فى الفيلم التونسى الجرىء (أطياف) لمهدى هميلى أضاف للنسخة المعروضة فى مهرجان القاهرة السينمائى الناطقة بالعربية، كتابة الحوار على الشاشة بجوار الإنجليزية أيضًا بالعربية، التى توصف بـ(البيضاء) المحايدة، أى أنها تبتعد عن الكلمات المغرقة فى محليتها، حتى يتفهمها الجميع، وهى أقرب للغة الصحافة، تقع مفرداتها بين العامية والفصحى.
إنها أحد الألغام التى كثيرًا ما أثارت حساسية مفرطة لعدد من مخرجى تونس والجزائر والمغرب. فى الندوة التى أعقبت عرض الفيلم بقسم (آفاق) هنأت المخرج وهو أيضًا كاتب السيناريو والمنتج، على الجرأة سواء فى طرح القضية التى يتناولها وهى تحمل إدانة وصرخة ضد المجتمع الذكورى، كما هنأته بإقدامه على تلك الخطوة، رغم أن البعض يحيطها بحساسية مفرطة.
تذكرت ما حدث فى مهرجان (أبوظبى) السينمائى قبل نحو 14 عامًا، عندما ٍسأل أحد الزملاء المخرج التونسى الكبير نورى بوزيد: لماذا لا يتم كتابة الحوار بالعربية على الشاشة؟ ما كاد السؤال ينتهى حتى اندلعت نيران الغضب، وتبدلت ملامح نورى الهادئة الوديعة والمبتسمة دومًا ليتوجه بعنف إلى قطاع من الجمهور عبر عن عدم قدرته على فهم كل مفردات اللهجة التونسية.
قدم «نورى» فى فيلمه «مانموتش» بمعنى نرفض الموت مرثية ينضح بها الشريط السينمائى بكل الهواجس من هؤلاء المتطرفين دينيًا الذين اعتقدوا أن الثورة اندلعت لينقضوا على الكرسى ويحكموا البلد ويتوجهوا مباشرة إلى الخطة رقم واحد وهى فرض الحجاب على النساء، كأن هذه هى (أم المشاكل) وبمجرد تغطية الرؤوس سوف تنتعش الحياة، الفيلم من أعمق وأبسط فى نفس الوقت أفلام نورى، إلا أنه لم يتعامل ببساطة مع السؤال المتعلق بكتابة تعليق بالعربية على الشاشة.
يتكرر فى العديد من اللقاءات والتظاهرات هذا السؤال أو بتعبير أدق تلك الرغبة، خاصة أن العديد من المهرجانات الكبرى تكتب الحوار الإنجليزى على الشاشة، برغم أن الأفلام ناطقة بالإنجليزية سواء كانت أمريكية أو بريطانية أو غيرها من الدول التى تتحدث الإنجليزية، وذلك خوفًا من أن تفلت كلمة أو تعبير؛ فلتعدد اللهجات يكتبون الحوار على الشاشة، لمن يجد صعوبة فى استيعابه مسموعًا، بينما فى عالمنا العربى تظل تلك نقطة ملتهبة.
الاقتراب من هذه القضية أشبه بتفجير لغم مدفون تحت الأرض، وقابل للاشتعال فى كل لحظة. ما حدث فى مهرجان «أبوظبى» فى تلك الدورة أراه غير مسموح به فى المهرجانات العربية الأخرى. وكان هذا أحد محاور النقاش مع عدد من المخرجين والنقاد المغاربة ولم تهدأ موجات الغضب التى تعلن عن نفسها، وتحمل أيضًا إحساسًا بأن عرب المشرق يتعالون على لهجة أهل المغرب، ولا يبذلون جهدًا فى كشف مفرداتها.
الكل يُجمع على أن أفضل علاقة تقيمها مع العمل الفنى هى تلك التى تصلك مباشرة من خلال الشاشة، بينما الترجمة بالتأكيد تخصم الكثير من روح الفيلم، المفردات المحلية والمغرقة فى دلالاتها الحياتية، تفقد الكثير من بكارتها اللغوية، إذا حاولنا أن نعثر على مرادف عربى مماثل لها، إلا أننا فى النهاية أمام اختيارين أحلاهما مُر.
فى أكتوبر 1991 شاركت مع المخرج الكبير صلاح أبوسيف وكل من نادية لطفى وصفية العمرى فى مهرجان (تطوان) بالمملكة المغربية، وبمجرد أن قدم أبوسيف هذا الاقتراح هوجم بضراوة، ومع مرور 30 عامًا أعتقد أن الأمر صار من الممكن التعامل معه بمرونة أكثر وحساسية أقل، وهو يستحق ندوة موسعة بمهرجان القاهرة القادم!.
التعليقات