ست ساعات تفصلني عن بداية الرحلة، تقلع الطائرة العاشرة ليلا من مطار هيثرو، وأنا المقيم على بعد عشر دقائق من المطار كنت جاهزا منذ منتصف النهار .. مسافة زمنية مليئة بالانتظار.. ترقب فيه قلق وانفعال وفرح بفكرة لقاء عدد من أهم شعراء العالم… سمعت وقرأت الكثير عن “ميديين” ومهرجانها المتميز المختلف عن كل مهرجانات العالم… قبل الانطلاق الفعلي كانت هناك رحلة أخرى في الخيال مليئة بالتصورات والتوقعات فالمهرجان تحتضنه ميديين مدينة بابلو أسكوبار أشهر تاجر مخدرات في تاريخ البشرية، وقد عانت المدينة الأمَرّيْن نتيجة ارتباطها السابق بتجارة المخدرات وشهدت في ثمانينات القرن الماضي أعمال عنف مروع راح ضحيتها عشرات الالاف (أكثر من مائتي ألف قتيل وخمسة ملايين مُهَجّرْ) حتى أن أغلب الأصدقاء الذين عرفوا مسبقا بقراري حضور مهرجان ميديين الشعري أوصوني أن أبلغ سلامهم الحار إلى “حضرة بابلو أسكوبار.. والسلام أمانة كما أصرّ صديقي شليب.”… (هل كان علي إذن أن أزور قبر الشهيد (كما وصفه أحدهم) كي أبلغه الأمانة؟؟!!.
ميديين الجمعة 7 جويلية
الرحلة كانت مريحة رغم أنها دامت حوالي 15 ساعة من هيثرو إلى العاصمة بوغوتا ومنها إلى ميديين ورغم أن الرحلة ليلية إلا أنني لم استطع النوم إلا لساعة واحدة وسبعٍ وثلاثين دقيقة، لم أشعر بالتعب ولا بالرغبة في النوم، قرأت قليلا وشاهدت فلمين.. في المطار لم تكن هناك أية تعقيدات، الإجراءات سهلة وسريعة ومنظمة، الساعة الآن السادسة صباحا في كولومبيا / منتصف النهار في لندن
*
في السفرِ
حيثما تذهب الروح
يتبعها الجسدُ
قد تهجر البلدَ
لكن
سوف يتبعك البلدُ
*
شعرت وأنا أنزل من مدرج الطائرة أني أحمل تونس معي، أني عربي وأن عروبتي ترافقني، لم أستغرب هذا الإحساس فهو يرافقني حيثما حللت، حتى وأنا في لندن حيث إقامتي الدائمة منذ 30 سنة لا تفارقني تونس، أشعر دائما أني أتنفس تونس وأني أحمل عروبتي على أكتافي، لكني أشعر الآن بطغيان هذا الشعور وسيطرته الكاملة عليَّ دو إدراك سبب واضح لذلك.
بعد إتمام الإجراءات الضرورية في النزل تركت حقيبة السفر في الغرفة وقبل حتى وضع ملابسي في الخزانة المخصصة قررت أن أخرج في جولة على الأقدام لاستكشاف المدينة ورغم أني لم أنم لقرابة اليومين تقريبا إلا ساعة وجزءا من الساعة لم أشعر بالتعب ولا برغبة في النوم.
طقس ميديين جميل 18 درجة مائوية عند وصولي. والانطباع الأول: كولومبيا لا هي دولة عالم ثالث متخلفة أو في طريق النمو كما يحلو للبعض وصفها ولا هي دولة متطورة بالمعنى الغربي لمفهوم التطور.. هندسة العمارة أوروبية في مجملها وتكاد تماثل العمارة الإسبانية لكن في الشوارع روح شرقية خصوصا الشوارع المزدحمة بالباعة وصراخهم الذي لا ينقطع لترويج بضاعتهم، صراخ غير منفر يحملني إلى شوارع وأسواق القاهرة وتونس والمغرب فيخف إحساس الغربة ليعوضه إحساس بالألفة والارتياح.
