المتأمل في عنوان الديوان الأول للشاعر محمد هشام "ثم لم يأتِنا الماء"، يدرك تاما أن هناك معطوفًا عليه محذوفًا لم يشأ الشاعر أن يخبرنا به، وترك ذلك لاستنتاج قراء الديوان. فما الذي حدث قبل (ثم)؟
إن هناك فعلا حدث أعقبه عدم ورود الماء أو كانت نتيجته عدم إتيان أو جريان الماء. ثم نتأمل ضمير المتكلمين المتصل (نا) في الفعل المضارع المجزوم "يأتنا" فالماء لم يأتنا نحن، ولم يأتِ قوما آخرين غيرنا.
لم نجد ضمن قصائد الديوان الست عشرة، قصيدة تحمل عنوانه، أي لا توجد قصيدة بعنوان "ثم لم يأتنا الماء"، ولكن عثرنا على العنوان في قصيدة "المصابيح" التي يقول فيها الشاعر:
نحن كنا نبيع المياه
رسوما عليها روائح أحلامنا
ونحوز اللآلئ يأكلها الصبية المتعبون
ثم لم يأتنا الماء يا صاحبي
بل أتى الإفكُ من مائه
فشربنا
القصيدة مؤرخة 15/5/2012 (أي بعد ثورة يناير 2011) ولهذا قام الشاعر عماد غزالي في تقديمه للديوان، بتسييس العنوان، قائلا: "هناك قصائد استطاع الشاعر فيها أن يهبط قليلا إلى الأرض، ليعالج شيئا من تلك الدراما الإنسانية الضخمة التي نعايشها جميعا منذ بدء الثورة إلى الآن، وهي تلك الدراما الحرجة التي تقلبنا على جمرها بين الجموح والفرح والأمل حينا وبين الشقاق والإحباط واليأس أحيانا أخرى".
وقد أشار غزالي إلى قصيدة "المصابيح" ضمن ما أشار إليه في هذا الصدد، وأوضح أن انتقاء "ثم لم يأتنا الماء" كعنوان للديوان يحيل إلى الآني وإلى تفاعلات اللحظة.
ويبرر غزالي ذلك بأن الشاعر يخشى كثيرا أن يتورط في التحديد والتأطير، لأنه يملك من الذكاء والحدس ما يمكنه من التروّي، وما يسمح له بإدراك استمرارية الثورة وصيرورة التفاعلات المصاحبة لها، وأنه إذا كان الماء لم يأتنا للآن (صدر الديوان 2014 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب)، فإنه قد يكون في طريقنا أو نكون في طريقه، ولو وصلنا أو وصلنا إليه بعد سنوات وسنوات.
هذا وجه مقبول من وجوه التأويل النقدي للنص الشعري، خاصة أن رمزية الماء تتعدد في تراثنا الشعري والديني "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
وفي كتابه "رمزية الماء في التراث الشعري العربي" يقول عزيز العزباوي إن "الماء هو مصدر الحياة على وجه الأرض، به تزدهر وتخضر وتشرق وبواسطته تصير الطبيعة في أوج عطائها وبذخها وخصبها، فتغدق على الإنسان والحيوان والطير كل ما ينعم به ويحيا سعيدا. إنه وسيلة للسعادة والنور والإشراق والفرج، ومادة حيوية لممارسة كل أنواع النشاط البشري، فهو المنقذ من الجفاف والعطش والظمأ والفقر والفاقة والحاجة، ولولاه لما كان الإنسان في أبهى حلة فتظهر على محياه السعادة والحبور".
فإذا كان للماء كل هذه الرمزية، فإننا بالفعل في انتظار ما يجود به ماء الثورة الذي لم يصل إلينا بعد، وإن كانت هناك مؤشرات تدل على أنه في طريقه إلينا، أو نحن في طريقنا له.
