أمام بيت والد زوجي، يوجد فيلا جميلة تسكنها شجرة ياسمين هندي وارفة الظلال يتعدى عمرها الخمسين عاما.
في كل مرة كنا نطل عليها أبي الحبيب وأنا من الشرفة، نتحدث عن جمالها ورحابة وجودها وطلتها التي تضفي على أرواحنا الكثير من البهاء.
في زيارتنا الأسبوعية لبيت أبي، كان أبنائي يجمعون زهور الياسمين من فوق أسقف السيارات بجانب الفيلا قبل أن يصعدوا لبيت جدهم ليضعوها بين يديه الحانيتين.
كان أبي صديقي، أحببت الأرض التي كان يمشي عليها، أحببت جلساتي معه، حكاياته التي كنت أحبس أنفاسي وأنا أسمعها، وقد كان بالفعل هذا القصّاص البارع صاحب الخبرات المتعددة.
كنت أجلس مع أبنائي نستمع إلى مآثره وتجاربه، ولازالت تلك السويعات الثرية مصدر من مصادر قوتنا الداخلية.
كان لدينا الكثير من المودة الغير مشروطة وكان بالنسبة لي عالم من الطمأنينة أسبح فيه آمنة.
أحب أشجار الياسمين الهندي جدًا، لكن هذه الشجرة دونا عن بقية أشجار العالم كان لها مكانة خاصة بقلبي، لأن حبيبي أحبها.
في أحد الأيام بعد وفاة الأب الغالي اتصل بي حارس الفيلا وابلغني أنهم يقومون بتقليم الحديقة تقليما جائرا، وأن بقايا كبيرة من تلك الشجرة يمكن زراعتها.
في عشر دقائق كنت جاهزة بسيارة نقل وأخذت الحمولة الثمينة لزراعتها ورعايتها في بيتي.
بقيت أتعهد الشجرة بكل الصبر والرجاء طوال عدة سنوات، من تسميد إلى ري إلى منشطات للجذور وهي التي زرعت في غير وقتها، حتى وجدت بشائر الأمل تدب فيها من جديد معلنة الحياة بأزهارها الصفراء الراقية.
شجرة الياسمين ذكرى لثمانية وعشرين عاما قضيتهم بين أحضان أبي الحبيب.
اليوم تعيش شجرة الياسمين في بيتي!
إن الحب الحقيقي يكمن في امتداد وصلات الطمأنينة والود بينك وبين من أحببت. الحب الحقيقي لا يموت وإن غادر أحد أطرافه.
اتذكر جيدا مشاعري ونحن نضع جزوع الأشجار على السيارة لنقلها، كنت أحث عمال النقل أن يترفقوا بها كأنها طفل وليد، نعم فقد كنت أشعر أن شيء من روح الحبيب يسري فيها.
لم أفقد أبي فهو يعيش في روحي ولا زالت كلماته ونصائحه تسري في أوصالي كأنه قالها بالأمس، ولازلت على نهجه أسير ... ولكنني بالتأكيد افتقد الأمان الذي كان يمثله لي، افتقد أن يكون هناك شخصًا في أحد أطراف الدنيا يفتقدني عن جد، افتقد التسامر والتناصح وألفة القلب، أفتقد لهذا الحضن الذي كنت ارتاح بداخله.
إن الوفاء مشاعر مقدسة لها ميزان خاص عند الخالق لأن لا أحد يشعر بها أو يتلظى بنيرانها غيرك.
الوفاء هو قيمتك في الدنيا، الجانب المنير من قلبك، هو تلك الومضة البهية التي تنير داخلك وتُعَرِفك أنك صاحب قلب. الوفاء هو شهادة استحقاق قلبك في الدنيا وتذكرة أمان في الآخرة.
التقي بأجمل صور الوفاء عندما أتحدث مع زوجي مازحة بأن ما تفعله سأحدث به أبي يومًا ما، فكان يغير فعله لمجرد أنه يحترم وجود أبيه حيًا أو ميتًا.
هذا هو الوفاء يا صديقي، أن تحترم من أحببت حيًا أو ميتًا. أن لا تتغير، أن تظل ذاكرة المحبة هي وقود سيارتك، وأن تستمر في نفس الإتجاه الصحيح الذي غُرِس فيك عمرًا بأكمله.
اليوم أتحدث عن صناعة المحبة، أتحدث عن سنوات قضيتها بجانب شخص لم أكن أعرف عنه شيء، سنوات كافحت لبناء جسور من التواصل، سنوات عديدة احتجت أن أمد وصلات المودة لأصل إلى قلب من أُحِب.
إن هذا الوصول يا صديقي لا يعني أنك قادر على الحب بقدر ما يعني أنك قادر على إقامة الحياة، يعني أن لك قلب قادر على خلق رِئة تتنفس من خلاها الخير، يعني أن كل ما تبذله في الإتجاه الطيب يبقى هو أثرك في الدنيا.
أحب أن أترك الدنيا كما فعل والدي ولي فيها من الأحبة من سيفتقدوني، أن تظل سيرتي عطرة مثله ولو مرت علينا السنوات، وأظن أن تلك الرغبة هي أعظم ما ورثته عن أبي القدوة العظيم.
كل الجهد الذي تبذله في جعل حياة أحدهم جميلة يبقى جليًا في حياة من أحببت، وهذا ما يعني بالأثر الباقي.
في ميزان حسناتك حياتي السابقة أبي الحبيب، وفي ميزان حسناتك ما علمتني إياه بكل الحب والصبر والجمال، في ميزان حسناتك كل الحب الذي أغدقته علينا، في ميزان حسناتك أن تعلمنا أن الحب يبقى ويستحق الكثير من التضحيات وأن العطاء يظل المتعة الأجمل في دنيتنا.
سألتقيك يومًا حبيبي نكمل فيه حديثنا كما اعتدنا أن نفعل، لكنه سيكون اليوم الذي اختفى فيه كل الأرق والنَغَصَ يوما تطول فيه جلساتنا إلى مالانهاية، يومًا لن أفتقدك بعده أبدًا.
وكما كنت أبًا إستثنائيًا، أدعو لك الله أن تكون في مكانة رفيعة لا ينافسك فيها أحد في أعلى مراتب الجنة قرير العين تنتظرنا.
وإلى أن نلقى الأحبة أُقْرِئك سلامي وأُرسل إليك دعائي عسى أن يتقبله الله ويعرفك أن إبنتك ما زالت تحبك وتدعو لك.
التعليقات