باحة النزل الرابعة بعد الظهر
بعد العودة إلى الغرفة وقليل من الراحة أنزل إلى باحة النزل.. يتوافد الشعراء.. جو من الفرح الدافئ يشع في المكان ويعطّر لقاء الشعراء ببعض.. يستقبلك المسؤولون عن المهرجان بالعناق والتقبيل وفرح تراه في العيون وتحسه في روحك، يستقبلونك بمحبة كصديق قديم اشتاقوا لرؤيته.. ما تجدر ملاحظته هو عدم وجود فرق في طريقة الاستقبال بين الرجال والنساء أية مسؤولة أو متطوعة تستقبلك بعناق حار وتقبيل ومحبة واهتمام واضحين.. لكن من الضروري ملاحظة عدم الخلط بين دفئ الاستقبال والانطلاق العفوي في التقبيل وتلقائية الترحيب وبين الاهتمام الخاص بك كفرد.. تستقبلك المسؤولة أو المتطوعة كصديق بالعناق والتقبيل لأن ذلك أمر طبيعي في العلاقة بين الأصدقاء وطرق الترحيب بهم ولأنها طبعا لا تعاني من عقد النقص أو الخوف أو الحذر غير المبرر
السبت 8 جويلية
حافلتان مخصصتان لنقل أكثر من 100 شاعر إلى مسرح كارلوس فييكو في سيرو نوتيبارا حيث حفل الافتتاح الذي كانت أهم فعالياته قراءات شعرية لحوالي 40 شاعرٍ من الهند واسكتلندا والدنمارك وكوبا وكولومبيا وجنوب إفريقيا والمغرب (الدكتور محمد الأشعري) وفلسطين/الأردن (علي العامري) وغيرهم .. الشاعر الجزائري عاشور فني لفت انتباهي إلى أن المهرجان منذ سنوات طويلة وقد يكون منذ افتتاحه اتبع تقليدا لا يتخلى عنه كأحد معالم التعبير عن مناصرة القضية الفلسطينية والقضايا العربية عامة وهو ضرورة وجود شاعر فلسطيني وشاعر عربي في حَفلَيْ الافتتاح والاختتام وهما الحفلان اللذان يحضرهما أكبر عدد من جمهور الشعر.. وأؤكد هنا على استعمال كلمة جمهور لأن للشعر في ميديين شعبية وجماهيرا مخلصين لا يمكن وجود مثيل لهم في أي مكان آخر من العالم.
المسرح في الهواء الطلق ويتسع للمئات… امتلأ بالحاضرين من محبي الشعر وتفاعل الجمهور مع القراءات بالتصفيق والتصفير والصراخ أحيانا وهي ظاهرة لم أشهدها في أي مكان آخر في العالم خلال مشاركاتي في المهرجانات الشعرية.
الأحد 9 جويلية
قراءتي الأولى كانت ضمن مجموعة من الشعراء العرب تم اختيارهم ضمن سهرة الشعر العربي، خالد الريسوني الشاعر والمترجم المغربي والصديق الجميل في صمته وفي كلامه، المنشغل بالحوار الفكري الدائم مع نفسه.. عاشور فني الشاعر الجزائري (الحباب/الحبوب) الذي تعرفت عليه يوم وصولي في باحة النزل وأصبحنا صديقين حقيقين منذ اللقاء الأول وبعد جلسة واحدة.. مع الجزائريين لا أشعر مطلقا بوجود حاجز لا نفسي ولا ثقافي ولا من أي نوع … بلد واحد وشعب واحد والروح واحدة ولا يمكن تقسيم الروح إلى أجزاء.. الشاعر الرابع هو السوداني طارق الطيب المقيم في النمسا وإذا كان فعلا أنّ لكلٍّ من اسمه نصيب فإن لطارق الطيب النصيب الأكبر من اسمه فهو الطيب واللطيف الذي تسبق الابتسامة كلامه والذي تبدو ملامح وجهه مرآة لنقاء روحه.
المسارح والمؤسسات الثقافية في ميديين تعطي فكرة واضحة عن الاهتمام بالثقافة في هذه المدينة… 36 مكتبة عمومية في مديين تتراوح أعداد الكتب في كل واحدة منها بين 10000 و 26000 كتاب وهي مكتبات ليست مخصصة للإعارة فقط بل هي إلى جانب ذلك مقر دائم للأنشطة الثقافية والفكرية.. هذا دون اعتبار المؤسسات الثقافية الخاصة التي تعد بالعشرات.
مسرح Pablo Tobon Uribe Theater الذي احتضن أمسية الشعراء العرب الليلة واحد من أهم المؤسسات الثقافية التي تمولها الدولة في مديين.. جمهور غفير في قاعة المسرح.. ألاحظ أن العديد منهم يقوم بتسجيل القراءات الشعرية بواسطة هواتفهم الجوالة أو بواسطة آلات التسجيل الخاصة.. جمهور من كل الأعمار.. يافعين لا تتجاوز أعمارهم ال 15 سنة ومسنين تجاوزوا السبعين.. القراءة الأولى كانت للشاعر خالد الريسوني والثانية للشاعر الجزائري عاشور فني القراءة الثالثة من نصيبي والأخيرة للشاعر طارق الطيب.. الواضح أن الجمهور لم يأت مجاملة أو لملء الفراغ أو قتل الوقت.. تفاعل الجمهور مع القراءات الأربع بالتصفيق والوقوف أحيانا ورفع الصوت بشعارات سياسية أو ببيت شعري أعجب أحد الحاضرين رغم اختلاف القصائد واختلاف أساليبها وتنوعها بين الشعراء ورغم اختلاف ذائقة كل شاعر.. الاحظ أيضا أنه حتى وإن طالت الأمسية وامتدت لساعات لا أرى أحدا يغادر القاعة بل يزداد عدد الحاضرين.. يوم أمس، يوم الافتتاح امتدت القراءات لأكثر من أربع ساعات ورغم نزول متقطع للأمطار في المسرح الذي لم تكن مدارجه مغطاة لم يغادر الجمهور أماكنه بل تفاعل بالتصفيق والصفير والوقوف.. حتى بعد أربع ساعات من الاستماع تشعر من خلال ردود أفعال الحاضرين انهم لم يملوا بل ازدادوا حماسا.
