قراءة الدكتورة الأميرة منى رسلان أستاذة النقد الأدبي والمنهجية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية
جماليَّة “النهاوند” كي لا تُطفِئ الريحُ السِّراج في كتاب “جبران خليل جبران نبذة في فنِّ الموسيقى”
تنقيح وترجمة: فرانشيسكو ميديشي، د. مايا الحاج ونادين نجم
“وُجد الإنسان فأوحيت إليه الموسيقى من العُلا لغة، ليست كاللغات، تحكي ما يكنَّه القلب للقلب. فهي حديث القلوب”. (جبران خليل جبران، الموسيقى. المجموعة الكاملة-العربيَّة_ ص33-43)؛ حيث “أُغنية الليل”:
سكنَ اللَّيلُ، وفي ثوْبِ التُرابِ تختبي الأحلامْ
وسعى البَدْرُ، وللبدرِ عُيُون ترصُدُ الأيَّامْ
وقال حكيم هندي: “إنَّ عذوبة الألحان توطِّدُ آمالي بوجود أبديَّة جميلة”.
وتسطع “أُغنية الّليل”:
اسمعي البُلبُل ما بَينَ الحُقول يسكُبُ الألحانْ
في فَضاءٍ نفخَتْ فيهِ التُّلول نَسمةَ الرّيحانْ
حتَّى أنَّ التأريخ الأدبي للحياة العربيَّة وحضارتها سطَّرا لنا، مشهديَّة ترافُق أرواحنا المُتمثِّلة بــ “المُوسيقا”، لفظة سأعتمدها في قراءتي النقديَّة هذه، كما وردت في المُعجم، (كلمة الموسيقا): لفظٌ يُونانيٌّ يُطْلَقُ على فُنونِ العَزْفِ على آلاتِ الطَّرَبِ، وعلى العِلمِ المُوسيقيِّ النَّظَرِيِّ، ونَتائِجِه كالأنغامِ (تُذَكَّر وتُؤَنَّث). فالمعلومة مقتبسةٌ من المعجم في اللغة والنحو والصرف والاعراب والمصطلحات”، للباحثة غريد الشيخ.
ويكتبُ العلاَّمة الأستاذ الدّكتور وجيه فانوس مقاله الشهير عن علاقةِ “بيروت والموسيقا ومحمد عبد الوهاب”، سارداً برشاقةٍ وتقنيَّةٍ وصفيَّةٍ لها رمزيَّتُها ودلالاتها وملامحها ثقافيَّاً واجتماعيَّاً ونفسيَّاً، وتأريخاً لمدينة بيروت المتوهِّجة زمنذاك، والرافلةِ بالحِرفيَّة والتذوُّق الفنِّي والرُّقيِّ والأناقة والفنون، في سيرورتِهِ الحياتيَّةِ والعمليَّةِ والثقافيَّةِ والمُجتمعيَّةِ لُبنانياً وعربيَّاً، ناهيك عن الأكاديميا، ومُستذكِراً: “نشأتُ، في مطلعِ النصف الثَّاني من القرنِ العشرين، في بيئةٍ بيروتيَّةٍ اهتمَّت ثقافتها الاجتماعيَّة العامَّة برصدِ الجمال وتقديرِ الفنون. وكان للموسيقا والشِّعر مجالهما الرَّحب والمميَّز في هذا الميدان؛ حتَّى إِنِّي ما أذكرُ في طفولتي جلسةً عائليَّةً أو لقاءً اجتماعيًّا، إلَّا وفيهما للشِّعر مَحَطُّ رِحالٍ فسيحٍ، يعبق بأناقة تذوُّق الكلمة وروعة التَّفاعل مع جماليَّة الصُّورة؛ وفيه- كذلك- للموسيقا ركنٌ تُرْفَعُ فيه صلاةٌ لِلنَّغم بخشوع”.
ومِمَّا لا شكَّ فيه، أنَّ جبران يستفيضُ في تشخيصه لفاعليَّة الموسيقا في العيش، وكم كانت القصائد المُغنَّاة – في تلك الجلسات واللِّقاءات- مَحْرَقَةَ بُخورٍ يتعالى من توهُّجِ جَمْرِها صدحُ بلابل الحَلا وعبقُ نشوةِ الآلهِة الطَّرِبَة.
