لا تقفُ السينما عندَ حدِّ التَّرفيه البصريّ لحكاياتٍ مألوفة، وإنّما تتجاوزه لتصبحَ فعلَ تمرّدٍ جماليّ على كلّ ما هو مكرّس ونمطيّ، وساحةَ تحرّر تمزّقُ الحجبَ وتكشفُ عن تشظي القيم تحتَ وطأة العنف، تحطمُ جدرانَ الصمت الذي يحيط به، وتحوّلُ المأساةَ إلى مواجهةٍ صاخبة تفضح تواطؤَ المجتمع بكلّ طبقاته. إذ نجد كثيرًا ما تُصيغُ السينما الكوميديا السوداء في قالبٍ ثوريّ، تنتزعُ من المأساة هيبتَها، وتحوّلها إلى سخريةٍ قاتلة تُدين الجاني وتمنحُ الضحيةَ دورًا جديدًا في إعادة تشكيل السرد. في كلِّ مشهدٍ، كلِّ لون، وكلّ صمت يعتمل على الشاشة، يتجلّى سؤالٌ عن العدالة: هل يمكن لمقاومة النساء أن تكونَ وسيلةً لإعادة توزيع القوة؟ وكيف تُعيد السينما تشكيلَ هذا العالم بجرأةٍ فنّيةٍ متفجرّة، تتحدثُ فيه الألوان والظلال بلغة مرئيّة تباغت المتلقي وتُدهشُه.
يتخطّى اللون السّينمائيّ إطارَه الجماليّ ليصبحَ وسيطًا شعوريًا يترجمُ العواطفَ المكبوتة والجرائم غير المعلنة. إنه انعكاسٌ للانقسامات الداخلية للشخصيات، يُعبَّر عن هشاشتها حينًا وعن قوتها الكامنة حينًا آخر. الألوان لا تعمل بمعزل عن الأحداث؛ إنّها تُعيد تشكيلَ المساحات التي تهيمن عليها السلطة الذكورية، لتفتح فجواتٍ تكشفُ عن تصدعاتها، عن تضاريس القهر التي يفرضها المجتمع، وعن رغبة المرأة في إعادة رسم ملامح العالم الذي يحيط بها.
يتحوّل اللون السينمائيّ في فيلم امرأة شابة واعدة Promising Young Woman وهو من كتابة وإخراج إميرالد فينيل Emerald Fennell إلى وسيلة تعبيرٍ جندريّة ونفسيّة تكشفُ عن الاضطهاد المجتمعي وتعقيدات الصدمة النفسية. اللون في الفيلم فعلُ تفكيكٍ على المستوى النفسي للبطلة، وفي ذات الوقت فعل بناءٍ وترميم ٍلروحها. حيثُ يلعبُ دورًا محوريًا في تجسيد التوترات النفسيّة والاجتماعيّة لكاسي والتي أدّت دورها بإتقان Carey Mulligan، تُخفي كاسي رغبةً انتقاميّة معقّدة بعد تركِها لكليّة الطبّ إثرَ تعرّض صديقتها نينا لحادثةٍ مأساوية (اغتصاب) أودَتْ فيما بعد بحياتها.
تُكرّس كاسي حياتَها لتحقيق العدالة على طريقتها الخاصة، وذلك بالانتقام من أولئك الذي يتحرّشون بالنساء المخمورات في الحانات، حيثُ تتظاهر بالسُّكر لتكشفَ نواياهم.
يستندُ الفيلم على ثلاثة ألوان رئيسة تشكّل محركًا بصريًا يعكس الصراع الجندري والنفسي في عالم الشخصية، وتَبرزُ كنصٍّ بصريّ موازٍ لسيناريو الفيلم، يُسائل حدود النظام الاجتماعي، ويُظهر كيف يُجبر العنفُ النساء على التنقل بين أقنعة البراءة والثورة في عالم يرفض إنصافَهُنَّ.
فالأزرق، بدلالته على الصورة النمطية يطغى على ملابس الرجال، يُستخدم لتصوير الهيمنة الباردة للمنظومة الذكورية التي تحمي المعتدين، كما يَظهر في الإضاءة الداكنة ليكشفَ عن برودٍ غير إنسانيّ وتجردٍّ من التعاطف. الوردي (الزهري) الذي يميز ملابس كاسي، رمز الأنوثة النمطية، يتحوّل إلى قناعٍ ساخر يحمل بُعدًا نقديًا مُرًا، إذْ يعكسُ محاولةَ ترويض الغضب الأنثويّ وجعله مقبولًا اجتماعيًا. في حين يظهر الأحمر بدلالته الرمزيّة على العنف المكبوت بمَشاهِدَ الديكورات بوضوحٍ لافت، ويُعبّر عن تحولات كاسي النفسيّة والانتقال من الإحباط إلى العمل الثّوري المدفوع بغريزة الانتقام، عاكسًا الأجواء المشحونة بالعاطفة والتهديد المستمر.
