فى مهرجان الإسكندرية وبرغم أن الرقابة المصرية تزداد عنفًا وشراسة بسبب وبدون- غالبًا- سبب، سوى النفخ فى الزبادى، إلا أن هناك أفلامًا قليلة أفلتت من قبضة الرقيب، بعد أن صار الهدف البحث والتقصى وتحميل السيناريو أو الشريط السينمائى أكثر مما يمكن أن يتحمله، لو نظر الرقيب حوله لاكتشف أن العالم العربى صار أكثر انفتاحًا فى السماح بالأفلام، حتى إن مهرجان جدة (البحر الأحمر) الذى عقد أولى دوراته فى العام الماضى، شاهدنا فيه أفلامًا توجس منها الرقيب المصرى، ولم يسمح بعرضها فى (القاهرة) خوفًا من التأويل، إلى درجة أنه فى العام الماضى اعترض حتى على فيلم الافتتاح بمهرجان (القاهرة) بعد الإعلان عنه، وأقيم لأول مرة افتتاح بدون فيلم، بعد أن زادت معدلات النفخ فى الزبادى!.
وما حدث مؤخرًا فى اختيار فيلم الأوسكار الذى يمثل مصر، تجد فيه شيئًا من هذا، فأكثر الأفلام صلاحية- من وجهة نظرى- لتمثيل مصر هو (ريش)، والذى عُرض على إحدى المنصات ولم يُسمح حتى الآن بعرضه جماهيريًا، وبالتالى لم يرشح لتمثيل مصر، لعدم توفر شرط العرض الجماهيرى.
عُرض قبل يومين فى (المسابقة العربية) لمهرجان الإسكندرية- مع الأسف شاهدت النسخة على (فلاشة) وهو قطعًا خطأ من مهرجان الإسكندرية- ولا أدرى كيف يحدث ذلك من مهرجان عريق وتلك حكاية أخرى! كما أن كتالوج المهرجان لم يذكر بين صفحاته اسم الفيلم، وتلك حكاية ثالثة!.
الفيلم عنوانه (قدر) بينما الترجمة بالإنجليزية (أبناء الله)، للمخرجة إيمان بن حسين، قالت المخرجة: لم تعترض الرقابة على العنوان، لسبب بسيط أنه لا توجد أساسًا رقابة فى تونس، ما حدث أن بعض المتزمتين استفزهم العنوان فأبقيت عليه بالإنجليزية وغيرته بالعربية، إلا أن الدولة لم تتدخل حتى ولو بالإيحاء، أجبتها ضاحكًا: أفهم من كده أنه لا يوجد لديكم خالد عبدالجليل (التونسى)!.
الاعتراض على الفيلم من البعض وارد جدًّا، ولكن على الدولة ألا تنصاع للرأى الذى غالبًا ما يتبناه أيضًا بعض المثقفين، مثلما حدث مع المخرج يوسف شاهين، قبل 31 عامًا بعد عرض فيلمه (القاهرة منورة بأهلها) فى مهرجان (كان)، طالبوا السلطات بوضع اسمه ترقب وصول فى مطار القاهرة، ونزع الجنسية وقادت وقتها الحملة مؤسسة صحفية كبرى، وهو ما تكرر بعدها بعام مع فيلم (ناجى العلى)، وكان اسم نور الشريف وحتى زوجته بوسى ممنوعين من النشر فى كل مطبوعات المؤسسة، رغم أن بوسى لم تشارك فى التمثيل فى ناجى العلى وذنبها الوحيد أنها زوجة نور.
والحكاية ضاربة فى العمق، فى نهاية الثلاثينيات أخرج كمال سليم فيلمًا أطلق عليه (الحارة)، لم ترتح الأجهزة الرقابية- التابعة وقتها لوزارة الداخلية- للاسم توجسوا فى النوايا، وطالبوا بتغيير العنوان، لأن (الحارة) توحى بظلال الفقر والعوز فصار اسمه (العزيمة)، ودخل تاريخنا السينمائى العربى كأول الأفلام الواقعية.
الكثير من الحكايات تؤكد أن سلاح سمعة الوطن كثيرًا ما يُستخدم، بعشوائية مطلقة، مع تعدد أهدافه، عندما أخرجت قبل 18 عامًا، الراحلة جوسلين صعب فيلم (دُنيا)، وعرض بمهرجان القاهرة قالوا سمعة بنات مصر تنتهكها مخرجة لبنانية، رغم أنها تصدت لظاهرة ختان الإناث، التى صدرت مؤخرًا قوانين تجرمها.
الخلاف الفنى وارد ومشروع، وتتعدد فيه وجهات النظر، ولا بأس به، ولكن البأس كل البأس أن يواجَه العمل الفنى بإلقاء ماء النار فى وجوه من نختلف معهم اسمه (سمعة مصر) كفانا الله وإياكم شر تلك الأسلحة الفتاكة!.
التعليقات