قبل نحو عامين التقيته يهبط السلم برشاقة متكئًا على عصاه، سألته ولماذا تبذل هذا الجهد وبجوارك (الأسانسير)؟، أجابنى بابتسامة ساخرة، صارت لدى ساق عاجزة عن الحركة استبدلتها بتلك العصا، وأضاف ساخرًا أريد الاحتفاظ بالثانية حتى لا أضطر لشراء عصا أخرى بعد أن ارتفع سعرها بسبب الدولار، والحل الوحيد هو الحركة!!.
الرجل تجاوز التسعين ولكنه لا يزال يحتفظ بروح المرح والتحدى، أصبحت بعد لقائى به بقدر المستطاع وكلما وجدت الفرصة سانحة أهبط درجات السلم بعد أن خاصمت (الأسانسير)، على الأقل فى الهبوط.
كثيرا ما نردد أمثالًا تملأها الحسرة مثل (بعد ما شاب ودوه الكُتاب)، جائزة (نوبل) التى برر جورج برنارد شو أسباب رفضها، فى منتصف العشرينيات من القرن الماضى، وكأنه مثل غريق يصارع الموت فى البحر، ألقوا له بطوق نجاة بعد وصوله بساعديه وبدون مساعدة من أحد لشاطئ الأمان، وعلق ساخرا قد أغفر لألفريد نوبل اختراعه للديناميت، ولكنى لن أغفر له أبدا إنشاءه لجائزة نوبل، ورغم ذلك فلقد وافق فى العام التالى على قبولها أدبيا، ومعتذرا فقط عن عائدها المادى.
هل الأحلام مثل الثمار تنضج على الأشجار وإذا فات وقت قطافها، تسقط على الأرض، وتسحقها الأقدام، أم أن هناك أحلامًا تنمو وتتبدل لتواكب الزمن؟، قرأت عن عجوز إيطالى جوزى باترنو يفصله عن حاجز المائة أربعة أعوام، حقق حلمه القديم، وحصل على شهادة جامعية من قسم الفلسفة، ويعيش أحلى سنوات عمره، مؤكد كان يقرأ طوال سنوات الدراسة هذا السؤال يُطل من العيون، وقبل حتى أن تنطق به الشفاة، هل الأمر يستحق كل تلك المعاناة قراءة وكتابة ومذاكرة وحفظ وتوتر وامتحانات؟.
عندما نشاهد فنانا تجاوز مرحلة الشباب ويؤدى دور طالب نعتبرها مجالا خصبا للضحك، فعلها عادل إمام بعد أن اقترب من السبعين وأدى دور طالب جامعى فى فيلم (مرجان أحمد مرجان، طوال زمن المشاهدة ونحن نضحك، مع تلك الثنائية التى حققها مع الطالب المشاغب أحمد مكى، بينما على أرض الواقع ومع الإيطالى جوزى باترنو، كان الأمر يتطلب لإنجازه منتهى الجدية.
عندما نقترب من حافة النهاية ونشعر بضآلة ما تبقى فى رصيدنا من الأيام، وتزداد فى نفس اللحظة رغبتنا، فى الحصول على كل ما فاتنا تحقيقه، اكتشفوا أن بعض المرضى، عندما يصارحهم الطبيب بأنهم قد نفد رصيدهم من الأيام، يقررون تحقيق كل ما تكاسلوا عنه فى شبابهم، حتى لو كانت لياقتهم الصحية لا تسمح، مثل مثلا القفز بالمظلة من الطائرة، الذى كان يحرص عليه (جورج بوش الأب) فى سنواته الأخيرة، حتى وفاته بعد أن تخطى التسعين.
الحلم بالعودة للأضواء والنجاح ظل ملازمًا لإسماعيل ياسين، ومارس العديد من الضغوط، وأسندوا له دورًا فى فيلم (الرغبة والضياع)، إلا أنه وجده يتقلص على الورق، ومشاهده تتضاءل، حتى اسمه الذى كان فى الماضى يسبق الجميع، تأكد أنه سيكتب ببنط صغير على (الأفيش)، ولم يكمل (الدوبلاج) الصوتى للفيلم، ورحل وهو حزين ومكتئب لأنهم اغتالوا حلمه.
هناك أحلام تخترق حاجز الزمن وأخرى يقتلها الزمن، توقيت تحقيق الحلم ليس بالضرورة هو الفيصل، والدليل هذا الرجل الجميل الذى لا يزال يتكئ على عصاه وينزل مسرعًا درجات السلم، وأنا لا أزال أحاول اللحاق به!!.
التعليقات