بدأت وحدة المواهب الأدبية بمركز رعاية الموهوبين والمبدعين، جامعة بنها، والتي تحتضنها قاعات المكتبة المركزية بالجامعة، ورشتين إبداعيتين عن (مهارات كتابة الشعر)، يحاضر فيها الشاعر والروائي أشرف أبو اليزيد، وعن (مهارات كتابة القصة القصيرة) يحاضر فيها الروائي والباحث في التراث فؤاد مرسي.
النشاط يقام برعاية الأستاذ الدكتور ناصر الجيزاوى (رئيس جامعة بنها)، والأستاذ الدكتور تامر سمير (نائب رئيس الجامعة لشئون التعليم والطلاب) الذي قام بزيارة وافتتاح الورشتين، وحث حضورهما على الاستمرار، وخاصة في فصل الصيف، حيث يتواصل النشاط في الوحدة بإشراف الأستاذة الدكتورة منى نصر (مدير مركز رعاية الموهوبين والمبدعين بالجامعة)، والدكتور وليد أحمد سمير (مدير الوحدة). وتأتي الورشتان ضمن فعاليات (النادى الأدبى) ومبادرة (صناعة أديب) المخصصتين لطلاب جامعة بنها الموهوبين. ومن المقرر أن تتواصل الورشتان، غدا، وتختتمان يوم الخمس، ويمنح المشاركون شهادات بإتمام التدريب.
وتنشر (آسيا إن) نص المحاضرة الأولى حول مهارات كتابة الشعر، للشاعر أشرف أبو اليزيد، والتي أعقبها بقراءة نماذج شعرية ومناقشتها، مؤكدا على أنهلا شعر بدون مغامرة، وأن المفردات الجرداء في القاموس لا تصنع شعرا، وإنما تتحول حين تنسجها الصورة الشعرية، وأن الشاعر جب أن يقرأ في العلوم والتاريخ، فهي مصادره، وأن الحياة اليومية وإيقاعها تدريب على الكتابة، كما أن التقليد قد يساند بدايات الكتابة، لكنه لا يجب أن يستمر، وأن الحوار مع اللغات الأخرى، لا يعني إهمال اللغة العربية، فاللغة ثقافة، وأهمية اللغات الأخرى هي في حمولاتها الثقافية.
المحاضرة الأولى
أشرف أبو اليزيد
أعرفُ أن حضورَكم اليوم إعلانُ حُبٍ، الحبُّ للغةِ والأدبِ، والحب للقراءةٍ والكتابةِ، والحب للشعرِ، وربما الحب للشعراء والشاعرات.
لكنني سأسألُكم، وأستبينُ منكم، عن سرّ هذا الإعلان ومصدر هذا الحب، وسأبدأ بسؤالي: لماذا نكتب؟ قبل أن أنتقلَ لسؤالي التالي: لماذا نكتب الشعر، ولأختتم هذه المحاضرة الأولى بسؤال – سيمتد حتى آخر ورشتنا – كيف نكتب الشعر؟
أما لماذا نكتب، فهناك أكثر من إجابة، ستختارون منها الأقرب لذواتكم، والأهم لكم، والأكثر معنى لذائقتكم. فهل نكتب، لأننا نحب الأدب، قراءة وكتابة، أم لأننا نريد التوثيق، حتى تكون لنا ذكريات مُدوّنة، أم نكتب لأننا نُحيّ الثرثرة الخلاقة، بأن نحكي قصصنا الخاصة، أم نكتب لكي نُمضي الوقت في أمر مفيد، لأننا نعتقد أن الكتابة ستكون – يوما ما – مربحة، ولذلك هناك من يكتب ليحصل على جائزة.
هل نكتب لأن هناك نموذجا خاصا نريدُ أن نتتبع مساره، أعرف أن كثيرين أيام شبابنا في الجامعة هنا، منهم من أراد أن يكون نزار قباني، ومنهم من سار على خطى محمد عفيفي مطر، وكان يعجب جيلَنا من المبدعات أن هناك شاعرة شهيرة تسكن بنها هي وفاء وجدي، مثلما كان من يكتب شعر العامية يفخر بأن الشاعر محمد الشرنوبي شاهين بلدياته.
