بداية مبشرة "لأيام قرطاج السينيمائية" أو "مهرجان قرطاج السينمائي" كما يحلوا للبعض أن يطلق عليه الذي انطلق من 14 إلى 21 ديسمبر.
كانت البداية مع "أرزة" اسمها "أرزة" تيمنا باسم شجرة الأرز الشهيرة ذلك الرمز الدال الذي يحمل دلالات متعددة.. هو الرمز الذي يعتز به كل لبناني والذي يرمز لهذا البلد الرائع بين كل بلدان المنطقة خاصة لدي الحضارات العريقة القديمة، وارتبط بحكاياها وأساطيرها، فمن مراكب الشمس لدى قدماء المصريين إلى براميل حفظ المشروبات .. وصولا إلى أسطورة إيزيس وأوزوريس حيث عثرت إيزيس على أخر جزء من جسد زوجها المغدور مدفونا تحت شجرة أرز في لبنان .. لتتم بناء الجسد المقدس لكي يأتي حورس ليدرك ثأر أبيه من عمه الشرير "ست".
دياموند بوعبود في مشهد من الفيلم
وترجع المعاملات التجارية بين قدماء المصريين ولبنان إلى الألف الثالث قبل الميلاد حيث كانوا يشترون منهم ذلك الخشب الصلب الثمين، مرورا ب"نبوخذ نصر الثاني" الذي إنطلق من بابل ليصل إلى أرز لبنان .. وليس إنتهاء بملحمة جلجامش العظيمة التي تجد الأرز رافدا أساسيا ضمن أحداثها، ولا تلك الأساطيل التجارية الفينيقية التي غزت العالم القديم بتجارتها، والتي إنطلقت من سواحل صور لتؤسس قرطاج العظيمة، ذلك الأرز الذي ذكر في الكتاب المقدس باعتباره رمز الصالحين، ذلك الخشب المقدس الذي شيدت منه دور العبادة في المعابد والكنائس والجوامع .. ربما لهذا يطلق عليه " أرز الرب " أو " أرز الله ".
دلالة الأسماء في العمل الإبداعي:
ربما يبدو هذا الإسهاب في مقدمة قراءة تحليلية لعمل فني طويلة لكن تميز الإختيار في إسم العمل ودلالاته كان لابد من التعريج عليها بتلك المقدمة كما لابد أن نؤكد إلى جانب الرمزية التي يحملها إسم تلك الشجرة الأنثى الأم أنها تجيد النمو وسط العوامل المناخية والجغرافية الجبلية القاسية جدا .. وهي التي تللم تلك التربة الجبلية المفتتة لتجمعها في تماسك شديد وقوي كما تجمع كل أم عظيمة شتات أبنائها وأسرتها وتعطيهم دائما الأمل مهما كان مستحيلا كما فعلت "أرزتنا-ارزة" بطلة الفيلم مع أبنها وشقيقتها.
"أرزة - دياموند بوعبود" إمرأة لبنانية عادية تعاني مع أبنها "كنان - بلال الحموي" وشقيقتها "ليلي - بيتي توتل" شظف العيش وتعيش على الكفاف من صنع "فطائر السبانخ" المنزلية والتي يقوم أبنها بتوصيلها إلى الزبائن في ديارهم سيرا على الأقدام، تحاول الأم "أرزة" تخفيف العبئ على أبنها من خلال دراجة نارية فتضطر إلى سرقة الإسورة الذهبية التي أهداها خطيب أختها الغائب منذ سنوات لكي ترهنها مقابل 400 دولار كمقدم لدراجة نارية تعين أبنها على توزيع الفطائر وتضاعف دخلهم ..، وهنا نتعرض لأول مشكلات لبنان الضائع عندما نكتشف معا أن المعاملات المفضلة هناك أصبحت بالدولار وأن 150 الف ليرة لبنانية اصبحت تعادل خمسة دولارات ..، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن عندما تسرق الدراجة النارية مع أول يوم بعد شرائها .. لتبدأ رحلة إكتشاف الواقع المأساوي المعيش في لبنان الذي فقدناه ولم يعد لبنان الأخضر الحلو كما أخبرتنا الأرزة الحقيقية الشامخة جارة القمر فيروز.