عند الانتهاء من القراءات اليوم لاحظت في أروقة القاعة وجود أكثر من شخص يراقبني، اقترب عدد منهم وتحدّث إلى مرافقي الذي أخبرني أنهم يريدون مصافحتي وتقديم الشكر والتقاط الصور… أحسست بفرح وببعض الخجل.
الإثنين 10 جويلية
في باحة النزل يجلس عدد من الشعراء العرب وغير العرب، يلفت انتباهي حضور شاعر وروائي ومترجم أعرفه من خلال نشاطه الدائم في مجالات الأدب والصحافة.. أشرف أبو اليزيد صديق الجميع تقريبا أغلب المشاركين يعرفونه ويكنون له احتراما واضحا.. بعد دقائق من التحدث إليه يتضح لي السبب فالرجل واسع الثقافة وتشعر بسرعة بدفء العلاقة بينك وبينه، يحدّثك بتلقائية وهدوء ويستمع إليك بانتباه.. شخصية دافئة.. تشعر أنك تتحدث إلى أخٍ/صديق وأن هناك رابطا بينكما يشبه صلة الرحم.
مدينة Guatape
المدينة سياحية جميلة، أنيقة، نظيفة، الجدران كلها تقريبا مزينة بألوان خفيفة تبعث بهجة مريحة .. القراءة في ساحة عامة في الهواء الطلق.. الشعراء أربعة من ماليزيا وكولومبيا وصربيا وتونس
باحة النزل العاشرة ليلا
المكان دافئ والمشاعر أكثر دفئا.. يستقبلك الشعراء الجالسون بفرح ومحبة وكأنكم أصدقاء مقربون من سنين.. احتضنني فرناندو رندون مدير المهرجان رافعا الشال الفلسطيني بفخر ثم قبله باعتزاز ورفعه عاليا مرة أخرى ليؤكد انتماءه للقضية الفلسطينية.. صعدت إلى غرفتي في الطابق السابع ووضعت واحدا من الشالات الثلاثة التي أتيت بها معي إلى المهرجان ونزلت إلى باحة النزل.. جلست إلى جانب شاعرة لا أعرفها ولم ألتقيها من قبل.. أول ما رأت الشال الفلسطيني على أكتافي فاجأتني بأن قامت من على كرسيها واحتضنتني وعرفتني بنفسها ماربيلا من الشيلي، عضوة في إحدى المنظمات المساندة للقضية الفلسطينية.. أخبرتني أن القضية الفلسطينية لها حضور قوي في الشيلي وطلبت مني أن أهديها الشال الذي على أكتافي.. صعدت إلى غرفتي وأتيتها بشال مرسومة عليه صورة القدس وخارطة فلسطين.. عانقتني بفرح وبفخر.. لاحظت أن المثقفين والناشطين هنا يضعون الشال الفلسطيني ليس تضامنا مع القضية الفلسطينية فقط بل تعبيرا عن التمسك بالمبادئ الإنسانية والثورية وإحساس بالفخر والتحدي.
الثلاثاء 11 جويلية، العاشرة صباحا
أخرج في جولتي الصباحية اليومية التي تعودت عليها منذ اليوم الأول لوصولي، أجوب الشوارع وأجلس بمقهى (فويرا)، مقهى جميل ومريح وهو عبارة عن شرفة ظليلة نسيمها منعش يأتينا من حديقة سيمون بوليفار Simon Bolivar التي تكاد أشجارها الأمامية تلامس الشرفة .. الحديقة رغم صغرها عامرة على امتداد اليوم بالبشر.. المتنزهين، عشاق وعاشقات.. شيوخ وشباب.. عائلات.. آباء وأمهات صحبة أطفالهم.. بائعات هوى.. ومخنثون (بعضهم بملابس نسائية وعليك التثبت جيدا قبل أن تدرك أنهم (إناث في أجساد ذكور) يعرضون عليك خدماتهم الجنسية في مكان عام يرتاده الجميع.
الملفت للنظر في حديقة سيمون بوليفار أمر قد يكون ذو رمزية هامة حيث تقف في نهايتها كتدرائية بازيليكا متروبوليتانا التاريخية تطل وتشرف على تمثال سيمون بوليفار الثائر الكبير والرمز التاريخي لثوار أمريكا الجنوبية وإلى جواره العاهرات والمخنثون وبائعو المخدرات.. تعايش هادئ وسلمي بين متناقضات صارخة: المخدرات والعاهرات والدين والثورة.
……….. الرابعة مساء
مكتبة لافلوريستا La Floresta، Public Library: تبدأ القراءات الساعة الرابعة والنصف يرافقني شعراء من فنزويلا + كولومبيا + قرغيزستان.. الحضور كالعادة مشجع.. امتلأت القاعة.. قبل الشروع في القراءات اقترحت علينا مسؤولة بالمكتبة جولة سريعة داخل أقسامها.. مرتبة ونظيفة وبها حسب المسؤولة 36000 كتابا وتقام بها نشاطات ثقافية وفكرية متنوعة للجميع، شيوخا وأطفالا وشبابا.. 90 نشاط ثقافي كل شهر بمعدل ثلاثة أنشطة يوميا.
