السؤال عن الحقيقة سيظل دائمًا يتجدد من جيل إلى جيل. لا يوجد في التاريخ ما يمكن الاطمئنان الكامل إليه باعتباره الحقيقة المطلقة والقول الفصل، بين الحين والآخر نكتشف أن هناك قولًا آخر، يتحول إلى فصل آخر، يدفعنا لقراءة مغايرة، نعيد بعدها ترتيب الوقائع.. ما يقوله الفنان أو الشخصية العامة عن نفسه وعن الأحداث التي عاشها، هل هي بالضبط التي وقعت، أم أنها بعبارة أكثر دقة الحقيقة بزاوية رؤيته؟، دائما هناك حقائق مسكوت عنها، والكثير من التفاصيل ربما نكتشفها بعد مرور السنوات، وفى لحظات عديدة في التوقيت الخاطئ بعد أن يغيب شهود الإثبات.
عندما قامت ثورة 23 يوليو عام 52 تعددت مواقف الفنانين المؤيدة للثورة، وتبرعوا بأموالهم لدعمها، وبعد ذلك انطلق ما عرف بـ (قطار الرحمة)، حيث شارك العديد من النجوم أمثال: فاتن حمامة وماجدة الصباحى ومحمد فوزى ومديحة يسرى وشادية وعماد حمدى وهند رستم وكمال الشناوى.. وغيرهم، في هذا القطار الذي يجوب المحافظات المصرية من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، لتقديم المساعدة لكل من يحتاجها.
كان من المعروف تاريخيًا أن اللواء محمد نجيب أول رئيس مصرى هو صاحب الفكرة.. ولكننا اكتشفنا قبل بضعة أشهر، أثناء الاحتفال بذكرى الكاتب الصحفى الكبير الراحل محمد التابعى، أنه هو صاحب البذرة الأولى، حيث أعيد نشر عمود صحفى قديم له أوضح فيه ذلك، رغم أن الصحافة تُجمع- ولا تزال- على أنها فكرة محمد نجيب.
أتذكر بعد رحيل أديبنا الكبير نجيب محفوظ عام 2006 اكتشفنا أن الفيلم الشهير (شباب امرأة)، الذي شارك في مهرجان (كان) 1955، وأخرجه صلاح أبوسيف، ولعبت بطولته تحية كاريوكا وشكرى سرحان وشادية، كلنا كنا نعتبر أن نجيب محفوظ مشاركًا في كتابة السيناريو، لأنه في كل أحاديثه كان يذكر هذا الفيلم ضمن أعماله التي يعتز بها، ولم نلحظ أن (التترات) خالية من اسمه، ولم نحلّ سر هذا اللغز إلا قبل عامين في مذكرات حققّها الكاتب الصحفى الكبير عادل حمودة لصلاح أبوسيف، فكشف أن هناك خدعة قانونية تمت من قِبل كاتب قصة (شباب امرأة) أمين يوسف غراب، فأصبحت القصة والسيناريو منسوبين إليه طبقا لورق رسمى تمكّن من الحصول عليه بطريقة ملتوية من (غرفة صناعة السينما)، رغم أنه- أقصد أبوسيف- مرّ بتجربة شخصية مماثلة لأحداث شباب امرأة عندما كان يدرس فن السينما في أحد معاهد باريس، رواها لكاتب القصة (غراب) فنسج منها حكاية الفيلم، ثم بعد ذلك كتب السيناريو نجيب محفوظ.
المخرج الكبير كمال الشيخ قال لى في تسجيل تليفزيونى موثق أجريته معه عام 2003 قبل رحيله ببضعة أشهر، إن فيلمه الشهير (الصعود للهاوية) بطولة محمود ياسين ومديحة كامل منسوب في (التترات) إلى الكاتب صالح مرسى، إلا أن الكاتب الراحل رأفت الميهى له النصيب الأكبر في السيناريو.
تظل هناك العديد من الوقائع الشائكة، مثل أغنية أم كلثوم (يا ليلة العيد) التي يستقبل بها العرب أعيادهم الدينية، كتبها أحمد رامى ولحنها رياض السنباطى، الكثير من المراجع الموسيقية تشير إلى أن بيرم التونسى كشاعر والشيخ زكريا أحمد كملحن لهما نصيب أيضا في تلك الأغنية.. ما هو بالضبط نصيب تلك المعلومة وغيرها من الصدق؟.. لا أحد يملك الحقيقة المطلقة.
عندما يغيب شهود الإثبات، نجد أنفسنا تحت مرمى نيران (القيل والقال). كفانا الله وإياكم شر (القيل والقال)!.
التعليقات