي هذا المجموع اسم (مي)!!..
خلاصة كل ما سبق أن ( مي ) كانت تتسم بالجمال الذكي، والذكاء الجميل، وأن (العقاد) قد تبادل معها خطابات الهوي والغرام ، وهو مالخصه وأوجزه الكاتب الصحفي (مصطفي أمين) قائلاً:
كان الشاب الأسمر العملاق يعاملها أحياناً كملكة ويتغزل فيها ويتغني بهواها ثم فجأة يثور عليها، ويخلعها من عرش الحب الذي تستوي عليه، ثم يعود إليها أكثر عشقاً وأكثر غراماً، وكانت (مي) تحب هذا الشاعر الذي يحترق ويحرقها، ويحبها ويلعنها، ويتعبد بها ثم يكفر، ويقبل عليها ثم يدبر، وكانت (مي) تقول لصديقاتها: إن العقاد سريع الرضا وسريع الغضب.. يقدم لها وردة في الصباح ويلقي عليها طوبة في المساء، وكانت تسمي حبه (الحب المتعب) ولم يكن العقاد يكره الكاتبة (مي) في يوم من الأيام، فقد كانت كراهيته هي قمة العشق!!..
كان العقاد يغار علي (مي) من كل المحيطين بها، وكان يقول لها:
- إن قلبك مثل نادي محمد علي لكثرة ما يتردد عليه من عظماء!!..
وكانت (مي) تتعمد ــ أحياناً إثارة غيرته عليها، ولذا كتبت إليه ذات يوم تقول:
قد أتعمد الخطأ أحياناً لأفوز بسخطك عليَّ، فأتوب علي يديك وأمتثل لأمرك.. في حضورك سأتحول عنك إلي نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الأخرين إليك لأفكر فيك!!..
كان حبهما حُبـًا عذرياً، بريئاً طاهراً، وقد أكد أقرب أصدقاء (العقاد) للشاعر (كامل الشناوي) أن أقصي ما ناله العقاد من (مي) قبلة علي جبينها، أو قبلة علي جبينه، وقد استمر بهما هذا الحال حتي مات والدها عام 1929 فأصيبت بالإكتئاب والحزن ، ووصف الأستاذ (عامر العقاد) في كتابه (غراميات العقاد) أعراض وأسباب تلك الحالة قائلاً:
وأطمعت تلك المأساة ــ وفاة والدها ــ البعض فيها، فعانت شقاء هذا الطمع وصاروا يلاحقونها في كل حين حتي ضاقت بهم وضاقت بالدنيا وسئمت الحياة..
وأصيبت (مي) بانهيار عصبي، وعبر (العقاد) عن حالة محبوبته في ديوانه (أعاصير مغرب) قائلاً:
«أتراها بعد فقد الأبوين..
سلمت في الدهر من شجووين
وأسي يظلمها ظلم الحسين
ينطوي في الصمت عن سمع وعين
ويذيب القلب كالشمع المذاب»
وقرر الأطباء ضرورة إدخال (مي) مستشفي للأمراض العصبيّة واختاروا لها مستشفي (العصفورية) في لبنان، ومكثت به حتي فارقت دنيا الأحياء عام 1941 وأصبحت ذكري علي كل شفاه أحبتها وتابعتها، ويواصل الأستاذ (عامر العقاد) حديثه قائلاً:
وعاش العقاد يذكر لمعارفه وتلاميذه كيف تمكن بلاء الاضطهاد من تلك النفس الذكية.. وكيف وقع معها ــ هو نفسه ــ في خطأ الإقناع الذي أحاله في نظرها إلي إنسان غير مخلص، بل وغالت في شكها نحوه فاعتبرته أحد المتآمرين عليها!!..