لاقت القراءات تجاوبا إيجابيا من قبل الجمهور.. تفاجأت بفتاة جميلة تقترب مني تسبقها ابتسامة كبيرة.. يكاد الفرح يقفز من على وجهها وخديها.. أسماء جمال عبد الناصر.. أفرحتني المفاجأة بقدر ما فرحت بالاسم فأنا من محبي عبد الناصر والمقدرين لتجربته الوطنية المميزة.. فتاة مصرية مثقفة وكاتبة قصة ورواية ومترجمة من الاسبانية إلى العربية وتدرس الدكتوراه في إحدى جامعات كولومبيا.. تحادثنا طويلا وافترقنا على أمل لقاء لم يتم.
الاربعاء 12 جويلية 2023 صباحا
نفس مقهى (فويرا) المطل على حديقة سيمون بوليفار الجامعة للمتناقضات والموفقة بينها.. محمد الاشعري + خالد الريسوني + علي العامري + عاشور فني و جورج توريس مدينة شاعر كولومبي يعيش في فرنسا.. دار الحديث حول الشعر والشعراء وطبعا تخلل الحديث الكثير من النكات والضحك.. ضحكات علي العامري الصاخبة والتلقائية لا تكاد تنقطع خصوصا أنه على عكس ما يبدو ظاهريا خفيف الظل وسريع الضحكة.. سعدت كثيرا باكتشاف محمد الأشعري الإنسان.. سمعت عنه وقرأت له كأديب.. كشاعر مميز وروائي وأكاديمي ووزير سابق لكني اكتشفت محمد الأشعري الإنسان الودود، الطيب، الخلوق، المتواضع، الإنساني، المرح، صاحب النكتة والمفكر العميق، يستمع إليك بانتباه واحترام ولا تشبع من الجلوس إليه أبدا ومهما طالت الجلسة تفارقه وأنت راغب في مواصلة الجلوس والاستماع إليه والاستفادة من آرائه وتجاربه
السابعة مساء Canchimalos، Cultural Corporation
المكان يفتح على شارع عام وهو مؤسسة خاصة تشبه المقهى الثقافي وتقام فيه أنشطة ثقافية مختلفة… أربعة شعراء كالعادة والحاضرون من مختلف الأعمار.. يتكرر مشهد وقوف بعضهم بانتظار مصافحة من أعجبهم من الشعراء وطلب قصيدة أو اثنتين.. نجلس بعد ذلك شعراء ومرافقين وبعض من الجمهور.. نتناول بعض المشروبات.. أغلب الأسئلة كانت حول تونس والثقافة العربية.. هناك اهتمام واضح بتشابه القضايا العربية بقضايا دول أمريكا الجنوبية وتبقى القضية الفلسطينية محور اهتمام الجميع.
………..
بعد عودتنا وخلال العشاء أخبرني الدكتور محمد الأشعري عن المرأة التي اقتربت منه لتصافحه بعد أن بكت حزنا وألما وتأثرا وهي تستمع له يقرأ احدى قصائده حول الحرب.. تأكد لي أن التأثر بالشعر وقصائد الشعراء ظاهرة عامة مع جميع الشعراء تقريبا ففي كل قراءة يتكرر الأمر ويسعى عدد من الحاضرين لالتقاط صور مع الشعراء وبعضهم يستأذن المرافقين لمصافحتنا والتحدث إلينا وكأننا من مشاهير عالم السياسة أو الغناء
الخميس 13 جويلية 2023
لست مبرمجا للقراءة اليوم.. قررت أن أقضي يومي في استكشاف الشوارع الخلفية للمدينة.. الطقس جميل كالعادة، والمناخ يفتح الشهية على تقبيل الحياة ومعانقة أفراحها.. قيل لي إن الطقس هنا لا يتغير.. طقس معتدل جميل على مدار السنة.. لا درجات منخفضة.. ولا درجات مرتفعة حتى أن أهالي ميديين حسب ما قيل لي لا يملكون معاطف.. لا فصول تقريبا وسقوط الأمطار يحدث بشكل عادي دون انخفاض درجات الحرارة إلا بضع درجات قليلة لا تؤدي إلى برودة الطقس وربما هذا ما يفسر كثافة نمو الأشجار والحدائق، شمس وأمطار في توافق وتناسق تام.. الاخضرار والأشجار في كل مكان تقريبا ما يضفي على الشوارع مسحة جمالية خاصة ويمنح الأماكن إحساسا بجمال الحياة وعنفوانها..
هذا المناخ يفسر الازدحام في الشوارع.. هذا الطقس يدفع إلى التمتع بالحياة خارج المنازل، في الأماكن، العامة عكس البلدان شديدة البرودة التي يميل سكانها إلى الانكماش داخل بيوتهم وبالتالي داخل أنفسهم فتبرد وأحيانا تتجمد الأحاسيس والعلاقات الاجتماعية، على النقيض تماما مما نراه ونشعر به ونحسه في ميديين.