دياموند بوعبود وبيتي توتل بطلتي فيلم أرزة
في رحلة العذاب يكمن الإبداع:
من خلال كوميديا سوداء لكنها تحمل إشراقات وسط قتامة الواقع الأسود للبنان والمنطقة، ومن خلال أحداث كاشفة للواقع من خلال دراما قدمت صنف راقي من هذه الكوميديا تبدأ رحلة البحث عن الدراجة النارية المسروقة ومعها يتعرى واقع لبنان المسروق من أبنائه قبل أن يسرقه العدو ..، لنكتشف معا لبنان الجميل الذي سرقته الطائفية والمناطقية لتشظيه وتشرذمه .. إلى الحد الذي نكتشف فيه أن التشظي والتشرذم نال حتى من أبناء الطائفة الواحدة فأصبح الأخ يأكل أخيه .. وفي حوار ذكي كاشف نجد أبن طائفة " الطشناق الأرمنية " يتهم الصائغ الذي أرسل إليه " ارزة " كزبونة بأنه محتال "نصاب" ويرشح لها أبن عمه بدلا منه طمعا في ما يمكن ان يكون قد تبقى لها .. إلى حد أنه يتهم طائفته كلها بأنها من المحتالين من أجل مصالحه الخاصة.
ولأن البطلة " أرزة " تحمل بين طيات أسمها الرمز .. رمز لبنان كلها فقد حرص سيناريو وحوار الفيلم على تقديمها هي وأسرتها كلبنانيين مجردين دون أن تشي أسمائهم أو تفاصيل حياتهم بأي إنتماء طائفي أو مناطقي .. فشقيقتها تدعى "ليلى" وهو إسم محايد، وكذلك إبنها الذي يدعى "كنان" إسمه لا يدل على شئ اللهم إن كان يحيلك إلى " المكنون " .. مكنون المشكلة اللبنانية التي يحمل بسمات شخصية بعض تفاصيلها وأهمها مشكلة الهوية وكراهية الوطن بمن فيه .. وربما التفريط فيه وبيعه من خلال تركه وهجره مثلما أهمل دراسته وتركها في إحالة إلى أهمية العلم في بناء وطن سليم معافى يخلو من الأمراض.
ومن خلال أحداث سريعة ولاهثة تواكبها حركة كاميرا سريعة وذكية ولقطات أغلبها " مديم كلوز " عند اللزوم دون إفراط تنم عن مهارة تقنية .. تبدأ رحلة الكشف والإكتشاف من كشك لبيع العاديات تملكه سيدة تعاقر أنواع المخدرات المختلفة تلجأ إليها "أرزة" لشراء الرموز الطائفية والشعارات التي تميز كل طائفة لكي تستطيع الدخول إلى مناطق الطوائف في سهولة ويسر وكأنها تنتمي إلى تلك الطائفة التي تتوجه إليها في كل مرة لتضمن مساعداتها، وخلال رحلة بحث بطلة الفيلم "أرزة" عن الدراجة النارية المسروقة يرافقها أبنها وسط أحداث كوميدية وملابسات طريفة مع معظم الطوائف التي تشكل الفسيفساء اللبنانية .. بما في ذلك تلك التاجرة الصغيرة المغيبة دائما بالمخدرات والتي تزعم دفاعا عن مصالحها التجارية بأنها تنتمي لطائفة جديدة إخترعتها وهي طائفة " كلن يعني كلن " ذلك الشعار السياسي الذي رفعه السواد الأعظم من الشعب اللبناني الذي كفر بكل الطوائف والألوان السياسية على الساحة وكأنه هو نفسه كان كغيبا و لم يأت بها .. في إحالة تتهم أولئك المتظاهرين بأنهم أيضا مغيبون ومسئولون عن ضياع الوطن.
بيتي توتل
الممثلة "شادن فقيه" التي لعبت دور صاحبة كشك العاديات قدمت أداء كوميدي تلقائي ورفيع ساهم في تجسيد الشخصية وتثمين الدراما.
خلال رحلة التنقل من منطقة إلى أخرى ومن طائفة إلى " عدوتها " من أبناء الوطن الواحد .. نمر أيضا بمشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من خلال تاجر مسروقات فلسطيني يقطن في مخيم شاتيلا أو هكذا زعم من أتهمه .. لنكتشف أنه هو الأخر هاجر بلاعودة .. ويمكن للمشاهد أن يستبطن من المشهد أيضا فقدانه حق العودة.
