نبحث طوال حياتنا عن أولئك الرائعين الذين يقفون بمقربة من قلوبنا، عن أثرياء النفوس، نلتصق بصانعي المودة ونحب أن نعيش بينهم.
فهل سألت نفسك يومًا ماذا قدمت يا صديقي لمن أحببت؟ ما هو موقعك على خريطة قلبه؟ هل أنت شخص لا يُعَوض؟ هل يمكن استبدالك؟
إن أحد أسباب وجودك في هذه الدنيا هو أن تجعل وجودك في حياة الآخرين لا يُعَوض، ألا يتخيل من أحبك أن يفارقك، أن يكون حضورك مرحب به في المجالس وأن تظل بين أحبابك مولد السعادة.
الحب البنّاء صناعة مُجْهِدة، و"البيوت المطمئنة" هي الوحيدة القادرة على إنتاج بشر أسوياء أقوياء قادرين على معاودة إنتاج المزيج الجيد من الحياة.
المكان الذي يطلق عليه بيت ليس هو المكان الذي ولدت فيه، لكنه ذاك المنزل الذي تتوقف داخله محاولاتك للهروب من الحياة.
عدا ذلك تصبح البيوت جدران واهية غير حامية ويتساوى وجودك داخلها أو خارجها.
البيت مثل السفينة تحتاج المياه تحتها لتظل تُبحِر طافية، أما البيوت المطمئنة فهي تلك "السفن ذات الأقدام"، إن جفت المياه تحتها تكمل الأرجل المسير لتصل بك إلى مرفأ الأمان.
السعداء يخرجون من بيوت دافئة، يلتحفون إبط الكِبار، يتنفسون الحماية والأمان إلى أن يشبوا عن الطوق ويعيدون إنتاج الإنسان الذي تربى بداخلهم.
تنهار مؤسسة الزواج في بلادنا لأن عقيدة العطاء داخل بيوتنا قد اختلت بشدة.
أصبح الجميع ينظر للزواج على أنه حالة اجتماعية مُتَطَلبة للكثير من الجهد الذي لم يعتاد عليه، فيفشل وينتج أجيال لم تستوعب أن سبيل العيش الآمن يتوقف على حجم عطاؤك وليس تَلَقيك.
عندما نقف بين يدي الله سنذهل من قوة الحساب ودقته، إنه الموقف الجلل الذي لن تتمادى حدته إلا إذا حولت عقيدة الأخذ إلى عقيدة عطاء.
أبناءنا صناعتنا، يحتاجون قلوب داعمة، آذان صاغية، وأيادي وأحاديث تدفعهم للأمام. توفير سبل العيش لهم لا يضمن لهم السعادة لكن تعليمهم صناعة تلك السعادة هو سبيلنا الوحيد كي نتركهم في الحياة آمنين.
إنها لمنتهى العافية أن يشب الأبناء متصلين بآبائهم وإخوتهم، أن تظل المودة بينهم أهم مكاسب دنياهم، أن يحبون بعضهم البعض أكثر من حبهم لأنفسهم، أن تتحول أحلامهم البسيطة لسباق يتنافس فيه الجميع، أن يكون التنافس للوصول إلى خط النهاية تنافس جماعي يفوز فيه الجميع في نفس التوقيت وبمنتهى الحب، وأن نترك لهم ميراث من التكامل وليس التنافس.
أعرف جَدي جيدًا وأبي وأمي، لكني لا أعرف جد جدي، رأيت صورة كبيرة له في بيت أمي، أعرف أنه أحد هؤلاء البشوات من زمن مضى وكان أحد قامات ميناء الأسكندرية، لكني لم أعرف أبيه.
بعد خمسون عامًا من اليوم سنكون تاريخ، لن يعرفنا أكثر أهل الأرض، لكن هنالك البعض منا سيظل الله يعرفهم جيدًا والملأ من حوله. وإن كانت لي أمنية اليوم فهي أن يظل أهل السماء يذكرونني بالخير.
الطريق الممهد إلى الجنة تبدأ أولى خطواته على الأرض. رغم أن البنون زينة الحياة الدنيا فبعض الآباء يشوهون هذه المِنّة ويلقون بفضل الله عليهم بين رحايا الدنيا لأنهم ببساطة غير قادرين على العطاء.
تزوجت صغيرة جدا في السن بمقاييس أيامنا هذه، كنت أسمع والد زوجي وصديقي الحبيب رحمه الله يقول لي: "يا إبنتي إن العطاء متعة".
كنت أسمع الجملة ولم أعيها وقتها جيدا، إلى أن رزقني الله أبنائي الثلاثة بارك الله فيهم، فوعيت الدرس جيدا وأدركت أن متعة العطاء تلك يسبقها سنوات من الكد والسعي والحضور الجميل داخل قلوب الأبناء.
أنت نَسْلَك إلى أن تقوم الساعة!
إن أعظم السعي هو ذاك الذي تحققه داخل قلوب أبنائك، ليس لتوفير العيش الكريم فقط بل الآمن منه، أن يدرك الأبناء أن هناك ظهر من خلفهم، كتف يقيمهم وساعد أمان، أن نتقبل عيوبهم كما نحب مميزاتهم، أن نجعلهم أنفسهم وليس نسخة مصغرة منا، أن نعالج عيوبهم ليصبحوا نسخة أفضل من أنفسهم وليس نسخة ترضينا وتتوافق مع متطلباتنا، أن تكون عين المحبة هي ما يحرسهم، وأن نتقبل مواطن ضعفهم ونسعى بكل كد لرأب صدع نفوسهم.
تلك الأمانات في دنيانا هي لنا منتهى الحياة!
المال يوفر بعض أسباب السعادة لكن التواجد في حياة أبنائك هو ما يوفر لك كل ما تبقى من متع خفية.
إنها لأيام أو أشهر أو سنوات قليلة، ثم سنصبح ذكرى؛ احرص من الآن فيما تبقى لك من عمر أن تصبح تلك الأرجل تحت تلك السفينة، إن جف الماء من تحتها يستمر جريان المحبة من خلالك.
التعليقات