لا أظن أن صورة الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي سوف تكتمل إلا بإضافة بعض الخطوط والرتوش إليها، ولن يتم ذلك إلا بسرد بعض المواقف التي حدثت له مع من عاصروه وخالطوه وتابعوه، ومنهم الأديب الراحل عبدالمنعم شميس الذي حاول أن يرسم بعضًا من ملامح العميد فقال:
" من ملامح شخصية "طه حسين" أنه شديد الأناقة، وكان من أكبر أساتذة كلية الآداب اهتمامًا بزيه وإذا تتبعت حركته يخيل إليك أنه مُبصر، فقد كان يصعد السلالم إلي مكتب العميد وحده دون أن يتعثر، وكان مُنتصب القامة كالرمح وكان يحلق ذقنه ويسوي شاربه دون مُساعدة من أحد وكان يعرف كيف يشعل السيجارة دون أن يخطيء ويمسك بفنجان القهوة ويضعه مكانه ثم يتناوله بدقة بالغة".
ويحكي شميس: كنت من تلاميذه "العميد" بكلية الآداب وأذكر أنني ــ ذات يوم ــ ألقيت أمامه بحثاً عن الشاعر بشار بن برد وأهملت مسألة عماه، ظنًا مني أنني أتجاوز بذلك الإحراج مع طه حسين فقال "صاحب الأيام" موجهًا كلامه لي في بداية تعليقه: أأشفق التلميذ علي أستاذه من عماه؟!.. فقد أهملت ذكر "عمي" بشار بن برد.. لماذا؟.. ورددت ردًا غير مقنع وقلت إن هذه مسألة ليست لها أهمية لأن العميان مُبصرون فيما يوصف لهم، فقال: أنت تعرف لأنك تبصر الأشياء، أما الذين لا يبصرون فيرون أشياء أخري، وتكلم عن العميان وإحساساتهم لمدة نصف ساعة!!..
تقول الدكتورة زهيرة البيلي عن دور المرأة في حياة عميد الأدب العربي: عندما نقترب أكثر من شخصية الدكتور طه حسين وخاصة الدور الذي لعبته المرأة في حياته، نقول إن السيدة "سوزان" زوجته لم تكن المرأة الأولي في حياته، ففي كتاب "الأيام" مثلاً تحدث عن "نفيسة" الفتاة الغريرة التي تبرز في كُتَّاب القرية كأقدر الفتيات علي الغناء والمدح، فكانت تلهي "طه حسين" أكثر وقته بأغانيها وأحاديثها وأقاصيصها فهي تعيش في نفس سجنه المظلم "كانت أيضا ضريرة".
زوجة مفتش الري
طه حسين تحدث في استعراض حياته عن زوجة مفتش الري الذي كان يذهب إلي بيته لتلاوة القرآن، فهو رجل في الأربعين وزوجته لم تتجاوز الرابعة عشرة، لذلك كانت تلهو مع "طه" فكان يذهب قبل الموعد بساعة ليفوز بالتحدث معها.
في صحبة "ميَّ زيادة"
وفي القاهرة تعرف الدكتور "طه حسين" علي الكاتبة "ميَّ زيادة" بعد أن سمعها في إحدي الحفلات فطرب لصوتها وبات مستيقظًا له طوال الليل، فلم يفهم حديثها إلا علي أنه بات أسيرًا لنغمته، وفي كتاب "الذين أحبوا مي" يستعرض الشاعر"كامل الشناوي" وصف "طه حسين" لعزلة "مي" وإنطوائها في المرحلة الأخيرة من عمرها فيقول عن لسان "طه حسين: كنت أريد أن أستنقذ "ميّ" من تشاؤم أبي العلاء كما كنت أريد أن أستنقذها من الإسراف في التأثر برجال الدين، ولكن أبا العلاء ورجال الدين كانوا أقوي مني ومن غيري أيضاً!!.