مستوى أخر من الكشف والاكتشاف:
خلال الأحداث يتعرى أيضا مستوى أخر من الدراما من خلال الملابسات الخاصة بتلك الأسرة التي تكتشف أنها في جوهرها إنعكاس للواقع اللبناني المعيش، حيث نكتشف أن " أرزة " التي تزوجت صغيرة في المراهقة وعمرها ستة عشر عاما قد هجرها زوجها وهرب منها ومن الوطن أو بالأحرى من الأثنين إذ أن إمرأتك أو زوجتك هي الوطن الصغير تاركا ولده الذي لم يسأل عنه أبدا .. لكن " أرزة " التي تلم شتات الأسرة كما تلملم شجرة الأرز فتات الأرض الجبلية .. توهم ولدها بأن أبوه يعيش في مدينة بعيدة في فرنسا، وتشتري له الهدايا وتزعم أن أباه قد أرسلها له .. حتى لا يشعر بمركب النقص بين أقرانه أو يكفر بالوطن كما كفر ابوه وغيره من أبناء ذلك الوطن المغدور.
شادن فقيه
كما تكشف لنا "أرزة" كيف أن "زين" خطيب شقيقتها "ليلى" قد ذهب بلا عودة وربما قضى نحبه في أحد السجون السورية كما أخبرتها أخته..لكنها تحجب الحقيقة عن شقيقتها لعلمها أنها لن تتحمل الصدمة وقسوتها..حفاظا على تماسك تلك الأسرة الصغيرة التي هي جزء من فسيفساء وطن جميل مزقه أبنائه قبل العدو .. لتصبح من جديد الأرزة التي تجمع شتاته وتحافظ على تماسكه ..، ويبقى مشاهد مواجهة الأختين ومكاشفة "أرزة" لأختها "ليلى" بسرقتها لأسورتها الذهبية..ثم معايرتها لها بعدم الزواج والشعور بالأمومة من أعمق مشاهد الفيلم وأكثرها إنسانية، كان قد مهد لها مشهد مخملي سابق لشقيقتها "ليلى" وهي تراقص ثوب عرسها الذي لم ولن يأتي على أنغام مقدمة أغنية "فايزة أحمد" الشهيرة " أنا قلبي إليك ميال" ..
تهدأ عاصفة المواجهة بين الأختين في مشهد يعكس رقة السيناريو المكتوب وترقد "ليلى" في حجر أختها وأحضانها كأن الغصن يعود إلى الجذور لتستئنفا حياتهما البسيطة وتتجدد إرادة " أرزة " العارمة في إستعادة ما سرق منها في مستوى أولي للقراءة التحليلية ..، ويمكنك إن شئت أن تقول في إستعادة البوصلة أو الوسيلة التي ستعيد من خلالها توجيه دفة الوطن إلى الطريق الصحيح ..
عندما تنتصر الإرادة والعقل على السلاح الغاشم :
أخيرا تعثر " أرزة " وأبنها على الدراجة النارية المفقودة في مخزن أحد تجار المسروقات لكنه يهددهم بالسلاح بمجرد مواجهتهم له بملكية الدراجة ..، لكن وبحيلة ذكية وبسيطة دون عنف .. تسطيع "أرزة" وأبنها إستعادة ما سرق منهما ليخرجا بسلام كأنهما يحلقان فوق بيروت كأنهما يحتضنانها بعد إستعادتها من براثن اللصوص طائفيين كانوا أو مناطقيين أو سياسيين إنتهازيين .. حتى بدأ مشهد النهاية وكأن كاميراه تعانق موسيقاه ليشكلا معا مشهد راقص احتفالا بعودة الوطن المسروق .
* تحية مستحقة لصناع هذا العمل الإبداعي وفي مقدمتهم مايسترو العمل المخرجة "ميرا شعيب"، والمؤلف "فيصل سام شعيب" ـ لؤي خريش.
التمثيل : دياموند بوعبود، بيتي توتل، بلال الحموي، شادن فقيه، هاكوب دير جوجاسيان، جنيد زين الدين، فادي أبي سمرة، إيلي متري ..
* ويبقى الإشارة إلى أن الأعمال الإبداعية المتميزة أحد أهم سماتها الإستشراف الذي يمكن أن يكون إضاءة أو تنبيه للمتلقي، وكأن هذا العمل الذي بدأ إنتاجه في 2023 كان يستشرف المأساة التي شهدناها في سورية بعد المأساة اللبنانية .. لنتيقن جميعنا أن العدو القادم من خارج الوطن لا يمثل الخطر الأكبر بالقدر الذي يمكن أن يرتكبه أبناء الوطن الواحد في حق أنفسهم عندما يتمكن منهم التشرذم والتشظي والإنقسام من خلال الطائفية والقبلية والمناطقية..، الأمر الذي حرصنا على سؤال بطلتي الفيلم حوله.
التعليقات