هنا باب القصيد، فــ “العيس لا تسير في البيداء إلَّا إذا سمِعت صوت الحادي” ، يورد جبران. وإذ ما بكى الرضيع اقتربت منه والدته وغنَّت بصوتها، فتُحيلُه بأنغامها الشجيَّة، والمملوءة بالحنو والرأفة- من حالة الانزعاج إلى تلك السكينة والطُمأنينة، بعد أن تملأ الفضاء أُنساً وطرباً.
ويُطالِعُنا أيضاً في كتاب “نبذة في فنِّ الموسيقى _ جبران خليل جبران، Khalil Gibran- La musicaالموسيقى، بصياغته السلسة، بلُغة مُحكمة، الَّتي تعاون عليها بالتوازي المُترجمون فرانشيسكو ميديشي أحد أبرز المُترجمين الإيطاليين، والَّذي ترجم كُل أعمال جبران خليل جبران إلى الإيطاليَّة؛ والدكتورة مايا الحاج رئيسة قسم اللغة الإنكليزيَّة والترجمة؛ مع الكاتبة والباحثة في علوم الموسيقا والترجمة نادين نجم، من لبنان، والتوطئة بقلم الدكتور باولو برانكا. الصادر عن By SABIR MESOGEA إذ تمَّ تنقيح النسخة العربيَّة وترجمتها إلى الإيطاليَّة.
فرانشيسكو ميديشي أحد أبرز المُترجمين الإيطاليين
كي ينفتح “الكُتيِّب” على الموسيقا، وعلى علم الجمال، ونظريَّة فلسفة الفنِّ، من جهة، ومن جهة ثانية كي يسبر أعماق الحضور الذَّاتي، وبخزين الذكرياتِ فرحاً وتمجيداًللذَّات، وتوثيقاً للمآسي والخيباتِ والتأوَّهات، في “مُختارات “كتاب دمعة وإبتسامة”، صدى العمود _في جريدة المُهاجر_ الَّذي رسَّخ جبران من خلاله، قيمه الفكريَّة ووشائجه النفسيَّة وعلاقاته الأُسريَّة والمُجتمعيَّة، ونظرته الطوباويَّة ولربَّما الملحميَّة إلى نفسه وإلى الحياة برُمَّتها، وبطولاته وخذلانه، وأفكاره وأوهامه وأرقه الشعوري، وقلقه الوجودي، استنباطاً للمفاهيم العُليا.
بيد أنَّ أولى كتابات جُبران ومُداخلاته الَّتي تجسَّدت ورقياً في صحيفة “المُهاجر”المؤسَّسة على يد مواطنه أمين الغريب (1880-1971)، حاملة عنوان: “رؤية”، قد حدَّدت أسلوبه ومسارات كتاباته اللَّاحقة، وكوَّنته ثقافيَّاً وجبلتهُ إنسانيَّاً. “أنا هو القلب البشريُّ، أسيرُ المادَّةِ وقتيلُ شرائِع الإنسان التُرابي”.(أمين الغريب. جبران خليل جبران؛ الحارس. 1931م؛ ص689-704).
وقيِّض لـ جبران أن يسلك بين عوالم الرسم والبورتريه في تساؤلاته عن الجوهر؛ علماً أنَّ بعض الباحثين قد اختلفوا في تحديد العلاقة الناشئة ما بين الفنَّانِ والعمل الفنِّي. منهُم مَن يجعلُ حياةَ الفنَّان، وسيلةً لدراسةِ العمل الفنِّي كشفاً للإبداع، على اعتبار الفن المدخل والتعبير الحُر عن حياة الفنَّان في علاقة ترابطية تفاعليَّة وتراسُليَّة فيها من التأثر والتأثير الكثير؛ وسواهم ممَّن يسترشِدُ بدراسةِ العمل الفنِّي بذاته من دون سواه من الانعكاسات الشخصانيَّة / الفردانيَّة أو تلك الإيديولوجيَّة أو الإجتماعيَّةِ أو الميتافيزيقيَّة أو الثقافيَّة أو الحضاريَّة أو تلك الدينيَّة..، بعيداً عن حياة المُنتِج له، كما اشتغلت عليه المناهج النقديَّة “ما بعد البُنيويَّة”، فيكون “موت المُؤلِّف” ركيزة أساس في تشريح العمل الفنِّي بعيداً على مُبدِعِهِ، أكان القاص أو الشاعر أو الموسيقي، أو ما يُشاكلهم في فن الكلِم، الخطابة، المسرح وسواها.
