في محاولة لقراءة أزمة الإعلام المصري وتداعياته السلبية على منظومة الرأي العام، والتي يمكن ملاحظتها في تآكل القواعد التوزيعية للإعلام القومي، وهجرة الكثير من الجمهور إلى وسائل التواصل الاجتماعى والقنوات الخارجية المعارضة لتوجهات النظام، وخطورة ذلك لما يمثله من تهديد للأمن القومى المصرى..
فمن ثم تعد هذه القراءة وغيرها من القراءات فرض عين لكل مهتم بصالح هذا الوطن ومستقبله، وفى محاولة لرسم سلم أولويات الأزمة أو بتعبير أكثر بساطة في محاولة لتفكيك أسباب الأزمة، ورصد أبعادها وتحديد الأوزان النسبية لتلك الأسباب، وتحديد درجة مساهماتها في تكريس الأزمة..
وفقا لهذا المنهج لا نستطيع المرور قبل الإشارة إلى الاختلالات الهيكلية المالية لمؤسسات الإعلام القومى والتي تتجلى أهم مظاهرها في تكدس العمالة التي ينقصها الكثير من التأهيل، والتي تلتهم اجورها ومافي حكمها نحو 70% من ميزانيات تلك المؤسسات، خاصة مع التراجع المطرد لإيراداتها لتآكل قواعدها التوزيعية وانعكاسه على تراجع العوائد الإعلانية، وهو سمة تلاحق الإعلام التقليدي في الكثير من دول العالم المتقدم، والذي واجهته بتطوير وتنويع منتجها الإعلامي بالدرجة الأولى، والبحث مؤخرا عن موارد أخرى..
ولعل خبر عزم CNA على افتتاح كوفى شوب في العديد من عواصم العالم كخير مثال على ذلك، وأرى أنه يجدر أخذ ذلك في الاعتبار ولا يجدر بنا إعادة إنتاجه لاختلاف صناعة الرأى العام في تلك الدول عن دول العالم الثالث وفى القلب منها مصر، حيث الأطر السياسية والثقافية والاجتماعية مختلفة تماما بدءا بثراء المجتمع المدنى ومؤسساته والنظم الحزبية الراسخة انتهاء بثقافة تقبل الآخر.
في مقابل أطر محلية تتمثل في بؤس المجتمع المدنى وافتقار الأحزاب إلى قواعدها الجماهيرية انتهاء بثقافة نفى الآخر واستبعاده، بل ونفيه –ومن ثم فأننا أمام مظاهر واحدة لأزمة مختلفة العام.. فالحال في العالم المتقدم أنه أحد مظاهر لأزمة مختلفة ينبغي التعامل معها في سياق مختلف، إذ إن الوضع في العالم الثالث يتجاوز مفهوم الأزمة إلى لحظة الانهيار بما يمثله مباشرة للأمن القومى، في ظل تهافت أداء المنظومة الإعلامية وفشلها في اجتذاب الرأى العام بما يمثله من حائط صد حقيقى وفعال لحماية أمن الوطن.
ومن ثم فالقارئ للمشهد الحالى عقب ثورتى 25 يناير و30 يونيو ليس عجز مؤسسات الاعلام القومى عن تطوير أدائها للقيام بدورها في صناعة رأى عام مساند لتحديات المرحلة، أحيانا لضيق ذات اليد للأسباب سالفة الذكر أو لغياب الإرادة أو ضعف الكفاءة المهنية أو ندرة الاطلاع على التجارب العالمية المشابهة كيف استفادت من التطور التكنولوجى لعبور أزمة العوائد، مع إدراك خصوصية السياق المجتمعى المحلى، وكذلك فشل الإعلام الخاص في طبيعته الجديدة في المساهمة الفعالة في تشكيل الرأى العام المصرى.
إذ اعتمد على جهات تتمتع بالثراء المالى مع الفقر المهنى، فلم يسلم الأداء من التهافت الذي أفقد النظام السياسي القدرة على كسب الرأى العام.
تستطيع القول أن غياب الرؤى أو بالأحرى تشويش رؤية المجتمع لمؤسسات الإعلام القومى منذ العقد الأخير من القرن العشرين، أي منذ صدور قانون 1996 الذي قنن صدور الصحافة الخاصة (غير المملوكة للمجتمع)، مما ترتب عليه من خلفه بنية تنافسية تواجهها مؤسسات الإعلام القومى دون إطار قانونى ولوائح جديدة يسمح لتلك الكيانات العملاقة بالمنافسة لا اعتمادا على قيمتها التاريخية، ولكن السوق الرأسمالى لا يقنع بالقيمة بل يقدس السعر أي التداول..
وقد زادت الأوضاع الانتقالية التي أعقبت ثورتى 25 يناير و30 يونيو الأداء الإعلامي طينا بدخول رأس المال المشبوه إلى سوق الإعلام المصرى، وخسرت مؤسسات الإعلام القومى معركتها مع الإعلام المشبوه.
ومن ثم حجر الزاوية في إصلاح منظومة الإعلام القومى الذي يعانى من الانهيار يتطلب أولا الإجابة عن السؤال الأساسى: هل نحن أمام إعلام خدمى له دور تنويرى في تبصرة الرأى العام؟ أم نحن أمام إعلام تجارى يحتوى على حسابات الربح والخسارة؟!
وتمثل الإجابة الأمينة على هذا السؤال حجر الزاوية في أي إصلاح يهدف الحفاظ على الأمن القومى المصرى، ولاتحتمل اجابة هذا السؤال الا سيناريو واحد فقط، لا يجوز ولن يجدى الجمع بينهما، فاستمرار تلك الصيغة المشوشة والتي كانت قبل 2011 مقبولة إلى حد ما ولعبت دورا كبيرا في استقرار النظام السياسي رغم البيئة التنافسية لم ولن يمكن إعادتها الآن، ليظل إجلاء رؤية المجتمع للمؤسسات القومية حجر الزاوية الأساسي الذي تنبني عليه كافة خطوات الإصلاح..
فإن كان إعلاما تجاريا يهدف إلى الربح مع الاحتفاظ بملكيته، فعلى الدولة واجب في تنقية اللوائح من الإرث البيروقراطي بما يحقق حرية الحركة وسرعة اتخاذ القرار مع الالتزام بقواعد الشفافية حفاظا على رءوس أموال تلك المؤسسات المملوكة أصلا للشعب، وإن كان إعلاما خدميا فالدولة تصبح مسئولة بدرجة أساسية عن التدخل الفعال في إصلاح الهياكل المالية والإدارية لتلك المؤسسات.
وبالمناسبة الأمر يتعدى ضخ رؤوس الأموال إلى الإصلاح المالى والإداري الجذرى، وقيام الدولة بأجهزتها الرقابية والمالية بواجباتها في ضمان رشد واستثمار تلك المؤسسات لمواردها المالية والبشرية، بما يضمن انطلاقها وتحقيق الهدف منها في تنوير الرأى العام وخلق حالة من التوافق المجتمعى، وتصبح أرقام التوزيع وبحوث الرأى العام والمداخيل الإعلانية اكواد أساسية في تقييم القائمين عليها والذين لن يكونوا أعز من مصر وأمنها الوطنى.
التعليقات