هل نكتب لنكون مشهورين، وهنا أتحدث عن الشهرة الإيجابية، فهناك أيضا مجرمون مشهورون، والشهرة ليست الهدف المطلق، وإنما الشهرة التي تماثل شهرة الأدباء الأعلام.
هل نكتب لنعبِّر عن تفوقنا؟ لنصرّح باختلافنا؟ هنا نحن نضع الكتابة الأدبية فوق المألوف والاعتيادي. فهل نكتب لأننا نستجيب لنداء داخلي بأننا نختلف عن الذين لا يكتبون؟
ودعوني أسألكم، مجددا، لماذا نكتب، وأستمع منكم عن سر الانحياز للكتابة. هل نكتب لأن هناك ما يستحق الكتابة عنه، ومن يستحقون أن نكتب عنهم؟ هل نكتب سعيا للخلود، فالكل فان، لكن إرثَ الكتابةِ باق، ولذلك نحن نقرأ كتاباتٍ غابَ أصحابُها، ليس من سنوات، ولكن من عقود، بل ومن قرون.
هل نكتب لأن هناك إلهاما خاصا ووحيا خصوصيا لكل منكم، يجلس الشاب أو الشابة فتنهال عليهما الخواطر، ويهبط عليهما وحي الإلهام، وكأنها دعوة سماوية لهما ليمسكا القلم، وحسْب، ويدونا ما جاء به ملهمهما.
هل نكتب لأننا نحب العزلة؟ فأغلب المؤلفينيؤمنون باختيار ركن منعزل يمارسون فيه الكتابة، سواء بمكتب أو ببيت، أو حتى في مقهى.
هل نكتب لأن لدينا الوقت الكافي للكتابة؛ فالكاتب يحتاج وقتا لكي يحول الأفكار إلى كلمات، ويحتاج أيضا وقتا ليعدل الكلمات والعبارات، ويحتاج بالمثل وقتا لكي ينشر ما يكتب، ويحتاج كذلك وقتا ليتابع من يقرأ ومن يعلق.
ولكن إذا كانت تلك أسئلتُنا، عن سبب اتجاهنا للكتابة، على نحو عام، فإن السؤال الأكثر جدلا هو: لماذا نكتب الشعر؟
هل لأننا نشعر بأن لغة الشعر هي الأسمى، أسمى من لغة السرد في القصة والرواية والمقال، وأسمى من لغة الحوار في المسرح، وأسمى من الكلام المعتاد على شاشة التلفزيون، وفي المجال العام، سواء كنا في البيت، أو في حرم الجامعة، أو حتى في المطعم!
في أيام دراستي أيام سنوات الإعدادية والثانوية، كان اختياري الشعر لكتابة موضوع التعبير، على سبيل المثال، رغبة مني في إعلام أستاذي بذلك التمكن من اللغة، وأنني أستطيع أن أقيّد السطور في وزن، وأنهيها بقافية.
هل نكتب الشعر لكي نخاطب به من نحبهم؛ كأن نكتب قصيدة للأم في عيد الأم، أو للأصدقاء في أعياد ميلادهم، أم نكتبه لكي نعبر – بشكل عام – عن العاطفة، سواء كانت عاطفة الحزن أم البهجة وربما كذلك مشاعر الغضب.
هل نكتب الشعر لأنه أيسر حفظا، يمكن بسبب موسيقاه وإيقاعاته أن يستقر، خاصة مع سهولة ترديده، وإنشاده. وهل نكتبه – الشعر – لأننا نحب أن نغنيه؛ فما أيسر أن تحول القصيدة إلى أغنية، بسطوتها في الحضور، خاصة إذا شدا بها مطرب مشهور. فالشعراء كُثُر، ولكن أشهرهم من انتقلت قصائده عبر الأذان في كل مكان وزمان وهو ما سمح به الأغنية.
هل نكتب الشعر، لأنه سريع التدوين، خاصة ونحن في عصر يلهث فيه الجميع، سرعة تواكب كل ما يجري حولنا، وتحتاج سرعة استجابة يمكن أن تلبيها كتابة الشعر.
هل نكتب الشعر لأننا تأثرنا بالشعراء، ولأن مثلنا الأعلى في الحياة منهم، سواء كانوا من درسنا لهم مثل شعراء المعلقات، ومن حفظنا قصائدهم، مثل شعراء العصر العباسي، ومن تغنينا بقصائدهم، مثل شعراء المهجر، ومن نعيش قصائدهم كل يوم، مثل الشعراء الذين اختارت أم كلثوم، مثلا، أن تغني لهم.