وبعد وفاتها رثاها العقاد قائلا :
(( أين في المَحْفَل (مي) ياصحابْ ؟
عودتنا هاهنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مُسْتَجيب حِين يُدْعي مُستجاب
أين في المحفل (مي) ياصحاب ؟
سائلوا النخبة من رهط النديّ
أين مي ؟ هل علمتم أين مي؟
الحديث الحلو واللحن الشجي
والجبين الحر والوجه السني
أين ولي كوكباه ؟ أين غاب ؟
شيم غرّ رضيات عِذاب
وحجي ينفذ بالرأي الصواب
وذكاء ألمعي كالشهاب
وجمال قدسي لا يُعاب
كل هذا في التراب ؟!..
آه من هذا التراب !!..))
سارة والحب الحسي المتوتر
وفي عام 1924 قابل (العقاد) تلك المرأة التي اقتحمت حياته الهادئة الراكدة فقلبتها رأساً علي عقب ، كانت امرأة جهنمية مثيرة لمشاعر(العقاد) الذي تعمد إخفاء اسمها الحقيقي وأطلق عليها اسم (سارة) في روايته التي تحمل نفس الاسم ، وقد ظل اسمها الحقيقي خفياً مخفياً من قبل الباحثين لفترة طويلة خشية إغضاب ( العقاد) أو التسبب في إحداث مشكلة لأي طرف من الأطراف ، وبعدها بسنوات قام الباحث (أحمد حسين الطماوي) بإزاحة الستار عن هذا السر المخفي وكشف لنا في كتابه المثير (سارة العقاد) أن (سارة) اسمها الحقيقي هو (أليس داغر) وبعد زواجها من الصحفي السوري( عبده هاشم ) حملت اسمه ليصبح اسمها ( أليس عبده هاشم ) ، و( أليس ) هي ابنة الكاتبة الطليعية المعروفة ( لبيبة هاشم ) مؤسسة مجلة (فتاة الشرق) وفي عام 1972 كشف الكاتب( عبد الرحمن صدقي) في مجلة الهلال عام 1972 أن (سارة) كانت كاتبة متمرسة ، تجيد عدة لغات من بينها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية وكانت تترجم عنها وتوقع مقالاتها باسم (أليس داغر) ..
ذهب (العقاد) ذات يوم لزيارة صديقه الأستاذ الدكتور(صبري السربوني) الذي كان يسكن في أحد البنسيونات بحي مصر الجديدة وهناك قابلها .. قابل (أليس) بطلة قصته الشهيرة (سارة) ..
كانت (أليس) تجلس بجوار صاحبة البنسيون وهي تمسك بكساء تقلبه وتمعن النظر فيه ، وقد وصفها (العقاد) بأنها أجمل من رأي في أيام فتنته وشغفه، بل ووصفها بأنها حزمة من أعصاب تسمي امرأة..امرأة استغرقتها الأنوثة فليس فيها إلا الأنوثة فقط ، وقال عنها منبهراً :
لعلها أنثي ونصف أنثي.. ليست غواية الجسم عندها كجوع الحيوان يشبعه العلف، ولكنها كرعدة الحمي وصرعة الفرس الجموح يتبعها النشاط والمراح كما يتبعها الإعياء والبكاء، لها فراسة نفاذة في كل ما بين الجنسين من علاقة، تفطن لما في نفس المرأة لأنها امرأة، وتفطن لما في نفس الرجل لأنها امرأة!!..
ويسأل (العقاد) عن صديقه الدكتور (صبري السربوني) فتبلغه صاحبة البنسيون أنه خرج منذ هنيهة وأنه عائد بعد قليل، فيجدها (العقاد) فرصة سانحة لمد جسر الحوار بينه وبين أنثاه الجميلة (أليس)، وتشجعه (أليس) علي المحاولة ويعرف منها أنها كانت متزوجة من رجل كان يكبرها كثيرا، ولم يكن مناسبا لها فقد تزوجته لأن اسرتها ضغطت عليها خوفا من أن تصاب بداء العنوسة، وفي ذلك اليوم تخلل حوارهما بعض الإيماءات الغزليّة التي أخذ يدسها (العقاد) بحنكة الخبير المحنك بين كلماته وضحكاته ونظراته، فتعاجله (أليس) في غضب غير جاد قائلة:
ـــ ما هذه التحيات وما هذا الغزل؟!! إنني أخشي عن قريب أن تقول لي عيناكِ ووجنتاكِ وأهواكِ ولا أنساكِ.. إلي آخر هذا الموال المحفوظ!!..
