عندما كنت صغيرة، كان العامل المشترك في كل الإمتحانات التي مرت علي من مرحلة الطفولة وحتى حصولي على درجة الدكتوراه، هو كارت رقم الجلوس.
كارت ملصق على ورقة الإجابة، تكتب فيه اسمك وصَفَك ورقم جلوسك بدون شطب أو أخطاء، وكان أكثر ما يوترني.
غريب عقلنا البشري، عندما يخاف من شئ يفعله يوميًا دون أن يدرك.
أنت تُعَرّف من خلال رقم جلوسك. عنايتك بما تكتب وتسجل هي أفضل متحدث رسمي عن نفسك، أفكارك واتجاهاتك في الحياة.
لعل ما قد يتبقى من أرواحنا بعد موتنا هو ما عَرّفْت به نفسك من خلال رقم جلوسك في الدنيا.
لا أذكر أني أخطأت يومًا في كتابة هذا الكارت، كنت حريصة كل الحرص على دقته. ربما كان كتابة هذا الكارت بوضوح هو صك الهدوء لبداية الإجابة في ورقة الإمتحان.
كذلك اعتدت أن أقيم الحياة.
بيتك، أبنائك، عملك، علاقاتك، صداقاتك، دائرتك الاجتماعية، سند الأحباب، شعورك بالآخرين، حب الخير، ما هي إلا أرقام جلوسك في الدنيا.
ولعل أهم رقم الجلوس في اختبارك، هو أنت.
نعم أنت أهم من كل ما سبق، فأنت المحرك الرئيسي لذاتك.
انْتَق قَلب وقِبلة وقبيلة تنتمي إليها.
خلف رقم جلوسك، تنشأ الحياة. ضَع في كراسات إجاباتك ما تفضل أن يُترك خلفك كأثر.
الأوراق تعيش لدهور.
في التجارب العلمية هناك ما يسمى بالخاصية الشعرية، فكلما كانت الأنبوب ضيقة ورفيعة كلما صعد الماء لأعلى تلقائيًا بقوة أكبر، تسمى "قوى التماسك".
كذلك الحال في دنيانا!
كلما ضاقت عليك وانحسرت وظننت أنك تنكسر، فاعلم إنك ترتفع وتقترب وتؤتي ثمارك، وقد حانت بشائر قِطَافُك.
كم مرة خشيت الرسوب، وكم مرة كانت عينيك على دَرَجاتك هي أسباب نجاتك.
أضمن لك سلامة الوصول لو ظللت تراقب إجاباتك جيدًا.
اِستهلك رصيد أيامك في الخير، فهي دائما وأبدًا خيارًا.
اكتشفت منذ فترة ليست ببعيدة، أن أفضل الطرق لإجادة السير وإعادة الأمل لطريقك؛ أن تجيد الاستماع لصوتك الداخلي.
عن نفسي اكتشفت بمفارقة عجيبة أني أستطيع سماع صوتي الداخلي بوضوح وأنا أقود سيارتي على طريق طويل.
الضوضاء في حياتي تحجبني عن الوصول لقلبي، لذلك عندما أقود ينشغل عقلي تمامًا بالطريق، فتتَبَدَّى دواخلي بوضوح.
أقود، ثم أتوقف للكتابة، ثم أعاود القيادة، وعندما أنتهي أتفرغ لأنظر بداخلي.
ويبدأ صراع مضنٍ بين عقلي وقلبي لتقييمي، ووضع الدرجات المناسبة على ورقتي بجانب رقم الجلوس.
ويا له من إمتحان ثقيل للذات. اجتازه بنفسك قبل أن تحاسب أمام الخالق.
ربما يظن الكثير أن قطع ٢٧٠ كيلو متر أسبوعيًا ذهابا وإيابا به الكثير من المشقة، وقد يكون كذلك بالفعل لكني اعتدت إنارة الطرق المظلمة برؤية الجمال فيها.
مهما كانت حياتك تبدو شاقة، لكنها مُعدة خصيصا لتناسبك، فلو كنت لا تجيد التجديف بقوة وجمال، اِعلم أن بداخلك الكثير من العوار الذي يحتاج للتغيير.
تعودت أن أخاف الله وأحببت ذلك، فكان هذا الخوف أكثر ما يطمئنني، وأصبح هو مُدْخَلي للرجاء الذي لا يوصد بابه أبدًا.
لكل منا المقدرة على الرؤية الداخلية لروحه، لكن أحيانًا أنت لا تعرف أو لا تُجيد أو لا تريد ذلك.
تعَرَف على نفسك أولا وأحسِن تَبَيّنها، ثم اكتب اسمك كما يستحق أن يظهر. وأخيرًا افحص ورقتك وابدأ الإجابة بإجادة وضمير.
كلما صَدقْت نفسك وخالَلَتها، ستلامس أطراف النجاة وتعتلي ركب الازدهار.
كلنا يستطيع التفوق لكن هنالك من لا يفعل، إما لغباء أو استهتار، أو أنه لا يجيد النظر إلى نفسه.
حَلِق عاليًا بعيدًا عن ذاتك؛ الرؤيا عن علو دائمًا توافق المنظور الكامل.
طالما كان قلبك منير، وبالرغم من أوجاعك وآمالك التي لم تتحقق بعد، ستظل دائمًا بخير.
التعرف على القلوب هو ما يجعلك تئتَمِنها؛ لذلك أكتب ما في جوفي وأحرِص أن تَتَبين وتُميز. يقول الإمام علي ابن ابي طالب "صديقك من صَدَقَك لا من صدَّقك".
الكل يتحدث لكن أقل القليل من يكون مُصَدَقًا.
التعليقات