الشوارع الخلفية كشوارعنا، أقل نظافة واقل تنظيما من الشوارع الرئيسية إلّا أنّها ليست متسخة ولا فوضوية لكن لقمة الخبز تهزم كل القرارات السياسية إن كانت قرارات السياسة لا تراعي حالة المواطن.. بعض مظاهر الفقر واضحة في ملامح ونظرات العاطلين عن العمل وفي ملابسهم..
من الشوارع الخلفية والفرعية إلى الشوارع الأساسية.. يلفت نظري مرة أخرى التشابه الكبير بينها وبين بعض شوارع تونس والقاهرة والدار البيضاء خصوصا في ما يتعلق بعمال الشوارع والبسطات ونداء الباعة الذي لا ينقطع.. اشترى بعض الأغراض وانتبه إلى أني وفي كل المحلات التي دخلتها منذ وصولي إلى المدينة لم يتعامل معي الباعة كسائح بل كواحد من أبناء البلد فالأسعار هي نفسها للجميع ولا ترتفع بقدرة قادر إذا عرفوا أنك أجنبي كما هو الحال في أغلب دول العالم السياحية خاصة، كأن أبناء ميديين يريدونك أن تشعر أنّك واحدا منهم.. حسن معاملة الحريف على درجة عالية من المهنية والاحترام. وهي نفس طريقة التعامل الودي جدا داخل النزل، تعامل أخوي تلقائي وطبيعي وليس مصطنعا تفرضه طبيعة العمل كما هو الحال في أوروبا.
يتأكد لي إحساسي الأول ان المدينة بروحين أوروبية وشرقية وهي انعكاس لثقافة مواطن يشبه الأوروبي لكنه مختلف عنه ويشبه الشرقي لكنه أيضا مختلف عنه، إنسان فيه دفئ الروح الشرقية التي تتجلى في شكل وطبيعة العلاقات بين الأفراد والعائلات والجماعات. العلاقات هنا تلقائية جدا ودافئة جدا وتبدو صادقة بعيدة عن التمثيل والمجاملة وهو ما لم أره ولا عشته في الغرب حيث تبدو العلاقات الإنسانية جافة ومصطنعة ونوع من الواجب وكأنها علاقات بلا مشاعر حتى كلمة أحبك تقال وكأنها واجب وضرورة لرفد العلاقة بما يبقيها تتنفس وعلى قيد الحياة حتى وإن كان ذلك التنفس اصطناعيا، ربما بسبب شدة الفردانية المتغلغلة في شخصية الانسان الغربي والنظرة الغربية للحياة وللفرد.
أمر على بعض المكتبات، ربما أجد بعض ما أشتري من الكتب.. لا أجد كتبا بالعربية أو الانجليزية أو الفرنسية،كلها إسبانية، ألاحظ في كل مكتبة وجود عدد هام من الكتب المتخصصة الخاصة بالمسألة اليهودية ولم أر كتابا واحدا خاصا بالقضية الفلسطينية رغم بعض الكتب القليلة جدا المتعلقة بالعالم العربي وهي عموما كتب ثقافة عامة وليست كتب اختصاص.. بدا لي ذلك مستغربا بعد ما رأيت من اهتمام بالقضية الفلسطينية ومناصرة للقضايا العربية ومعاداة للصهيونية ولأمريكا وللغرب عموما إذ تبدو ثقافة اليسار مازالت في أوجها وعنفوانها.
وأنا أتصفح واحدا من الكتب المتعلقة بالمسألة اليهودية تذكرت مانويلا احدى المتطوعات في تنظيم المهرجان، رقيقة الجمال وذات ابتسامة جذابة لم تبخل بها علي في كل جلساتنا، كثيرة المرح معي كأننا أصدقاء طفولة، تلقائية في تعاملها وعناقها لي .. معتقداتها روحانية ولا تؤمن بتفوق دين على آخر وتحب الجميع (هذا ما قالته لي)، لم نتحدث في السياسة لكنها لم تكن تبدي أي ملاحظة ولا كان سلوكها يتغير حين كان بعضنا يرتدي الشال الفلسطيني .. اكتشفت صدفة أنها يهودية حين عرّت لي ظهرها وأرتني وشوما كلها رموز يهودية تغطي جزء لا بأس به من ظهرها الجميل.