ويكما طه حسين: ربما كان أظهر شيء لزم حياة "مي" في هذا الطور من أطوارها حبها لحياة القدماء وآثارهم، وإلي حبها في قرارة التاريخ، وحرصها علي زيارة الآثار والوقوف أمامها صامتة مرة ومتحدثة إليها أو متحدثة عنها مرة أخري. وقد ألححت عليها غير مرة في الخروج من دارها للرياضة فكانت تتمنع وتأبي، ولكنها قالت لي ذات يوم:- إن كنت تريد أن أخرج فاصحبني إلي الهرم، فإني أحب أن أشهد هذه الآثار، وأن أقف موقف عبرة واتعاظ أمام أبي الهول، وقد صحبتها إلي هذه الآثار غير مرة، وكانت أحاديثها عن الروح المصري القديم من أروع الأحاديث وأعمقها تأثيرًا في النفوس.
ويكمل الشاعر" كامل الشناوي" قصة "طه ومي" قائلاً: قبل وفاتها اتصل الدكتور "طه" في التليفون، وطلب أن يلقاها فاعتذرت بأنها لم تعد تقابل إلا رجال الدين، فإذا أراد أن يقابلها فعليه أن يكون قسيساً، فضحك الدكتور "طه" وقال لها: سيدتي يعز عليَّ ألا أراكِ، ويستحيل أن أكون قِسيسًا!!..
لقاء تاريخي مع هيلين كيلر
في مطلع شهر يونيو 1952 تم اللقاء التاريخي بين الكاتبة الأمريكية "هيلين كيلر" وعميد الأدب العربي "طه حسين"، وكلاهما كان "ضريرًا"، إلا أن "هيلين" كانت بالإضافة إلي ذلك "صماء وبكماء"، أي أنها كانت نموذجًا إنسانيًا وتطبيقًا حيًا للحكمة الصينية التي تقول "لا أسمع، لا أري، لا أتكلم" وكان اتصالها الوحيد بالعالم عن طريق سكرتيرتها التي كانت تترجم لها ما تراه وما تسمعه بالدق بأصابعها ما بين الإبهام والسبابة لكف "هيلين" اليسري، وعن طريق لغة الأصابع تمكنت تلك الكاتبة العبقرية من أن تبهر العالم بمؤلفاتها: "قصة حياتي"، "تفاؤل"، "الدنيا التي أعيش فيها"، "أغنية الجدار الحجري"، "بعيدًا عن الظلام"، "إيماني"، "في منتصف التيار"، "الجزء الثاني من حياتي"، "الحب والسلام"، "هيلين كيلر في أسكتلندا" و"فلنؤمن".
وبعد ذيوع شهرتها قررت "هيلين" أن تطوف العالم لتدعو إلي معاونة مكفوفي البصر، وكانت مصر إحدي محطاتها، وكان "طه حسين" أبرز الذين حرصت علي لقائهم، فهو ــ أيضًا مثلها، قهر الظلام وتحدي الإعاقة وتمرد علي العقليات السلفية ونادي بمجانية التعليم وحقق مكانة أدبية عالمية واحتل بعلمه منصب وزارة المعارف وعمادة الأدب العربي، وهكذا التقي الشرق والغرب فيهما، وكان عمره وقتئذ 62 عاماً، أما هي فكان عمرها 72 عامًا.
وفي بداية اللقاء مد "طه" يده إلى "هيلين".. مدها في اتجاه حركتها باستخدام بوصلة أذنيه اللتين لا تخطئان، وبحركة مترددة مدت "هيلين" أناملها إلى وجه "طه حسين" وراحت تتحسسه في نهم من تريد أن تتعرف علي صاحب هذه الملامح بنفسها، تريد أن تحفر ملامحه في خيالها، وارتبك "طه حسين" مُبتسماً وسأل سكرتيرتها:
ـــ هل أضع النظارة.. أم.. و.. وردت عليه السكرتيرة هامسة: لا اتركها كما هي، فهي إنما تتحسس كما يلمس الفراش زهرة ربيع.. إن مشاعر أناملها كالنسمة!!.. وتركها "طه" تفعل ما تريد ثم جلسا يحدث كل منهما الآخر عن نفسه وعن أعماله وعن رسالته ويبدي كل منهما إعجابه بالآخر مُنبهرًا.. إنه لقاء يصعب تكراره بين قمتين شامختين قل أن يجود الزمان بمثلهما أبدًا.