هل نكتب الشعر لأننا مأسورون بسير الشعراء، فمنهم من أصبح سفيرا، ومنهم من أصبح يشغل وظيفة مرموقة، ومنهم من نال المال والجوائز، والشعراء يسافرون عبر العالم ويلتقون في المهرجانات، ولهم معجبون ومعجبات.
أريد أن تكون إجابة كل منكم مختلفة عن إجابة الآخر، لأن الشاعر يريد أن يكون مختلفا، وسأسعد حينما أسمع من يقول إنه اختار الشعر لأنه لا يرى نفسه إلا شاعرا.
***
واليوم سيكون الختام، لهذه المحاضرة الأولى، قبل الاستماع إليكم، أن نجيب عن كيفية كتابة الشعر.
قبل نحو سبعة قرون وضع صَفِيُّ الدينِ الحِلِّي (677 – 752 هـ / 1277 – 1339 م) وهو أبو المحاسن عبد العزيز بن سرايا بن نصر الطائي نظما في تسمية بحور الشعر.
وبحور الشعر – أو البحر الشعري – اصطلاح أدبي يسمي مجموع التفاعيل (التي تأتي من جذر الكلمة ف ع ل) والتي تنظم وفقها أبيات الشعر، والتفاعيل هي أوزان، بين حروف ساكنة نرسمها بالسكون (ْO) والحركة (-) لأن الحركة يرمز لها بشرطة، والسكون يُرمز له بالدائرة. لذلك كلمة فعولن سترسم هكذا:
_ _ O _O
أي أن أمامنا حركتان فسكون، وحركة فسكون، لنكوّن كلمة (فعولن)، والبحر هو ذلك العقد الذي ينظم عليه الشاعر قصيدته، ومكتشف هذه البحور هو اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي وأول من وضع مفاتيح البحور هو صفي الدين الحِلي.
وينقسم البحر إلى شطرين متطابقين في نوع التفاعيل وعددها:
طَوِيلٌ لَهُ دُونَ الْبُحُورِ فَضَائِلُ
فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ مَفَاعِلُ
لِمَدِيدِ الشِّعْرِ عِنْدِي صِفَاتُ
فَاعِلَاتُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلَاتُ
إِنَّ الْبَسِيطَ لَدَيهِ يُبْسَطُ الْأَمَلُ
مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُ
كَمُلَ الْجَمَالَ مِنَ الْبُحُورِ الْكَامِلُ
مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُ
بُحُورُ الشِّعْرِ وَافِرُهَا جَمِيلُ
مُفَاعَلَتُنْ مُفَاعَلَتُنْ فَعُولُ
عَلَى الأَهْزَاجِ تَسْهِيلُ
مَفَاعِيلُنْ مَفَاعِيلُ
فِي أَبْحُرِ الْأَرْجَازِ بَحْرٌ يَسْهُلُ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُ
رَمَلُ الْأَبْحُرِ تَرْوِيهِ الثِّقَاتُ
فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُ
بَحْرٌ سَرِيعٌ مَا لَهُ سَاحِلُ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُ
مُنْسَرِحٌ فِيهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ
مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولَاتُ مُفْتَعِلُ
يَا خَفِيفًا خَفَّتْ بِهِ الْحَرَكَاتُ
فَاعِلَاتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلَاتُ
تُعَدُّ الْمُضَارِعَاتُ
مَفَاعِيلُ فَاعِلَاتُ
اِقْتَضِبْ كَمَا سَأَلُوا
مَفْعُولاتُ مُفْتَعِلُ
إِنْ جُثَّتِ الْحَرَكَاتُ
مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلَاتُ
عَنِ الْمُتَقَارِبِ قَالَ الْخَلِيلُ
فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولُ
حَرَكَاتُ المُحْدَثِ تَنْتَقِلُ
فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُ
تمكننا معرفة البحور، وكيفية نظمها، أن نزن السطور، ونرسم الأبيات وفقا لذلك الرسم، ويمكننا أن نتدرب على كتابة البحور بأن نحول الكلام إلى أبيات موزونة، ولكن هل يكفي أن نعرف الأوزان والبحور – وكيفية الكتابة وفقها – هل يكفي ذلك لنقول إننا نكتب شعرًا؟
الحقيقة أن الإجابة بالنفي، فليس كلَّ كلام موزن بشعر، وإلا كانت محاولة “الحلي” في التعريف بالبحور قصيدة، وكانت ألفية ابن مالك – في شرح قواعد النحو – شعرا. يمكننا أن نتدرب، وأن نحاكي، وأن نقلد، وأن نطبق الوزن تطبيقا لا تشوبه شائبة، ولكننا مثلما لا يمكننا أن نحوّل النحاس إلى ذهب، لن نحول النظم إلى شعر، لأن الشعر يحتاج كيمياء خاصة ليُحدث هذا التحول؛ كيمياء فطرية تأتي بالموهبة، وكيمياء علمية تُصقل بالدراسة، وكيمياء ناضجة تنبغ بالخروج عن المكرور والمعاد، ليكون لكل شاعر صوته الخاص.