الخميس 13 جويلية السادسة مساء
بالنسبة لي لا يمكنني الحديث عن ميديين دون ذكر جورج ماريو أنخل.. شاعر ومسرحي ومطرب ورسام وروائي ويمكن أيضا اعتباره مفكرا.. اتصل بي قبل شهرين أو أكثر من انطلاق المهرجان، أعلمني ان إدارة المهرجان كلفته بإلقاء قصائدي المترجمة (ألقي أنا قصائدي بلغتي ويلقي هو النسخة المترجمة) أصبحنا صديقين حتى قبل أن نلتقي.. يتحدث بعفوية وتلقائية واحترام.. تم تقسيم القصائد إلى 5 قراءات (عدد القراءات المخصصة لكل شاعر في المهرجان) قرأ القصائد قراءات مختلفة بحسب احساسه بمعانيها وايقاعها وطلب رأيي في أفضلها وأقربها إلى الإيقاع العربي.. أبهرني حين أبدى ملاحظة قائلا إنها من ناحية ايقاعها الداخلي تنقسم إلي قسمين وأن لكل قسم إيقاع مختلف وخاص لا يشبه القسم الآخر. أبهرني لأنها فعلا كذلك فإيقاع القصائد الغزلية التي كتبت كلها في امرأة واحدة استقت ايقاعها من إيقاع جمال تلك المرأة في روحي وكياني، في حين أن القصائد السياسية اختلفت ايقاعا وشكلا ومضمونا.. أبديت له اعجابي بمقدرته على إدراك ذلك من خلال نص مترجم فأخبرني أنه من خلال قراءاته للعديد من الشعراء العرب المترجمين إلى الإسبانية والإنجليزية تكوّنَ لديه حس باستشعار إيقاع القصائد.. تذكرت خالد الريسوني الذي ترجم قصائدي وشعرت بفرح أني اخترت المترجم المناسب جدا الذي تمكن من نقل المعنى وخصوصية الإيقاع الداخلي لكل قصيدة بدقة وجمالية مميزة.. خلال تواجدي بميديين كنت ألتقي جورج يوميا كصديقين وليس كضيف ومرافق واليوم دعاني مع ثلاثة شعراء آخرين إلى منزله لتناول العشاء.. طارق الطيب والشاعرة الكرواتية سونيا بيجافيتش والشاعر الكولومبي اندري يوريب بوتيرو، أحد أهم وجوه المدرسة العدمية في الشعر الكولومبي الحديث، تحدثنا قليلا في الشعر والثقافة وكثيرا في قدرة جورج على الطبخ.. هذه الليلة هي من المرات القليلة في حياتي التي أتذوق فيها طعاما شهيا كالطعام الذي طبخه جورج (كان ذلك راي بقية الضيوف الثلاثة)..
البيت في منطقة جميلة والشارع تصطف على جانبيه الأشجار.. المنزل جميل ومريح.. منزل فنّان.. المساحات مستغلة وموزعة بطريقة هندسية/فنية وبترتيب خلّاق يكره الفوضى.. لست أدري إن كان الفضل في ذلك يعود لجورج أم لزوجته برتا الفنانة المسرحية التي استقبلتنا بحفاوة من يشعر بسرور بقدوم الضيوف وهي حفاوة نعرفها نحن العرب.
البيت في الطابق الأول، تحته مباشرة محل لبيع الكتب ومن حسن حظنا أن عددا من الشباب كانوا يعزفون موسيقى أغاني أمريكية جنوبية ذات الصبغة الايقاعية الخاصة بأهالي وسكان أمريكا اللاتينية.. وقفت في الشرفة إلى جانب طارق الطيب.. كانت لحظات ساحرة.. إيقاع راقص دون صخب ولا هيجان موسيقى متناسقة تماما مع إيقاع الروح والجسد في تلك اللحظة… هزتني الموسيقى إلى عوالم روحانية لا محدودة النشوة.. سألت طارق الطيب لماذا يظن البعض أن الله سيغضب إن نحن أحسسنا بهذا الفرح وهذه المتعة الساحرة؟ ترى هل يغضب الله فعلا من فرحنا ومن هذه النشوة الغامرة والفائضة على الكيان.. هذه السعادة لا تؤذي أحدا فكيف تؤذي الله؟
……
كلّما استعصى عليَّ فهم أمر ما هنا أسأل جورج فهو ابن المنطقة ومثقف عميق واجاباته تعتمد على تحاليله المنطقية الخاصة به والمقنعة عموما.. سألته عن سر (تقديس) أهالي مديين للشعر والشعراء وأعتقد أنّ كلمة تقديس غير مبالغ فيها. إجابة جورج كانت باختصار أن الشعر خلال مرحلة المخدرات وما بعدها كان هو الخلاص والأمل.. الشعر هو الأمل الذي نتشبث به للتخلص من وهم سابق أو وهمٍ يحاول الالتصاق بنا… تذكرت ما قالته لي ذات جلسة ماريانا المرافقة والمترجمة صاحبة أجمل وأعمق نظرة.. تنظر إليك وكأنها تعلمك السحر لتخدرك بابتسامتها.. خلال التسعينات خصوصا كان الفن وبالذات الشعر هو المتنفس الوحيد للتعبير.. كان طريقة الرفض الوحيدة لواقعٍ ضفتاه عصابات المخدرات (وعصابات) الحكومات المتتالية.. أكد جورج ذلك مبينا أن الشباب منذ تلك الفترة انخرط بحماس كبير في مجال العمل التطوعي المنظم من أجل تغيير واقع المدينة وواقع الجهة لتغيير الصورة النمطية المعروفة عنهما.
