بفيلمه (يوم الحداد الوطنى في المكسيك)، القصير زمنًا، العميق إبداعًا، قهر خيرى بشارة حجة قسوة الأيام، التي يلجأ إليها عدد ممن توقفت عندهم عقارب الزمن، وصاروا خارج المجرة.
أطل علينا بشارة 76 عاما وهو أكثر شبابا، استطاع أن ينفذ إلينا من ثقب إبرة، وفى عز الصقيع أعاد لنا وهج الشمس.
الفيلم عرض على منصة (نتفليكس)، المتهمة الأولى بإفساد الذوق العام وترويج كل الموبقات، ليؤكد أن كل منا يملك الاختيار، اختار خيرى بشارة أن يقدم سيناريو رائعًا كتبته نورا الشيخ، في إطار سلسلة تحت عنوان (فى الحب والحياة).
كُثر من المبدعين تقهرهم السنوات لأنهم غير قادرين على هضم الأبجدية الجديدة، عدد منهم يذكرنى بفريد شوقى في دور المطرب بالفيلم الشهير (بداية ونهاية) عندما كان يهدد بالضرب كل من يعترض على صوته.
بشارة اختار فكرة تقول القليل وتوحى بالكثير، عندما يمنع الحب يتحول المجتمع إلى عيون وآذان، الكل يراقب الكل، ويتم إلقاء القبض على كل من تسول له نفسه الحديث عن الحب، وهكذا اخترعوا حكاية يوم 14 فبراير (عيد الحب) ليتحول إلى (يوم الحداد الوطنى في المكسيك) لينفى عنه أي صلة بالحب.
كاتبة السيناريو وكأنها تقدم تنويعة بذكاء ولماحية على القصة الأمريكية الشهيرة (451 فهرنهايت) لراى براديورى التي تحولت إلى أكثر من فيلم، والرقم مقصود به درجة احتراق الكتب، عندما أرادت إحدى الحكومات مصادرتها باعتبارها هي العدو الأكبر للنظام، فتحول البشر إلى كتب متحركة هذا (هاملت) وذاك (الجريمة والعقاب) والثالث (البؤساء)، وهكذا نجحت المواجهة في قهر السلطة، والرجل المنوط به إشعال الحرائق في النهاية يتمرد على الأوامر.
وهكذا وجدنا تماثلًا مع المذيع آسر ياسين المنوط به أن يطارد مظاهر عيد الحب، ويمنع كل الكلمات والأغنيات والدباديب والألوان وخاصة الأحمر، بل ويحذر المستمعين من كل تلك التجاوزات، وفى الشارع يتم إلقاء القبض على المخالفين.
الفيلم لا يحصل على الموافقة الرقابية في مصر، لأنه على منصة أجنبية، إلا أنه لا يوجد به ما يمكن أن يشعل مقص الرقيب، فهو يتحرك في إطار سقف المسموح في السينما والدراما المصرية، فقط مستندًا إلى جرأة الفكرة المشاغبة.
يقدم بشارة الشريط السينمائى بروح الشباب وبلا أي افتعال وبإيقاع لاهث ينتقل بخفة ظل من لقطة إلى أخرى، ويقدم آسر ياسين دور المذيع المطيع للأوامر، ثم يبدأ التمرد، وبسمة دور صاحبة نادى الحب، كما أنه يقدم لنا الوجه الجديد ندى الشاذلى التي تملك فيضًا من الحضور والتلقائية والبساطة والطبيعية، وأنتظرها بطلة قادمة، بشارة قدم لنا عالمًا بصريًا شديد الإيحاء بقدر ما هو شديد الخصوصية، وهكذا نرى عددًا من المفردات الموحية، الحراس على الأبواب وهم يقيسون درجة نبضات القلب، كنوع من السخرية من انتشار- بعد (كورونا)- أجهزة قياس درجة حرارة الجسم.
الكل يخشى من سطوة الأجهزة، في عز الأزمة تبرق روح المقاومة، وهكذا نتابع الصيدلى شريف البندارى يمنح ندى الشاذلى عنوان نادى الحب السرى الذي يواجه هذا القحط.
وفى النهاية يتمرد المذيع ويضع السجادة الحمراء حتى تتصدر المبنى، وفى قسم الشرطة نسمع موسيقى (قلبى ومفتاحه دول ملك إيديك).
أن تقول كل شىء ولا تقول أي شىء، هذا هو خيرى بشارة الذي عاد إلينا أكثر وهجًا وشبابًا وألقًا، عظمة على عظمة يا بشارة!!.
التعليقات