الأرجوانيّ، الذي يُولد من اندماج الأزرق والأحمر، يُمثل نقطة تداخل الصّراع النفسيّ والجندري. إنّه لونُ الهامش، حيثُ تلتقي السلطة الذكورية الباردة (الأزرق) بالغضب الثوري المكبوت (الأحمر)، ليُجسدَ حالةَ كاسي كضحية تُحارب قوى متناقضة داخلها وخارجها. هذا المزيج يضعُ المُشاهِدَ أمامَ معضلةٍ مركّبة، الصدمة لا تُشفى، والغضب لا يُنفِّس عن العدالة، بل يُبقي الضّحية عالقة في منطقة نفسية رمادية.
يتلاعب الفيلم بمفهوم التوقعات البصريّة من خلال تكوينٍ لونيّ مدروس بعناية، في المشهد الافتتاحي، كاسي المخمورة تتوسطُ المشهدَ بقميصٍ أبيض، بينما تحيطها ظلالٌ زرقاء داكنة، ترمز للغموض والتهديد الكامن. في المقابل، تهيمنُ الديكورات الحمراء داخل النادي، لتضفي شعورًا بالخطر والعنف، ما يخلق توترًا حسيًا يعكس الديناميكيات النفسيّة للمشهد.
هذا المزجُ بين الألوان يخدم الجانب الجماليّ، ويرسّخ ثيمات الفيلم الرئيسة حول المواجهة والتلاعب. الأبيضُ الذي ترتديه كاسي يصبح أشبه بقناع، يعكس صورتها الظاهرية كفريسة سهلة، بينما يكشف الأزرق الداكن عن قلقٍ دفين، ويتحول الأحمر إلى مرآة للاحتقان الاجتماعي والعنف المستتر الذي تسعى لكشفه. من خلال هذه التفاصيل، يُظهِر المشهد قوة السّرد البصريّ في إيصال رسائلَ الفيلم دونَ الحاجة إلى كلمات.
تستغل إميرالد فينيل الإضاءة الخافتة والألوان المشبعة لتقديم تناقض واضح بين مظهر الرجل المهذب ونواياه الحقيقية عندما تكشف كاسي عن وعيها الكامل وتواجهه، يتم قلب الموقف التقليدي للقوة الذكورية. المشهد يسلط الضوء على الخطر الدائم الذي تواجهه النساء في المواقف اليومية، ويُظهِر مدى تطبيع المجتمع لسلوكيات الذكور العدوانيّة.
يتسيّد مشهدَ المقهى بين كاسي وحبيبها ريان Bo Burnham حضورٌ لونيٌّ بالغ الرهافة، تتصدره الألوان الباستيلية وعلى رأسها الورديّ الذي يتجلّى في ملابس كاسي. يعكس هذا اللون لحظةً نادرة من الهدوء والدفء، وكأنه يُعبّر عن محاولة مستميتة من البطلة لاستعادة جوهر ذاتها الرقيق الذي تآكل تحت عبء الانتقام. الورديّ هنا يوحي بوهم الأمان العابر؛ إنّه محاولة لإعادة بناء عالم داخلي نقي وسط الخراب العاطفي.
تصميم المقهى وإضاءته الحانية يشكلان فضاءً بصريًا يخلقُ إحساسًا ظاهريًا بالحميميّة والرغبة في التمسك بوهم البدايات الجديدة، لكنّه يُخفي في طياته توترًا خفيًا يَشي بهشاشته وقابليته للانهيار، تكشفُ اللحظة عن صراع كاسي العميق، بين إغراء الأمان الذي يُقدمه رايان وبين انغماسها في الانتقام الذي أصبح جزءًا من هويتها.
تتبدل الألوان في المشاهد اللاحقة إلى الداكنة حينًا والباردة حينًا آخر، يكشف هذا التحول عن فقدان كاسي توازنها العاطفي، وعودة الظلال الثقيلة لخطة الانتقام التي تتربص بها. حيثُ تُصبح الألوان لغة الفيلم الأبرز، تَنقل الحالة النفسية للشخصية، مشدّدة على الصراع الداخلي بين الأمل المستحيل والواقع القاسي الذي يهيمن على حياتها.
تتداخلُ ظلال الأرجواني الباهتة مع تكوينات المشهد السيميترية الذي يجمع بين كاسي والمحامي جوردن alfred molina، الذي برأ المغتصب وساهم في تمويه الحقيقة. تمتد هذه الظلال إلى أدق التفاصيل، من الإضاءة الخافتة إلى النباتات الذابلة والديكورات، لتخلق جوًا ثقيلًا يفيض بالخراب النفسي. الأرجواني، الذي يتداخل مع الأزرق الباهت، يتحول إلى أداة بصرية تُجسد التوتر الداخلي للشخصيتين: جوردن المحاصر بشعور الذنب الذي يلتهم ضميره، وكاسي الممزقة بين شهوة الانتقام وصراعها مع إنسانيتها أمام اعتراف جوردن المُفاجئ.