الجمعة 14 جويلية
في البهو أخبرني فرناندو رندون منسق المهرجان ومديره أن مؤسسة المهرجان بعد أن اختارت الشعار والتصميم المناسب طبعت أكثر من 100 ألف نسخة وزعتها على المؤسسات التعليمية والثقافية والترفيهية وعلى وسائل الإعلام (رأيت بعضها كملصقات على الجدران في الشوارع) كما تم دعوة قناة E الفنزولية التي غطت أنشطة المهرجان وفعالياته كما تفرّغ 114 شخصا للسهر على السير المنظم للمهرجان وعلى راحة الضيوف واعتقد أن هذا ما يفسّر حسن التنظيم .. شخصيا لم أشهد أي مهرجان أو نشاط بمثل هذا التنظيم الجيد والمحكم. خصوصا أن المهرجان شهد حضور ممثلين عن Word Poetry Movement حركة الشعر العالمي التي عقد أعضاؤها العديد من الاجتماعات.
….. الساعة 12.00
وصلت (ك س) لتأخذني في جولة نتمتع خلالها-كما قالت- بجمال المدينة وتطلعني على بعض معالمها.. شاعرة شابة.. مسيحية روحانية متدينة تضع على رأسها ما يشبه الحجاب.. إيمانها أقرب إلى روحانيات الشرق وإلى المسيحية في عصورها الأولى… حتى أشعارها في ديوانها الأول أغلب مواضيعها مستمدة من روحانيات المسيحية والشرق القديم.
الشارع شديد الازدحام والقيادة هنا تحتاج إلى مهارة خاصة فمرورك من شارع إلى آخر يشبه محاولة المرور بسلام في رأس مجنون.. يُشغِّل السائق الراديو على موسيقى كلاسيكية (موسيقى أمريكا اللاتينية) قلت ل (كي سي) أني منذ وصولي وفي كل الأماكن التي دخلتها أو وسائل النقل التي تنقلت فيها كانت الموسيقى كلاسيكية دائما وأني لم أسمع إلا مرة واحدة موسيقى غربية.. ابتسمت وقالت: الكلاسيكية أفضل وأقرب إلى الروح.
تجولنا.. ثم جلسنا قليلا بأحد المقاهي.. أخذتني بعدها إلى مكتبة وسط المدينة.. ضخامة، نظافة، ترتيب، نظام.. هدوء الجزء المخصص للأطفال واليافعين.. إضافة إلى الكتب والكمبيوترات هناك غرف وأماكن مخصصة للأنشطة الثقافية والابداعية: موسيقى، مسرح، رسم، سنما، تصوير شمسي، رقص ووو .. بقدر ما أبهرني الاهتمام بالثقافة هنا بقدر ما أحسست طعم المرارة في حلقي على أوضاع مكتباتنا وأبنائنا في تونس.
السبت 15 جويلية ال 10 صباحا
عدد من الشعراء منهم عاشور فني طارق الطيب كنا على موعد سابق لزيارة Casa De Poeta بيت الشاعر/الشاعرة فكلمة Poeta هنا تطلق على المذكر والمؤنث.. البيت على بعد حوالي 20 دقيقة مشيا على الأقدام.. منزل متعدد الغرف المجهزة لاستقبال الشعراء للتفرغ لعدة أشهر للإقامة المجانية والكتابة.. رون ردّل وزوجته سرايا توريز يقطنان في المنزل ويسعيان إضافة إلى مساعدة الشعراء إلى مساعدة أطفال الفقراء من السكان الأصليين خصوصا لتوفير حاجياتهم المادية لمواصلة تعليمهم.
…
قراءتي الأخيرة في مكتبة Village Of San Sebastian De Palmitas قرية جبلية صغيرة على ارتفاع 1800 م عن سطح البحر محاطة بالمرتفعات الخضراء ومعروفة بزراعة القهوة.. قرية فلاحية ساحرة.. أغلب الحاضرين من اليافعين والمكتبة عصرية وتقام فيها أنشطة ثقافية أسبوعية..
انتهينا من القراءات.. وبعد الضيافة عدنا لنحضر حفل الاختتام حيث توالت القراءات لمدة أربع ساعات ونصف.. تفاعل الجمهور كالعادة تصفيقا وتصفيرا ووقوفا تحية لشاعر أو لجملة شعرية أو مقطع شعري حماسي
………
العاشرة ليلا
حفل الاختتام بمطعم الفندق.. الفندق الذي احتضن الشعراء طيلة أيام المهرجان والذي ارتبط اسمه بالمهرجان العالمي للشعر في ميديين حيث احتضن أغلب دوراته.. موسيقى أمريكية جنوبية راقصة بدون صخب.. الكل تقريبا يرقص.. الرقص احتفاء الجسد بذاته وتعبير عن الرغبة في التحرر.. هناك جاذبية جنسية ولا أقول خلاعة فلكلمة خلاعة خلفية سلبية والجسد في رقص أبناء أمريكا الجنوبية جزء من تحرير الجسد والتعبير عن الذات وتأكيد على علاقة الانسان بجسده فالجسد يعبّر ويرغب ويشتهي سواء كان جسد إمرة أو جسد رجل لا فرق هنا.. تدرك من خلال الرقص الزوجي ذلك التناغم بين الجسدين جسد الرجل وجسد المرأة، تناغم وتناسق وتجاذب في كل الحركات، وكل التفاصيل الأخرى تسير في اتجاه ذلك التناغم والتجاذب.. راقصتني مانويلا وحاولت (كي سي) أن تعلمني حركات رقصات فيها جاذبية وايحاءات جنسية وإغراء .. فحاولت وحاولت وحاولت….
