في ظهيرة يوم بارد، في عمق غابة دوداور شمالي ألمانيا، وعلى بعد 100 كيلومتر شمالي مدينة هامبورج، كان هناك ساعي بريد يرتدي زيا أصفر اللون، ويمشي وحيدا بين الأشجار الكثيفة. ولدى وصوله إلى شجرة بلوط قديمة، تسلق ببطء سلما خشبيا طوله ثلاثة أمتار، ليسلم خطابا أرجواني اللون إلى فتحة فوق تلك الشجرة التي يبلغ عمرها 500 عام.
وقال لي ذلك الرجل: "رسالة واحدة فقط هذا اليوم"، قبل أن يواصل طريقه عبر الغابة، ويختفي بين الأشجار قاصدا صندوق البريد التالي.
كانت الخطاب الأرجواني من دينيس في بافاريا، وعمرها 55 عاما، وهي تحب الطبيعة، وتعرف ما تريد، ولا تمانع في أن تكون وحيدة، لكن تتساءل إذا ما كان هناك رجل يمكنه أن يكون ملهما لها. إذا كان هناك رجل بهذه الصفات، وكان هو الآخر يبحث عن حب داخل هذه الحفرة الصغيرة في شجرة البلوط، فسوف يجمع بينهما لقاء.
وتؤدي هذه الشجرة، القريبة من بلدة يوتن، دورا في التوفيق بين العزاب قبل وقت طويل من الزواج، ويقال إنها كانت سببا في أكثر من 100 حالة زواج معروفة بين الناس، وفقا لـ"بى بى سى".
وهذه الأيام، يبعث الناس من كافة أرجاء المعمورة الرسائل المعنونة إلى الشجرة، آملين أن يجدوا شريك حياتهم. فهذه ماري من براندينبيرغ ترغب في العثور على رجل يمكنه أن يرقص، وهاينريتش من ساكسوني تبحث عن رفيق يحب السفر، وهذا ليو من الصين يريد فقط أن يعرف إذا ما كانت هناك امرأة ألمانية ترغب في صديق صيني.
ويقول كارل-هاينز مارتينز، 72 عاما، وهو ساعي بريد سابق أوصل رسائل لهذه الشجرة لمدة 20 عاما، بدءا من عام 1984: "هناك رومانسية وسحر ما يتعلقان بهذه الشجرة". ويضيف: "على شبكة الإنترنت، الحقائق والأسئلة تطابق بين الناس، لكن عند هذه الشجرة، تكون المصادفة الجميلة التي تشبه القدر".
ورغم تقاعده الآن، إلا أنه مازال يحتفظ حتى الآن بقصاصات من الرسائل والصحف التي مرت عليه خلال خدمته كرسول رسمي للحب، وأطلعني عليها مسرورا أثناء تناولنا القهوة في وسط بلدة يوتن.
وقد أوصل مارتينز خلال فترة خدمته رسائل من القارات الست، مكتوبة غالبا بلغات لم يفهمها. وأوضح لي أنه بينما يعرف الكثير من الناس عن هذه الشجرة، إلا أنها كانت قبل 128 عاما سرا مشتركا بين عاشقين اثنين فقط.
ففي عام 1890، وقعت فتاة من البلدة اسمها منة في غرام شاب يعمل صانعا للشوكولاتة اسمه ويلهيلم. لكن والد منة كان يمنعها من رؤية حبيبها، ولهذا بدأ الاثنان في تبادل الرسائل المكتوبة بخط اليد سرا، وذلك بتركها في كوة فوق جذع شجرة البلوط. وبعد مرور عام، أذن والد منة لها بالزواج من ويلهيلم، وبالفعل تزوج الاثنان في الثاني من يونيو 1891 تحت أغصان شجرة البلوط تلك.
وقد انتشرت قصة الزوجين الأسطورية كالنار في الهشيم. وبعدها مباشرة، بدأ العشاق في كافة أنحاء ألمانيا، الذين جانبهم الحظ في العثور على شريك حياة في الأماكن الحضرية، في كتابة رسائل حب وإرسالها إلى تلك الشجرة.