لا ريب إذاً، من أن ينماز علمُ الجمال Aesthetics بما تشي به المعارف في أنَّهُ فلسفة للوعي الجماليِّ من خلال القدرة على الإبداع والاستيعاب، بما يختزنه من الصدق والجمال الكثير، كتجربة نابضة بالحياة.
ولعلَّ من الأهميَّةِ بمكان، أن نُلقي الضوء على ظاهرة إنتاج الفنّ على اختلاف تمظهره من خلال أشكالِهِ وصورِهِ المُتعدِّدة والمتمايزة تحفيزاً للذائقة الفنِّية لدى كُلٍّ من المُبدِع الخلاَّق / المُنتِج للفن، والمُتلقِّي المُتذوِّق له. ضير أنَّنا لا نغفل على الاطلاق، التكشُّف الذَّاتي، مع ما يتمخَّض جرَّاء المواجهة الحتميَّة ما بين الإنسان وذاته / نفسه، كما العمل الفنِّي؛ وما ينتج عن ذاك، من ظهور للحقائق غير معروفة للإنسان في كينونته عبر وسيلة المُكاشفة والتحقٌّق، ذاتيَّاً وموضوعيَّاً ومُثاقفة فاعلة.
من المهم بمكان الإعتراف، أنَّ لكُلِّ حقبة تاريخيَّة من مسار الحضارة الإنسانيَّةوتعاقُبها الزمكانيَّ، بفرادة موسيقاها، على اعتبارها صنيعة الإنسان وتقلُّباته المزاجيَّة وأحاسيسه الدفينة، وقلقهِ وتعلُّقه بالحياة، وفلسفته الوجوديَّةِ، ورؤاه المستقبليَّة. فالموسيقافي حركيَّةٍ مُستمرَّةٍ من جيل إلى جيلٍ، تنتقل من حضارة إلى سواها، ومن مجتمع أنطولوجي (علم الوجود) إلى آخر إيديولوجي، أو ديني أو لا ديني، أو ثقافي، أو مديني أو فلاحي، أو تكنولوجي. فالحضاراتُ الانسانيَّة كانت الشاهدة الفعليِّ والحيّ على ديناميكيَّة تعاقب الموسيقا بجذورها الموغلة في تاريخ الإنسانيَّة (في المُدُن، كما في حياة أو طور البداوة)؛ أو حتَّى في التفاعل التكنولوجي ووسائل التواصل الإجتماعي وخوارزميات الذكاء الإصطناعي AI؛ وتاريخ حضارة المشرق العربي، شاهد على ذلك، إذ حفظ النَّاس عاداتهم وتقاليدهم ومارسوا عقائدهم، وتراثهم الشعبي (القصَّة، الأقصوصة، الأمثال الشعبيَّة، الشعر الشعبي، والزجل، والعتابا والموليا والقرادي..)، تجسيداً -تصويريَّاً وفنيَّاً – موسيقيَّاً مشافهة ما قبل عصر التدوين؛ وتناقلوه جيلاً بعد جيل إرثاً ثقافيَّاً، وترسيخ عيش.
ويؤكِّد Dr. Fériel Bouhadiba أنَّ الموسيقا : La music est un contenant extensible capable de contenir L ‘émotion des individus et des peoples, de receler L’ identité des nations, de condenser L’ histoire des civilisations, de dire L’indicible du ressenti, de traduire les échanges entre les êtres et les sociétés.. avec une capacité d’absorption renouvelée a chaque oeuvre et a chaque époque’.
“جلستُ بقربِ من أحبتها نفسي أسمعُ حديثها. أصغيتُ ولم أنبس ببنت شفة، فشعرتُ أنَّ في صوتِها قوَّة اهتزَّ لها قلبي اهتزازات كهربائيَّة فصلت ذاتي عن ذاتي، فطارت نفسي سابحة في فضاءٍ لا حدَّ له ولا مدى، ترى الكونَ حُلُماً والجسد سجناً ضيِّقا”. يفصح (جبران خليل جبران، في كتابه: الموسيقى. المجموعة الكاملة-العربيَّة- ص33). هي انفعالات ترجيع الصدى الصوتي واعتماله في دواخل الأديب، وارتدادات النغم اللحني في ذاته، انفعالاً ينتشي، فتطير نفسه في الفضاء اللآ نهائي _ اللآ محدود. “وعيناه ناظرتان إلى البعيد كأنَّهُ يرى أعماق الأشياء”.