ويسرع العقاد بالرد عليها قائلاً:
ـــ ولماذا عما قريب؟!!.. الآن..
وترد عليه ضاحكة في إغراء وتشجيع:
ـــ أنت عجول وجريء في آنٍ واحد..
ويقترب منها (العقاد) هامساً وكأنه قد قرر خوض المشوار للنهاية:
ــ إن وعدتني أن أجني للصبر ثمرة فأنا أصبّر من أيوب!!..
وبحركة سريعة جدًا، وفي غفلة من صاحبة البنسيون قبلها (العقاد) ثم جلس مأخوذًا بما حدث لأنه كان يتوقع أن تشتمه تلك المرأة أو تتركه وتترك المكان غاضبة، ولكنها قالت له في صوت خافت:
ــ لقدآذاني شاربك الطويل !! ..
هكذا تم التعارف ورفرف كيوبيد بجناحيه علي المكان.. وفجأة خرجت (أليس) من البنسيون وبعد ساعات قليلة من عودته إلي منزله فوجيء (العقاد) بتليفونه يرن، وبغير اكتراث رفع السماعة فكان هذا الحوار:
ـــ آلو.. مين؟ ..
ــ ألا تعرفني ؟!..
ــ عرفتك الآن.. أنت (أليس) بدون شك..
** هل كنت تنتظر هذه المحادثة؟..
ــ لا أزعم أنني كنت أنتظرها ولكني أحسب أنني كنت أتمناها!! ..
وتواعدا علي اللقاء، وتقابلا في مطعم منعزل بحديقة (الأهرام) وهناك عرف منها أنها تزوجت في العشرين من عمرها من رجل ثري في الخمسين ثم انفصلت عنه ، وصارحته بأنها تعاني من البرودة والفراغ ولا تجد من يدفيء مشاعرها ويملأ حياتها... و.. كان اللقاء الثاني في شقة العقاد!!..
الأنثي الخائنة
كان الفارق بين (مي) و(أليس) من وجهة نظر العقاد، أن (مي) حولها نهر يمنع من الوصول إليها، أما (أليس) فحولها نهر يساعد علي الوصول إليها والتواصل معها والاتصال بها، وقد لخص الكاتب الصحفي ( مصطفي أمين) هذا الفارق بين المرأتين في كتابه (أسماء لا تموت) فقال:
إذا كان العقاد قد ذاق طعم السعادة مع مي، فإنه قد ذاق مرارة الشقاء مع سارة (أليس)، فقد كانت امرأة تهوي أن تلعب بقلوب الرجال.. كانت تعشق لتخون. وكانت تخرج من بيت (العقاد) لتذهب إلي لقاء شاب آخر.. ويقرر (العقاد) أن يضع نهاية لهذه المهزلة فيطردها من بيته فإذا بها تعود إليه، ويكتشف أن الحب الذي مات قد بعث من جديد، أو يكتشف أنه واري هذا الحب التراب وهو لا يزال ينبض، ولم يطفيء التراب النار بل زادها اشتعالاً.. وكان يطلق هذا الحب بالثلاثة ثم يكتشف أنه لا يزال يسري في دمه!!..
ولم يستطع (العقاد) احتمال تكرار الخيانة وتكرار الاعتراف وتكرار الصفح.. لم يعد يحتمل إلا وضع كلمة (النهاية) لقصته مع (أليس)، تلك القصة التي كتبها (العقاد) واستبدل فيها اسم محبوبته الخائنة باسم (سارة) ليكون عنواناً لكتابه المثير عنها..