يُصبح اللون في هذا السياق انعكاسًا مرئيًا للصراع بين العدالة والرحمة، متجاوزًا الفضاء المادي ليحكي عن هشاشة العلاقات الإنسانية عندما تتداخل الجريمة بالأخلاق.
يهيمنُ اللون الأزرق الباهت ليُجسد فراغًا أخلاقيًا عميقًا، على مشهد المواجهة بين كاسي وحبيبها ريان، الأزرق الذي يرتبط عادةً بالثبات والرجولة، يتحول إلى مرآة تكشف هشاشة القناع الذي يرتديه ريان، في محاولة للتستر على تورطه في الجريمة.
مع عرض كاسي للفيديو الذي يوثق تورط ريان في تصوير الاعتداء على صديقتها، يتحول الأزرق من خلفية خافتة إلى لغة بصرية تُعرّي تفوقه الزائف. الأزرق الذي يتخلل كل تكوين داخل عيادة رايان لا يلتزم هنا بالحياد، بل يبين انعدام الفارق الأخلاقي بين اللامبالاة التي أبدتها شخصيته في تلك اللحظة وبين استمراره في إخفاء تورطه، ويتحول إلى لغة مرئية تعبر عن موت الضمير، و تكشف الفجوة بين رغبة كاسي في الانتقام وبين صدمتها بحبيبها.
يقدم السيناريو – الذي حاز على الأوسكار- رؤية سينمائية جريئة تحلل التواطؤ النسائي في جريمة الاغتصاب ضمن نظام اجتماعي معقد. وتُظهر كيف أن بعض النساء، رغم كونهن ضحايا، يساهمن في إعادة إنتاج العنف، إمّا بالخوف والصمت أو حتّى المشاركة الطوعية. المشهد الأبرز في الفيلم هو المواجهة بين كاسي ووالكرعميدة كلية الطب Connie Britton، حيث يصطدم سعي كاسي للكشف عن الحقيقة بالهيمنة النسائية المتواطئة التي تدافع عن النظام القائم. العميدة تُجسد السلطة التي تبرر العنف بالصمت والموافقة غير المباشرة، وهذا ما يتكشّف لنا في الإضاءة الترابيّة التي تحيط بها، الضوء الترابي، الباهت والمصطنع، يتداخل مع ألوان ذهبية تتناثر في المشهد لتُجسّد النبل الزائف الذي تتبناه العميدة، وتكشف هشاشة تمسُّكها بالقيم الموروثة التي تُفضّل الصمت على الحقيقة. في المقابل، تضع الإضاءة الباردة كاسي في إطار ظلال متوترة، كأنّها الضوءُ الوحيد الذي يُمكنه كشف الخداع والعنف المستمر، فالألوان والإضاءة هنا دلالاتٌ بصريّة تُعبّر عن الصراع بين الحقيقة والنظام القائم، مما يعكس التوتر بين النساء المتواطئات والنساء الساعيات لإظهارها.
يطغى الأرجواني بمعناه الفكري على مشهد المواجهة بين كاسي وآل مونرو Chris Lowell الزميل الطبيب الذي رتّب ونفّذ جريمة الاعتداء على صديقتها، تتنكر كاسي بزي ممرضة مثير وتدخل حفلة آل لتوديع العزوبية. الألوان التي تغلف المشهد، من الأزرق الباهت إلى الأرجواني والزهري في خصلات شعرها، تعكس الصراع الداخلي بين رغبتها في الانتقام والموت الذي يقترب منها. الأزرق هنا يصبح ظلال تلتهم الضوء وتزيد من حدّة العنف، فبعد أن تمكنّت كاسي من تكبيل آل لتنزع اعترافه بالجريمة استطاع تحرير يديه وخنقها بمشهد وحشي صامت. ماتت كاسي في سبيل العدالة التي سعت لتحقيقها ليطرح الفيلم سؤالا جوهريا هل يستحق تحقيق العدالة كلّ هذه التضحية؟
يستمر حضور الأزرق في الفيلم بظلٍّ مأساويّ ويرافق كاسي حتى في لحظة موتها، حيث نشاهد ظلال الأزرق تُغطي قبرَها. فاللون هنا تجسيد قاسي لاستمرار السلطة الذكورية، إنّه تذكيرٌ بأنّ النظام لا يرحم ولا يترك مجالًا للخلاص، حتّى في غياب ضحيته.
طوّعت أميرالد الألوانَ السينمائية لخدمة فكرتها، فكانت أدواتِها لتعرية القبح المخفي، ودعوةً للتأمل كيف تُعيد المجتمعات إنتاجَ عنفها عبر العادات والقوانين والصّمت الجماعي. طارحةً سؤالًا عميقًا عن ماهية السلطة والمعاناة والتمرد. وعن إعادة تعريف العدالة محاولةً استكشاف قسوة الواقع ومحاكاة صراع النساء مع الأنظمة التي تقمعها.
ناقدة سينمائية من سورية
التعليقات