يقول المُترجمون الثلاثة الّذين انكبوا على تنقيح وترجمة “نبذة في فنِّ الموسيقى”، من اللغة العربيَّةِ إلى اللغة الإيطاليَّة، فرانشيسكو ميديشي، د.مايا الحاج ونادين نجم:”كما أنَّ كُتيِّب “نبذة في فنِّ الموسيقى”، المعروف بكلِّ بساطة بإسم “الموسيقى”، هو مرحلة البدايات غير الناضجة للإنتاج الجبراني”. وكأنى بهم يقولون: المرحلة الَّتي سبقت تشظي أفكار جبران، واعتناق بعض من مذاهب الفلاسفة العرب وابن الفارض، ونيتشيه،وكونفوشيوس والزرداشتية.. مسلكاً في معارج التنوير الذَّاتي في الكونِ. ويُعظِّم جبران في هذا المقام، هنيهات الموسيقا: “هي رنَّةُ وتر تدخُل سامعك محمولة بتموُّجات الأثير، فقد تخرج من عينيك دمعة محرقة أثارتها لوعة نأي حبيب أو آلام كلوم خرقها ناب الدَّهر”.
فهذا الشاب، ابن الثامنة عشر من عُمرِه يختبر أتون العشق المسيَّج بالخجل _وطيف الموسيقا تُراقص أودية الحنين، إلى بشرِّي، لبنان _الذَّات المخبوءة في الذَّاكرة الماضويَّة. فـ “تأثيرات قلبُ حبيبتي، رأيتها بعين سمعي فشغلتني عن جوهر حديثها بجواهر عواطفها المُنسجمة بموسيقى هي صوت النفس”. وتُحيل هذه العبارة الشجيَّة إلى جواب استفهام الإنكاري: “بلى”، يوصِّف جبران الوله، “بلى، فالموسيقى هي لغة النفوس، والألحان لطيفة تهزُّ أوتار العواطف”. و”النفس زهرةٌ ليِّنةٌ في مهبِّ ريح التقادير”.
علماً أنَّ البعضَ يركنُ إلى نظريَّة فلسفة الفن Philosophy of art الَّتي تهتم بما تشي به الطبيعة وخصوصيَّة فنِّ الموسيقا، على اعتبارها لصيقة بموضوعات العالمبشكلٍ عام، وبالمجتمع والذَّات الإنسانيتين على وجهِ التحديد، وتشارُكِها مع الفنون الأخرى، من مثل: القصَّة، أو القصيدة-شعراً موزوناً أو قصيدة نثريَّة..، أو الرِّواية، أو الفنون التعبيريَّة والمسرحيَّة والتشكيليَّة وسوى ذلك، أو الموسيقا، بعناصرها الزمانيَّةِوالمكانيَّةِ، وتالياً “الوجود”؛ تلك المُرشدة إلى الخيرِ والمحبَّة، عبر مسالك الإشباع الحسي الجماليِّ والفنِّي.
وتُطالِعُنا قصيدة جبران “الشّحرُور”:
أيُّها الشّحرُور غرِّدْ فالغِنا سِرُّ الوجودْ
ليتَني مثلكَ حُرٌّ مِن سُجونٍ وقيُودْ
ليتَني مثلك فِكراً سابِحاً فوْقَ الهِضابْ
أسكِبُ الأنغامَ عفوَاً بينَ غابِ وسَحابْ
بناءً عليه، تبنَّى جبران خليل جبران، التطرُّق ولو بشذرات إلى تاريخ وحضور الموسيقا في حياة الشعوب و الحضارات؛ إذ نقل إلينا مؤرِخو الآشوريين أنَّ الموسيقا هي عنوان المجد في الحفلات ورمز السعادة في الأعياد. وأيضاً نقلت إلينا أثار الآشوريين رسوماً وجداريَّات وأحفوريَّات تُمثِّلُ مواكب الملوك سائرة تتقدَّمُها الآت الطرب. وارتبطت السعادة بعُرى الأناشيد والتراتيل “كمحرقات مُقدَّسة مبدأها عواطف النفس”. والصلاة قُدِّمت في المعابد للإله، كـ “صلوات يهذِّبُها القلبُ وما أكملتهُ اهتزازات المشاعر”.