معظم الشعراء يبدأ حياته (التأليفية) بالتقليد، وأشهر نماذج التقليد المحمودة المعارضات، لأن الشاعر يأخذ قصيدة معروفة، وينشيء على وزنها ما يعارضها، وربما ما يناقضها، ويتبع في ذلك وزن القصيدة الأصلية.
أذكر أنني حين كنت طالبا هنا، اجتمعنا في أمسية حول كتاب واحد. كانت قصائد هذا الكتاب كلها معارضة لقصيدة واحدة، تبارى الشعراء في الكتابة على وزنها، وما أيسر الكتابة حين تأتي وفق طريق مرسومة، ووزن تعرفه الأذن، وشطرات محددة، وتبقى موهبة المقلد أو التابع للأصل أن يسير على النهج، ولكن بمفردات جديدة.
ولكن التقليد خطر، والأخطر أن يبقى مؤلفه تابعا له طوال حياته الأدبية، فما أكثر من قلدوا الشاعر نزار قباني، لكنهم ظلوا نسخا عنه، وظلت تهمة التقليد لصيقة بمن يقلده، لا تنقص إلا من التابع، لا المتبوع.
أعتقد أنني كنتُ في السنة الثالثة بالكلية حين أشارت علي أستاذتي في أدب الرواية بأن أعرض قصائدي على أديبة مشهورة، وبالفعل أخذت مجموعتي المدونة في (أجندة)، كنت أنقح فيها كتاباتي الشعرية المبكرة، وكانت كما تتوقعون كلها تأتي في إطار الشعر التقليدي، بأوزانه وقافيته، وموسيقاه الصادحة، وذهبت إليها في الجامعة بالقاهرة، وتحاورنا كثيرا، وحين انتهى حوارنا أوصلتني بسيارتها إلى محطة القطار، ولا تزال كلماتها في أذني: “إن ما قرأته لك يقول بأنك شاعر، ولكنك تكتب بالطريقة التي يكتب بها الشعراء القدامى، وستظل أسيرا لهذا النهج ولن تتجاوزه، فلن تكون أحمد شوقي الثاني، ولكن يمكنك أن تكون أشرف أبو اليزيد.”
كانت تلك كلمات دكتورة رضوى عاشور، التي ألهمتني إلى التحول الشعري، فآخذ مسارًا يخصني وحدي، وهو ما سنسعى إليه في مشوار هذه الورشة، كيف يمكن كل منكم أن يكون له صوته الشعر الخاص. كيف تكتب شعرا ينتمي إليك، وكيف تكتب قصيدة تصبح علمًا على أسلوبك في الكتابة.
سأنتظر منكم المرة القادمة، أن تقدموا ورقة أقرأ فيها نموذجا قصيرا من كتاباتكم الشعرية، وأن ترفقوا فيها إجاباتكم حول الأسئلة التي طرحتها عليكم في بداية حديثنا اليوم:
لماذا نكتب؟
لماذا نكتب الشعر؟
وكيف نكتب الشعر؟
هذه الإجابات هي التي ستأخذنا إلى تفاصيل أكثر عن مهارات أساسية في كتابة القصيدة، وأسرار كتابة الشعر.
نُشر طبقاً لبروتوكول النشر الدولي المشترك مع مجلة "آسيا إن"
التعليقات