عندما يقوم الجسد المسجى حاملا راية بيضاء كراية الأستسلام كأنه مسيح يحمل صليبه سائرا في طريق الآلام صاعدا الجلجثة.. لكنك سرعان ما تكتشف أنها ليست راية الإستسلام البيضاء لكنها راية التسليم بأن الوطن وربما الإنسانية تستحق التضحية والفداء "Sacrifice and redemption" إذ يضحي الفرد بنفسه لأجل الجميع باذلا الغالي والنفيس بل روحه ذاتها ..
كان الرمز هذا الإنسان " النموذج " المطلق الذي يضيع في الفضاء الكوني خلال رحلة البحث عن الفردوس المفقود أو "أرض الميعاد" "Promised Land" ، ويعييهم البحث عنه فلا يجدوا إلا هباء منثورا ، أو جثة هامدة .. لكن بعد طقوس الحزن لا يستسلم الأخرون ليعاودوا الكرة ، فصعود " الجلجثة الكونية " هذه المرة فيما يمكن إعتباره " تضحية وفداء " "Sacrifice and redemption" جديدين من أجل فداء الوطن "الصين العظيم" وربما الإنسانية .. لتكلل رحلة " طريق الحرير الجديد " بالنجاح في مشهد فضائي أخاذ مبهر يحتوي مسرح الأوبرا في تونس بمن فيه شكلا وموضوعا وأنت تشاهد ذلك الرمز السابح في الفضاء بنجاح ..
لم يخلو العرض من أداء حركي شديد الأنضباط ، وجملا "كريوجرافية" أندمجت في المشهدية مع كافة عناصر العرض المسرحي إلى حد التماهي لتشكل "سينو غرافيا ديناميكية" بديعة.. ، مع رسائل شبه مشفرة حملتها التكوينات البشرية "السباعية" العدد الموحية بأيماءات تحيلك "للبوذية" و"الكونفوشية".. بما يوحي أن الرسالة تحمل أختام "الصين العريق" ..
هذه قراءة مبدئية في الرسالة التي حملها العرض الصيني في مهرجان أيام قرطاج المسرحية الدولي .. وأظن أنها ليست رسالة فنية بديعة ومنضبطة و مذهلة حملت الكثير من عناصر الفرجة للفن الرابع إن لم تكن كلها برزت فيها عناصر المسرح الأسود ، والظل والخيال ، والإضاءة الحديثة المدمجة مع بقية العناصر لتظهر مدى التقدم التكنولوجي في فنون العرض المسرحي التي تحث الناقد قبل المتلقي لتجاوز النظريات الجمالية القديمة إلى نظريات جديدة وآفاق أرحب ربما تتناول الأعمال المسرحية بنظرة كلية إذا سيصبح تفكيكها وإعادة بنائها أمر بالغ الصعوبة ..
- لكن وكما ذكرنا آنفا أن هذا العرض لا يحمل رسالة فنية إبداعية فقط .. ، إنما يحمل أيضا رسائل عملية تشي بمقدار الدقة و التفاني في العمل ، ورسائل علمية تبيت مقدار التقدم التكونولوجي الذي أحرزته الصين ، ورسائل سياسية أيضا تؤكد أن مستقبل العالم لن يكون أحادي القطبية .. ولن يقبل هيمنة طرف بعينه ، فإما أن يتخلص الكوكب كليا من هيمنة قطب واحد ليتحرر تماما وهذا ما نرجوه ، أو تقتسم الهيمنة بين الأقوياء وهو ما لا نرجوه ، أو تصبح الهيمنة الجديدة للصين مستقبلا .. كما هيمن هذا العرض البديع بأبعاده الجمالية والتكنولوجية الحديثة على مشاعر ووجدان وعقول المتلقين وهذا ما لا نتمناه حتى لا نصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار .. ويصبح الكوكب أسيرا لنار التنين.
التعليقات