ولكن هل من باب الصدفة الأدبية أن يرثي شاعرنا محمد هشام، المعتمد بن عبَّاد صاحب إشبيليه في واحدة من أهم وأجمل قصائد الديوان "مرثية المعتمد" وأن يتناول عزيز العرباوي مائية المعتمد بن عباد في كتابه المشار إليه في قوله:
"يختلف المعتمد بن عباد عن الآخرين في رؤيته لأهمية الماء، خاصة بعد أسره وسجنه، فالماء كان يمثل له معنى الحاجة والحزن والخوف على مصيره وعلى مصير أولاده، وفضاءاته تمثل له أمكنة بعيدة المنال ومستحيلة الزيارة بعد النعيم الذي عاشه أثناء حكمه في قصوره وبساتينه حيث الماء الزلال والعذب".
ويستعير هشام في مطلع قصيدته قول المعتمد:
"صنع الريحُ من الماء زَرَد"
وليس الهدف من قصيدة هشام هي البحث عن مائية المعتمد كما بحث العرباوي، ولكن الشاعر هنا يوظف مشاهد من سيرة حياة المعتمد وخاصة في علاقته مع حبيبته الرميكية، ليسقط لنا على الحاضر الذي تعيشه أمتنا العربية الممزقة حيث "دولة العاشق أقوى من دويلات السيوف".
مع أن عصرنا كله الآن عصر سيوف وقتل وسحل وقنابل وطائرات وحروب "فأي درع لقتال لو جمد؟" فكيف تكون دولة العاشق أقوى، وهي المقولة التي أدت إلى هزائم العرب والمسلمين في الأندلس، وفرارهم منها.
وبينما تنبه الرميكية المعتمد صاحب إشبيليه، وهما في مخدعهما يمارسان الحب بقولها:
سيدي اسمع لنداءات الرعية
إن للدولة حكمًا وعهودًا ووصية
فإذا بالمعتمد يقول لوزيره:
يا وزيري إنها فردوس روحي
فلماذا العود من حلم أثير؟
وبينما جيوش الفونس تجتاح المدينة، فإن ابن عبَّاد يغني لاعتماد الرميكية!
وفي صورة شعرية قوية يقول محمد هشام:
عادت الروم إلى السفح تغير
وابن عبّاد يغني في السرير!
وفي نهاية القصيدة (الأقرب إلى الملحمة الشعرية) يسأل الشاعر نايه الحزين:
أيها الناي الحزين
هل ـ ترى ـ
يوجد في العالم أشباه ابن عباد؟
يجيب الشعر:
لا تسأل
وحدق في وجوه الحاكمين.
ونحن نحتاج فعلا إلى أن نحدق في وجوه الحاكمين، لنرى من الكاذب فيهم، ومن الصادق الأمين.
لقد اتخذ الشاعر من سيرة المعتمد بن العبَّاد سلما لموقف شعري خالص لا بغرض السرد وكفى، وكأنه يهرب للمرة الثانية من تسييس قصائده، مع أن التسييس واضح للعيان، وخاصة مع إسدال الستار على تلك القصيدة التي تؤكد وعي الشاعر واختياره لحظات ثرية في تراثنا الشعري يضيء بها المشهد المعاصر دون خطابة أو مباشرة أو تقريرية فجة.
وعلى المستوى الفني لاحظت أن شطر البيت الذي استعاره هشام من المعتمد هو الذي تحكَّم في إيقاع وموسيقى القصيدة بعد ذلك، فشطر المعتمد جاء من بحر "الرمل" الذي يتكون من تكرار التفعيلة "فاعلاتن" ثلاث مرات في كل شطر شعري، وهي التفعيلة نفسها التي نهج الشاعر عليها طوال قصيدته، بل اتخذ منها قاعدة موسيقية لعدد من قصائده بعد ذلك.
ويبدو أن التاريخ الأندلسي حاضر بقوة في وعي الشاعر، فيختار رمزا آخر من الفردوس الأندلسي المفقود هو "فلورندا" (فتاة في بلاط الأندلس) حيث عطر الأميرات الحيارى ينغمس، وتعد القصيدة واحدة من أجمل قصائد الديوان الذي يؤكد أن صاحبه على دراية واسعة بفن الشعر، وذو موهبة شعرية حقيقية، اتضحت في تعامله مع اللغة والصورة والموسيقى، والتناص الديني والشعري الذي لا تخلو منه قصيدة من قصائد الديوان، وغير ذلك من مقومات شعرية يعتمد عليها الشاعر المعاصر في تجاربه الحديثة.
التعليقات