يستدلُّ جُبران، على ندامة الملك داوود (عليه السلام)، حيث انبعثت أنفاسُهُ في الأرجاء، “فملأت أناشيده أرض فلسطين وابتدعت أشجانُهُ أنغاماً شجيَّة مؤثرة منبعُها انفعالات التوبة وحُزن النفس، وكوسيط قامت مزاميره، بينه وبين الله، تطلُب له مغفرة زلَّاتِهِ..”. وفي لحظات تمجيد وتعظيم للصوت، يغدو هذا المزمور فعل تبجيل للموسيقا. يقول: “هلِّلوا للرَّب، سبِّحوا الربَّ بصوت البوق، سبِّحوه بالمزامير والقيثارة، سبِّحوه بالطبل والدفوف، ..، سبِّحوه بصنوجِ التهليل وكُلُّ نسمةِ فلتُسبِّح الربّ”.
ههنا، تتجلَّى محبَّة الله الَّتي تُوصِلُ العارف السَّالِك في معارج الحياة، إلى الفوز برضى الله، ما دام الله المُستَند والمُعتَمد. هذا الشوق إلى رضى الذّات الإلهيَّة وتعظيم الحضرة الربَّانيَّة أثناء تواجُدِها في قلب العارف التوَّاق، كما السَّاعي اللَّمَّاح، كما المُذنب المُشتاق إلى المغفرة الربَّانيَّة.
تجيء الموسيقا شاحذة لهِمم العسكر، وتقويهم على الكِفاح، وقارعو طبول الحرب يقارعون صوت الأفواج والمدافع والقتال، يدفعون بعزيمة المقاتلين للفوز بالحرب، جبران يشرح: “تسير الموسيقى، أمام العساكر،.. كجاذبيَّة تجمع شتاتهم وتؤلِّف منهم صفوفاً لا تتفرَّق”.
كومضة سحريَّة، تستحضر الشعوب والأُمم مشهديَّاتها التاريخيَّة إلى “مسرح الذكرى لنرى منزلة الموسيقا عند أُمم طوتها الأيَّام”. فعبدها الكلدانيون والمصريون كإلهٍ عظيم؛ ضمن مسار تواصلي تفاعلي بينهم وبين اليونانيين والرومانيين لتتبوأ مركزيَّة التقديس الإلهي_ وتستحيل الإله “أبولون” _حامِلُ القيثارةِ في يُسراه، ويمينه على الأوتار، بشموخ رأسه عالياً وبنظراته السابحة في عميق الكون كفيلسوف مُقدَّرٍ_ وتُقدَّم لها أبهى قرابينهم وأعطر بخورهم، وتُشيَّد لها الهياكل العظيمة.
بيد أنَّ المُتبصِّر في حكاية “أبولون” يرى مدى التلازم التطريبي، ما بين فاعليَّة مظاهر الطبيعة وتقمُّصها لفاعليَّة الإنسان وحركيَّته، وقوَّة الإله الذي هو فيه. يسرد جبران: وقال النَّاس “إنَّ رنَّات أبولون صدى صوت الطبيعة. رنَّات شجيَّة ينقلها عن تغريد الطيور وخرير المياه وتنهُّدات النسيم وحفيف أغصان الأشجار”. و”كم تأملت وجه سامعٍ حسَّاس فرأيت ملامحه تنقبضُ تارة وتنبسطُ طوراً، وتنقلبُ مع تقلُّبات النغم”. والموسيقا رفيقة الراعي في وحدته، وربيبة المسافر في تعبه، ومؤنسة المحزون في كُربته، وسند الغريب في وحدته؛ واتِّحاد الخلاَّن في اجتماع قلبيهما في الزواج، برباط الحكمة المُقدَّس.
لقد اعتقد الفرس أنَّ الموسيقا كانت حورية في سماء الآلهة تعشقت آدميَّاَ وهبطت نحوه من العلو، فغضبت الآلهة إذ علموا وبعثوا وراءها ريحاً شديدة نثرتها في الجو وبعثرتها في زوايا الدُّنيا، ولم تمت نفسها قط بل هي حيَّةٌ تقطنُ آذان البشر”. فهي روح الله بين البشر.