ووصلت إلى الشجرة رسائل بريدية كثيرة، لدرجة أنه في عام 1927، خصصت خدمة البريد الألمانية "دويتشه بوست" رمزا بريديا خاصا بالشجرة، كما عينت لها ساعي بريد خاص بها. كما وضعت سلما يصل إلى كوة فوق الشجرة، لكي يتمكن من يشاء من فتح أو قراءة الرسائل أو الرد عليها.
القاعدة الوحيدة، كما يشرح مارتينز، هي أنه إذا قمت بفتح رسالة ما لا تريد أن ترد عليها، فعليك إعادتها ثانية إلى الشجرة ليعثر عليها شخص آخر.
ويقول مارتن جراندلر، المتحدث باسم خدمة البريد الألمانية "دويتشه بوست": "تتلقى الشجرة حوالي ألف رسالة في العام. معظمها يأتي خلال فصل الصيف. وأظن أنه الوقت الذي يرغب فيه الجميع في الوقوع في الحب".
بالنسبة لمن يبحثون عن شخص بعينه، هناك أسطورة تقول: إذا مشت امرأة حول شجرة البلوط ثلاث مرات تحت ضوء القمر، وهي تفكر في حبيبها المفترض دون أن تتكلم أو تضحك، فإنها ستتزوج خلال نفس العام.
وتبقى اليوم تلك الشجرة هي الوحيدة في العالم التي تحمل عنوانا بريديا رسميا. وعلى مدى ستة أيام في الأسبوع، على امتداد السنوات الـ 91 الأخيرة، يسير ساعي بريد وسط الغابة تحت المطر والثلوج، أو أشعة الشمس، ويتسلق السلم الخشبي ليضع رسائل من عزاب حالمين فوق تلك الشجرة. ولم يقم أحد بهذه المهمة لمدة أطول من التي قضاها مارتينز في هذا العمل.
يقول مارتينز: "لقد كان ذلك الوقت المفضل لدي خلال اليوم". قال ذلك وهو يعطيني صورة بالأبيض والأسود له وهو يرتدي قبعة بحواف مرفوعة ونظارة، ومبتسما وهو يضع الرسائل في شجرة البلوط.
وتابع: "اعتاد الناس على تذكر الدرب الذي أسير فيه، وكانوا ينتظرون وصولي لأنهم لم يكونوا يصدقون أن ساعي بريد يحضر الرسائل إلى تلك الشجرة".
ويقول مارتينز إنه في فترة 20 عاما، كان هناك فقط 10 أيام لم يكتب فيها أحد للشجرة، وبينما كان يوصل في العادة حوالي 50 رسالة في اليوم، لم تكن الرسائل جميعها رسائل غرامية.
ويضيف "قبل توحيد ألمانيا عام 1990، كان الناس من ألمانيا الشرقية الذين ليس لهم صلات أو علاقات في ألمانيا الغربية يكتبون للشجرة متسائلين عن نوع السيارات، أو الموسيقى، أو الأغاني الموجودة لدينا".
ويواصل مارتينز سرد ذكرياته قائلا: "رغبت في الرد على بعض الرسائل، لكن مسؤولي في العمل نصحني بألا أفعل". وحسب ما يقول مارتينز، فإن رسائل أخرى وصلت خلال السنوات الماضية بدأت بكلام جميل معتاد، لكنها أسفرت في غاية الأمر عن أشياء جميلة.
وفي عام 1958، وصل جندي ألماني شاب يدعى بيتر بامب إلى الشجرة، وتصفح عدة رسائل، وأخرج من بينها رسالة مكتوب عليها اسم وعنوان فقط. وفي لحظة قرر أن يرد على رسالة "ماريتا"، التي كانت أول مرة تكتب رسالة إلى تلك الشجرة، رغم أن العديد من أصدقائها الذين يعرفون أنها خجولة جدا كانوا يكتبون رسائل يطلبون فيها ودها.
وهكذا تبادل بيتر وماريتا الرسائل لمدة سنة كاملة قبل أن يمتلك الشجاعة لمقابلتها. وانتهى الأمر بزواجهما عام 1961، ولا يزال الزوجان يحتفلان بذكرى زواجهما حتى اليوم.