الموت بين يدي سوزان
كل هذه العلاقات النسائية التي مرت في حياة "طه حسين" لم تكن علاقات مكتملة، كما أن معظمها ــ إن لم تكن كلها ــ لم ترق إلي مرتبة الحب الناضج باستثناء علاقته الرائعة بسوزان: زوجته وشريكة أحلامه وعينيه الباريستين اللتين رأي بهما العالم.. إنها صاحبة القصة الوحيدة في حياته!!..
رحيل الكروان في السابع والعشرين من شهر أكتوبر 1973 شعر "العميد" بضيق في التنفس وعندما حضر إليه الطبيب كانت النوبة قد زالت، وفي تلك اللحظة وصلت برقية من الأمم المتحدة تعلنه فيها بأنه قد فاز بجائزة "حقوق الإنسان" وانتظاره في "نيويورك" في العاشر من ديسمبر لتسلم الجائزة، ولم يعلق العميد علي سطور تلك البرقية التي قرأها له الطبيب إلا بإشارة من يده.. وأعطاه الطبيب حقنة لتسكين الألم وخرج وبعد أن طمأن زوجته التي وجدت نفسها معه بمفردها، وتكمل "سوزان" تفاصيل النهاية قائلة:
كان يريد مني أن أجعله يستلقي علي ظهره، وكان ذلك مستحيلاً بسبب ظهره المسلخ. وأصُغي ــ وما أكثر ما يؤلمني ذلك ــ إلي صوته يتوسل إليَّ كصوت طفل صغير قائلاً: ألا تريدين؟.. ألا تريدين؟.. وبعد قليل قال: إنهم يريدون بي شرًا. هناك أناس أشرار.
وسألته باكية: ــ من الذي يريد بك الشر يا صغيري؟.. من هو الشرير؟.. كل الناس.. ــ حتي أنا؟ لا.. ليس أنتِ.. ثم يقول بسخرية مريرة ذكرتني بسخريته في أيام مضت أية حماقة؟! هل يمكن أن نجعل من الأعمي قائد سفينة؟!..
من المؤكد أنه كان يستعيد في تلك اللحظة العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جوبه به، والهزء بل الشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتي يتمكنوا من الإدراك.. غير أنه لم يستمر، بل قال لي فقط، كعادته في كثير جدًا من الأحيان: أعطني يدك.. وقبلها.. ثم جاءت الليلة الأخيرة. ناداني عدة مرات، لكنه كان يناديني علي هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل، ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نمت ــ ولم أستيقظ ــ وهذه الذكري لن تكف عن تعذيبي..
وفي الساعة السادسة صباحًا جعلته يشرب قليلاً من الحليب، وتمتم بضع كلمات، ونزلت أعُد قهوتنا ثم صعدت ثانية ودنوت من سريره وناولته ملعقة من العسل بلعها.. وبدا لي بالغ الشحوب عندما استدرت إليه، لا تنفس ولا نبض، وجلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن.. كنا معاً.. وحيدين.. متقاربين بشكل يفوق الوصف، ولم أكن أبكي ــ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ــ ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث.. كان الواحد منا قِبَل الآخر.. مجهولاً ومتوحدًا، كما كنا في بداية طريقنا.. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الأُلفة الحميمة القصوي، أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التي كثيرًا ما أحببتها، تلك الجبهة التي كانت من النبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أي غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها.. جبهة كانت لا تزال تشع نورًا.. ــ آه يا صديقي.. يا صديقي الحبيب!!..
التعليقات