الورقة الأخيرة
خرج العقاد من قصته مع (أليس) بقلب جريح، ولم يرفه عنه إلا علاقة عابرة مع فتاة كانت تعيش بضاحية (عين شمس) إلا أن هذه العلاقة لم تستمر طويلاً، ولم تمض إلا بضعة شهور حتي فوجيء العقاد بقلبه يخفق من جديد بحب فتاة سمراء، دعجاء العينين، لم تتجاوز العشرين من عمرها، بينما (العقاد) قد تجاوز الخمسين بقليل.. وقد بدأت أحداث تلك القصة في أوائل عام 1939 حيث كان (العقاد) يتصفح إحدي المجلات المسرحيّة فوقعت عيناه علي صورة لفتاة صغيرة سمراء وقرأ تحت الصورة إعلاناً صغيراً يقول:
الاسم هنومة خليل حبيب علي.. من مواليد ٣/12/1921.. تلميذة بمدرسة التطريز بشبرا.. مؤهلها الدراسي شهادة الابتدائية.. تهوي التمثيل!!..
ولم تفارق هذه الصورة عيني العقاد، بل ظلت تطارده وتلح عليه في منامه ويقظته ولم يعد يحتمل مقاومتها فاستسلم لها، وقرر أن يبحث عنها، ويكمل الأستاذ (مصطفي أمين) تفاصيل تلك القصة قائلاً:
وعرض (العقاد) صورة تلك الفتاة علي بعض أصدقائه ومريديه وإذا بواحد منهم يقول إن هذه التلميذة صديقة وزميلة لأخته بمدرسة التطريز بشبرا، فطلب منه( العقاد) أن يدعو التلميذتين إلي اجتماع يوم الجمعة الذي يقيمه العقاد كل أسبوع ويتردد عليه تلاميذه ومريدوه...
وجاءت (هنومة) إلي بيت( العقاد) وانبهرت بآلاف الكتب العتيقة التي تغطي الجدران ورأت كبار الصحفيين والكتاب يملأون مقاعد الصالون، ويهبون واقفين عند دخول صاحب البيت احتراماً وتقديراً، وصافحها (العقاد) مبتسماً في وقار وأجلسها بجواره، وشعرت (هنومة) بأنها تجلس في حضرة شخصية عظيمة ولأول مرة في حياتها عرفت من هو( العقاد)، ذلك الرجل الذي لم تكن تعرف اسمه ولم تقرأ له كتاباً أو مقالاً، وسألها( العقاد)عن الكتب التي قرأتها فاستشف من إجابتها المتلعثمة أنها ــ بحكم السن والثقافة ــ تحتاج إلي الكثير لصقل شخصيتها فقرر أن ينشيء لها في بيته جامعة تثقيفية تكون هي تلميذتها الوحيدة ويكون هو.. مدرسها ومعلمها الوحيد، ووافقت (هنومة)، ويكمل الكاتب الصحفي( مصطفي أمين) باقي التفاصيل قائلاً:
بعد عدة لقاءات تحولت محاضرات الجامعة إلي قصة حب.. كانت كلما انتهت من كتاب أعطاها كتاباً آخر، وفوجئت به يضع لها جدولاً مثل جدول الحصص في المدارس، وشعرت (هنومة) أن الأستاذ يريد أن يصقلها من جديد، لا يريد أن ينزل إلي مستواها ويحدثها بلغتها، بل يريد أن يرفعها إلي مستواه لتحدثه بلغته، كان اللقاء خليطاً من العلم والحب، ومزيجاً من الأدب والهوي، وفوجئت (هنومة) بهذا المزج العجيب بين العاشق والأستاذ، وبدأت تشعر نحوه باحترام عجيب ولكنها لم تحبه.. شعرت أنه أكبر كثيراً من أن تحبه فتاة صغيرة مثلها.. كانت تشعر أنها واقفة علي الأرض وأنه جالس فوق قمة الهرم.. وكان من الممكن أن تحبه لو كانت أكبر سناً مما هي، ولولا أنه حاصرها، وأصبح يراقب حركاتها ويتتبع خطواتها!!.. كانت تذهل من أنه يعرف كل شيء عنها.. متي خرجت؟.. ومتي دخلت؟.. أين ذهبت؟.. وخيل إليها ــ في وقت من الأوقات ــ أن كل تلاميذ (العقاد) أصبحوا مباحث ومخابرات يقدمون تقارير يومية عن تصرفاتها، بل خيل إليها أحياناً أن كل قراء العقاد يعملون عيوناً عليها.. ذات يوم طلب والدها منها أن تلقاه في ساعة معينة في محل الحلواني وذهبت (هنومة) إلي الموعد ففوجئت بالعقاد جالساً مع أبيها.. تراجعت إلي الوراء فزعة.. كيف استطاع( العقاد) أن يعثر علي أبيها، وأن يتعرف به، وأن ينشيء صداقة معه؟!! وفهمت أن (العقاد) يريد أن يعرف كل شيء عنها حتي ما يجري في داخل بيتها وازداد فزعها وخوفها من هذا الحب الذي يضيق عليها الخناق!!.. ولم تفكر أن تخونه وإنما فكرت أن تهرب منه!!..
