مصطحبين جمهور العرض في رحلة داخل كبسولة فضائية يضيع أحد روادها في ذلك السديم الكوني نعثر أخيرا عليه أو على بعض ما تبقي منه بعد أن تحول إلى هباء منثورا ، وبعد الإحتفاء بتضحيته وفدائه "Sacrifice and redemption" كما يليق وسط ذلك السواد الكوني في مراسم تأبينية جنائزية تؤكد على الهوية الصينية من خلال رموز عقائدية فلسفية وراية الصين الحمراء الشهيرة يصاحبها أداء صوتي رفيع وقادر يؤكد مدى التدريب الشاق الذي بذله أصحاب تلك الأصوات شديدة التميز.. ، يصرون على إستئناف الرحلة (رحلة المثابرة والبحث العلمي) والإصرار على التقدم والتحقق..ولكن من خلال رواية قصة من ضحوا ممثلا في حكاية رائد الفضاء الذي قضى نحبه الدراماتيكي فيما يشبه تقنية " الفلاش باك السينمائي " أو العودة الدرامية للماضي لمعرفة أصل الحكاية تخليدا لذكرى كفاح هذا الشعب العظيم من أجل بلوغ مأربه .. ؛ وربما جاز أن (ننحت) أو نستخدم تعبير "الهندسة العكسية الدرامية أو الفنية" إذ أن الصينيين إعتمدوا كثيرا في بحوثهم على أسلوب "الهندسة العكسية"..
ورغم الإيقاع الصوتي والحركي غير المعتاد بالنسبة للمتلقي الذي إعتاد المسرح الأوروبي والذي يبدو بطيئا بما يتناسب مع السياق الخاص بالسير في الفضاء .. والظلام والسواد الحالك الذي طغى على الجو العام..إلا أن مخرج العرض نجح في (تكبيل) الجمهور من خلال تدفق درامي رافقه معادل بصري وصوتي بالغ التميز وشديد الدقة ..
وبطبيعة الحال وطبقا للقاعدة الشهيرة إن "الإسقاط وظيفة المتلقي" فضلا عن كون التلقي له عدة مستويات تختلف بإختلاف المتلقي وفحوى ما يطرحه العمل .. إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن الطرح الذي طرحه عمل "عودة النجم" هو طرح "صيني" بحت يؤكد على الهوية الصينية ونضالات شعب الصين من أجل الوصول إلى الأرض الموعودة "Promised Land" أو المثالية وهو حلم تشترك فيه الإنسانية كلها.. ولا علاقة له من بعيد أو قريب بالقضايا العربية ، أو بالقاء القنبلتين الذريتين على "هيروشيما و نجازاكي" اليابانيتين ، ولا بالإنفجار العظيم "The big bang".. كما تزيد البعض في قراءة مخلة ربما كان السبب فيها إعتياد التعاطي مع الوان مسرحية وثقافية بعينها جلها إن لم تكن كلها غربية وهي آفة ثقافية تسيطر على مجتمعاتنا ربما كان السبب فيها الإستعمار الذي رزحت تحته منطقتنا ، وقد إستمر الحال هكذا بعد الإستقلال مما حال دون الإطلاع على ثقافات وفنون أخرى أنتجتها حضارات أخرى عريقة وموغلة في القدم كحضارات جنوب شرق آسيا حيث عرفت عنها الوان مسرحية عريقة كمسرح "النو" في الصين ، و"الكابوكي" في اليابان ، وفنون الهند المتعددة .. وهذا على سبيل المثال لا الحصر ..
ويحسب للمهرجان الدولي "أيام قرطاج المسرحية" العريق أنه منذ بداياته كان حريصا على التعريف بثقافات شهدت تقصيرا من منطقتنا العربية في التعرف عليها ، ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن الدورة التاسعة لأيام قرطاج المسرحية عام 1999 التي كان مديرها اد/ محمد المديوني .. والتي كان شاهدا عليها كاتب السطور قد إستقدمت عرضا صينيا رائعا "لأوبرا بيكين" في إفتتاح المهرجان غاب إسمه عن الذاكرة لكن بقيت في الذكرى روعة الأداء المذهل بالأسلحة والسيوف الحقيقية التي تطلب وجودها في العرض تدخل البلدين مع سلطات المطارات التي مرت من خلالها تلك الأسلحة الحقيقية التي لو أخطأ الممثلون أثناء الأداء في جزء من الثانية لتعرضوا لخطر الموت ، لكن دقة الأداء الحركي المذهل والتدريب الراقي لهذه الفرقة الصينية الشهيرة حال دون وقوع أية أخطاء والإستمتاع بعرض ظل وسيظل يسكن ذاكرة كل من شاهده ..
واليوم وفي الدورة الخامسة والعشرون للمهرجان الدولي "أيام قرطاج المسرحية" نشاهد مجددا في الإفتتاح عرضا صينيا بالغ الإتقان في كل شئ من الأداء الحركي الدقيق إلى الأداء الصوتي البديع وصولا للسينوغرافيا المذهلة ..
وفي ملاحظة سريعة لابد من الإشارة إلى أن أداء فرقة "أوبرا بيكين" الحركي في الدورة التاسعة عام 1999 كان بالغ الدقة والسرعة إلى حد حبس أنفاس الجمهور خاصة خلال المبارزات بالسيوف ، فيما كان الأداء الحركي في عرض الإفتتاح الصيني "عودة النجم" للدورة 25 للمهرجان يتماشى مع سياق الدراما التي تدور في كبسولة فضائية فكانت الحركة بالغة البطء بيد أنها لا تترك للمتلقي فرصة التقاط الانفاس رغم بطئها الذي لم يغيب دقتها وإتقانها ..
لقد أمتع المهرجان الدولي لأيام قرطاج المسرحية جمهوره وضيوفه خلال تاريخه العريق بعروض استثنائية رائعة في مقدمتها عروض للبولشوي ، والمسرح الصيني البديع الذي عرفنا في إفتتاح الدورة الخامسة والعشرين على تراث غنائي وصوتي رائع .. لا يقل روعة وجمالا عن السينوغرافيا التي حملت في طياتها مفردات العالم والتكنولوجيا سلاح من يريد البقاء في صدارة مستقبل عالم الغد.
التعليقات