وهناك قصة تخص عائلة كريستيانسين. ففي عام 1988، أوصل مارتينز رسالة إلى الشجرة من فتاة من ألمانيا الشرقية عمرها 19 عاما تدعى كلوديا، كانت تبحث عن صديق. وقرأ الرسالة مزارع من ألمانيا الغربية اسمه فريدريك كريستيانسين ورد عليها.
وتواصلت الرسائل بينهما حتى بلغت 40 رسالة بعد ذلك، ووقع الاثنان في غرام بعضهما البعض. لكن نظرا لأنهما لم يتمكنا من اللقاء بسبب وجود كل منهما في شطر من شطري ألمانيا، استمر الاثنان في تبادل الرسائل لحوالي عامين عبر الحدود. وعندما سقط جدار برلين، التقى الحبيبان لأول مرة، وتزوجا في مايو 1990.
يقول مارتينز: "أعرف على الأقل 10 زيجات تمت بواسطة الشجرة. إحدى هذه الزيجات كانت الأبرز والأكثر تأثيرا". ففي عام 1989 كانت محطة تلفزة ألمانية تعد تقريرا خاصا عن الشجرة، وسألت مارتينز إذا كان هو نفسه قد عثر على الحب تحت أغصانها. كان جوابه بالنفي.
لكن بعد ذلك بعدة أيام، وبينما كان مارتينز يتسلق السلم صاعدا الشجرة لإيصال البريد اليومي، رأى ورقة مكتوبة بخط اليد من امرأة اسمها رينيت موجهة إلى "ساعي بريد شجرة البلوط". وكان مكتوبا على الورقة: "أريد أن أقابلك، فأنت تعجبني. وأنا أيضا وحيدة في الوقت الراهن".
ويضيف: "وهكذا اتصلت بها، وفي وقت لاحق قابلتها. ثم تزوجنا في عام 1994، وكان حفل الزفاف تحت ظلال شجرة البلوط".
ونشرت الصحيفة المحلية صورة لمارتينز وهو يتسلق السلم مرتديا بدلة الزواج، وصورة أخرى للعروسين يتبادلان القبلات تحت الشجرة، مع عنوان رئيسي يقول: "زواج العام".
وبعد 24 عاما، مازال ساعي البريد السابق يحتفظ بالرسالة. وبينما كانت الشمس تميل إلى الغروب في وسط بلدة يوتن، أغلق مارتينز فجأة دفتر ذكرياته، ومد يده لتناول معطفه ومفاتيح سيارته قائلا: "دعنا نغادر قبل أن يحل الظلام هنا".
بعد مرور ربع ساعة، كنت عائدة إلى غابة دوداور، هذه المرة سائرة وراء خطوات مارتينز الثقيلة باتجاه شجرة البلوط القديمة. وأمام السياج المستدير المحيط بالشجرة، أشار إلى لافتتين، إحداهما تتحدث عن تاريخ الشجرة، كتبها مارتينز بنفسه، بينما تقول اللافتة الأخرى: "نتمنى أن يدوم هذا الزواج وقتا طويلا".
وبينما كنا نستعد لمغادرة المكان، جاء رجل نحيل ذو شعر منسق بعناية، يحمل ورقة صغيرة. وعندما اقترب من شجرة البلوط، طلبت منه أن أطرح عليه بعض الأسئلة لتقرير أعكف على إعداده.
وقال لي الرجل إنه يأتي أحيانا إلى الشجرة وحيدا بعد الفراغ من العمل، وأعطاني الورقة التي كتبها بخط يده. وكان مكتوبا فيها: "أنا أرمل، وعمري 53 عاما، وطولي 1.75، وأبحث عن شريكة حياة متوسطة القوام، لديها ولاء وحب لشريك حياتها. ربما نتحدث قريبا. تحياتي، جينز".
وقال الرجل مبتسما: "لا نعرف ماذا سيحدث، لكننا نحتفظ بالأمل في أن يقع ما نتمنى".
لوحت له مودعا، وبدأت بالسير خارجا من الغابة. وعندما التفت خلفي، رأيت جينز على مرمى بصري يعتلي السلم، ويضع في جيب سترته شيئا أرجواني اللون.
التعليقات