“الموسيقى كالمصباح، تطرد ظلمة النفس، وتُنيرُ القلب، فتظهر أعماقه”. (جبران)
ويكاد يُؤرقنا سؤال مُحيِّر، كيف لنا الانسلاخ عن اعتقاداتنا وموروثاتنا، والدينالأسطوري_ كما عند اليونانيين والرومانيين بتراتيلهم وأناشيدهم التمجيدية للآلهة في الأعياد، ودراما الخلق وأداء الطقوس الدينية بطرق فنية للصيرورة الكونية الملحمية؟ وكيف يتحقق الإنسجام والتوافق ما بين الإنسان والأخلاق في زوايا الدُنيا، ليُبحِر المُتلقِّي في دُنيا الأدب، أو الموسيقا بتفكير واع واتزان، أم بفوضى شعوريَّة والتباس وتقمُّص شعوري غير واضح؟ وكيف لنا أن نُحافظ على هذا الوجد المُتَّقدُ نحو السمو فالنور، فلا يقتله صقيع الشتاء؟ وكيف يتلمَّسُ الياسمين البريِّ، البنفسج اللحني في ذات “النبي”-جبران؟! وهل البوغونيا عشيقة رائعة تشرئبُّ لمُلاطفة مُخيِّلة الرسَّامين والنقَّاشين، فتُبدِع أشباحاً وصوراً.
يغدو، ممَّا تقدَّم، أنَّ فلسفة الفن إنما هي الباحثة في تأملات الحقائق المستترة المُولِّدة له، ما يفتح الدرب لاستنباط أسرار الجمال وماهيته وحدوده العميقة في الكون وفي الذّات الإنسانيَّة الَّتي أنتجته.
ومن نافل القول أنَّ جبران خليل جبران يستمتعُ في “نبذة في فنِّ الموسيقى”،بعودته إلى الأصالة المشرقيَّة، حيث يتعمشق في ذهنه الشعر الشعبي اللُّبناني، تسودُه ألحان الصبا والأصفهان والنهاوند والرصد. موسيقا الضيعة، تتناقلها الأجيال عبر الأزمنة، أينما حلَّت وكيفما وطئت. فمع “الصبا” ينتشي جبران وتنتشي معه القلوب بهجةً وتطريباً؛ يسطع “الصبا” فِعل شعشعة تتعانق فيها قلوب المُحبين؛ ويصغي إلى “الأصفهان” بعين سمعِهِ، “آخر فصل من حكايا عاشق يُفجِعُهُ موت حبيبه” ، وينأى القلب عن موطن الرُّوح، فـ “يرثي ببقايا ما في حياته من الرمق. الأصفهان رثاء الذَّات بتنهُّدات متواصلة تتقطَّع معها أوردة الوصال. ويجمع “النهاوند” ما بين لحنية فِراق المُحبِّين، وبظى الشوق، والتشرذُم في وداعِ الأوطان. وههنا يتكوَّر “الرصد” “في سكينة الليل، وقع في المشاعِر يُحاكي تأثير الكلمات رسالةٌ جاءت من عزيز غال.”.. “وقد قيل: “إن جهز ليلك فارصد”.
فيا ثمرة العشق، يا مُطهِّرة أخيلة العاشقين، يا سكينة المُنتظرين، ومُنجيّة الصابرين، “تكاثري يا عواطف النفوس وتعاظمي يا مشاعر القلوب”، وانزل يا ملاك الوحي على قلوب الشُعراء واسكب في خلايا قريحتهم مديحاً وتسبيحاً لهذه العظيمة المُقدَّسة.
يسترسل جُبران في التبحُر في قراءته لحضور الموسيقا في حياته الشخصيَّة، وفي سرديَّات الأُمم. فيغدو الكُتيِّب، أنشودة فلسفيَّة، لحنيَّة، فيها من التراسُل اللَّفظيواللحني ما يُزكِّي النفس ويُطهِّرُها، مُبتغى الانعتاق في ذات الكُلِّي الأبدي السرمدي، تجربة روحانيَّة ، وجدانيَّة، يسلِكُها المُريد السَّاعي إلى ملكوت الحضرة الإلهيَّة، إشعاع وصالٍ وعشقاً أبديَّاً، في تزكية للنفس في شوائبها وتصفيتها من أدران المادة الأرضية، مع ما تضفيه عليه تجاربه في مسعاه لبلوغ الرفعة النورانيَّة، تواضُعاً وزُهداً.
وعليه، يغدو جُبران خليل جبران المؤمن بفلسفته الوجوديَّة، بميزة التذوُّق الفنِّيوالموسيقا والمُبدع أدبيَّاً، ساعياً إلى تحقيق تجربته الجماليَّة؛ و يحيا في النهاوند حنين الأمل ، كي لا تُطفئ الريح السراج.
--------------------------
نُشر طبقاً لبروتوكول النشر الدولي المشترك مع مجلة "آسيا إن"
التعليقات