باختصار... ضاقت (هنومة) بهذا السجن الحديدي الذي أراد( العقاد) وضعها فيه، ضاقت بقيوده التي تُحد من رغبتها في الإنطلاق نحو النجوميّة التي تحلم بها علي شاشة السينما، ضاقت من مراقبته لها وشكه الدائم في كل أقوالها وأفعالها، وغافلته ــ ذات يوم ــ ووقعت عقدًا سينمائياً مع الفنان( محمد عبدالوهاب)، وثار( العقاد) ثورة عارمة حينما علم بذلك وطالبها بتمزيق هذا العقد والحضور إليه فورًا، ولكنها رفضت تمزيق العقد، بل وأبلغته تليفونياً بأنها قد وقعت عقدًا آخر.. عقد زواجها من المطرب (محمد أمين) وأقفل العقاد السماعة في وجهها!!..
وطلب العقاد من صديقه الرسام( صلاح طاهر) أن يرسم له صورة كعكة شهيّة من الحلوي يحيط بها الذباب من كل جانب، وكانت هذه الكعكة هي (هنومة) أما الذباب والحشرات التي أحاطت بها فهم نجوم الوسط الفني الذي انغمست فيه.. وغيرت( هنومة) اسمها باسم فني جديد ليصبح اسمها (مديحة يسري)، ولم يستمر زواجها من المطرب (محمد أمين) طويلاً وبعد انفصالها عنه تزوجت من النجم السينمائي (أحمد سالم ) الذي كان شاباً جميلاً جذاباً تترامي تحت قدميه الجميلات.. وفجأة مات (أحمد سالم) ورفضت (مديحة يسري) العودة إلي سجن (العقاد) بعد أن ذاقت طعم الشهرة والنجاح و أصبحت فنانة كبيرة يتهافت عليها الجميع، وتزوجت( مديحة يسري) من الفنان( محمد فوزي) ثم طلقت منه، وانحصرت علاقتها بأستاذها (العقاد) في حدود الصداقة فقط ، ورضي( العقاد) بهذه العلاقة مضطرًا، وكان في كل مرة يضع سماعة التليفون بعد حديثه معها ينظر إلي الصورة التي رسمها لها (صلاح طاهر) ثم يتنهد في غيظ .. صورة الكعكة الشهية التي يحيط بها الذباب من كل جانب!!..
مصادر البحث
1- أسماء لا تموت : مصطفي أمين .
2- الذين أحبوا مي : كامل الشناوي .
3- غراميات أهل القمة : محمد رجب .
4- غراميات العقاد : عامر العقاد .
5- في صحبة العقاد : طاهر الجبلاوي .
6- في صالون العقاد كانت لنا أيام : أنيس منصور .
7- سارة : عباس محمود العقاد .
8- هدية الكروان : عباس محمود العقاد .
9- أنا : عباس محمود العقاد.
10- مي زيادة في حياتها وآثارها : وداد سكاكيني .
11- سارة العقاد : أحمد حسين الطماوي
التعليقات