الإضاءة وصيحات الراقصين والراقصات و… ملابس النساء.. ملابس النساء مُفصّلةٌ للاحتفاء بالجسد الأنثوي وإبراز ما هو جميل وجذاب فيه.. الملابس ليست للإخفاء، إخفاء (فتنة) الجسد كما هو الحال لدى العرب والمسلمين فالجسد الأنثوي هبة وهدية من الحياة وليس عورة لأن الجمال لا يمكن أن يكون عورة .. الجمال عطر الحياة ولذتها.. جمال الأجساد مظهر من مظاهر جمال الحياة وفكرة أنه عورة تبدو لديهم غريبة غرابة الكفر بالحياة.. المرأة تعبر عن ذاتها بكل الأشكال وأشعر أنّ المرأة في ميديين وفي كولومبيا عموما أكثر تلقائية وتحررا من المرأة الأوروبية.. حتى الأسماء هنا ثلاثية في كل الدوائر الرسمية وغير الرسمية.. اسم الشخص المعني ثم اسم الأب ثم اسم الأم.. اعتقد أنه امر منطقي وعادل في حق الأم وحق المرأة.
الأمر الاخر الذي يلاحظ هو أن ملابس المرأة هنا ليست للتفاخر وإبراز مظاهر الثراء أو ادعاء الثراء كما هو الحال لدى الأوروبيات عموما. الملابس لإبراز الجمال الأنثوي وهو جمال طبيعي تلقائي غير متصنع.. جمال متنوع ومتعدد وحصيلة امتزاج عديد الأعراق والشعوب.. نجد ملامح السمراء على قسمات الشقراء كما نجد ملامح الشقراء على قسمات السمراء.. جمال ساحر يتجاوز المقاييس، فمقاييس الجمال الأوروبي ليست هي المقياس ولا المثال.. قد يكون لأعمال الرسام والنحات فرناندو بوتيرو وتضخيمه لأجزاء من جسم المرأة تأثير واضح على نظرة المرأة لجسدها ونظرة المجتمع لجماليات المرأة جسدا وروحا، فصوره ومنحوتاته لا تعترف بالنحافة وجفاف الجسد والتصاق الجلد بالعظم، جميع شخوص بوتيرو ممتلئة وضخمة وبدينة، مليئة بالاستدارات والانحناءات المتناسقة مع ضخامة المنحوت، لكن بوتيرو نفسه استمد وتشرب تلك المقاييس من مجتمعه.. من حضور المرأة في حياته وحضورها الكثيف في الحياة اليومية لسكان مديين وكولومبيا.
الإثنين 16 جويلية في الطائرة من مديين إلى لندن
أغادر عائدا إلى لندن بتجربة جديدة ووجوه لا تنسى وذاكرة مزدحمة بأوقات جميلة وحوارات ونقاشات وضحكات تؤثث كل الجلسات غير الرسمية.. وجوه وأرواح أضافت لي الكثير من الجمال والحب والمتعة والمعنى.. حنان عوّاد الشاعرة والكاتبة الفلسطينية مستشارة الرئيس الفلسطيني السابق المرحوم ياسر عرفات + الكسيس برنوت الشاعر الفرنسي المتنور والثائر في صمت، شخصية لطيفة ووعي انساني غير منحاز إلا للحق + شيفان يسيجورانيفان الشاعرة الماليزية بروحها المرحة وفكرها العميق+ فرناندو رندون + جورج ماريو أنخيل + محمد الأشعري + خالد الريسوني + عاشور فني + جورج مدينا + مارية + وكاثرين+ ماريانا + مانويلا+ لويس ادواردو رندون….
***
رأسي مزدحم ومشاعري مختلطة وأشعر بغضب من جرائم السنما الأمريكية التي لا تصور الكولومبيين إلا كأفراد عصابات ومجرمين ولا تظهر فيها ميديين إلا كمدينة مخدّرات وعصابات وقتل .. مدينة ناسها قتلة بلا أحاسيس متعطشين للدماء يقتلون بلا مبالاة وبلا إحساس فهي مدينة بابلو أسكوبار أشهر تاجر مخدرات في التاريخ.. صورة أبعد ما تكون عن الواقع.. صورة لا تقترب من الواقع بل تناقضه تماما .. ميديين التي رأيتها رؤيا العين وليس عبر شاشات هوليود مدينة جميلة تحب الحياة، أهلها طيبون إسانيون.. العلاقات دافئة والمشاعر حقيقية، لا عنف أبدا لا بين الأفراد ولا بين الجماعات لم أشهد حالة واحدة من حالات الخصام أو التنابز أو التوتر.. حتى المخدرات لا أثر لها إلا في مظهر واحد وحيد لا علاقة له بالعنف.. حاضرة في الآثار التي تتركها على بعض المدمنين الذين تراهم نائمين على أرصفة الشوارع الجانبية دون أن يزعجوا أحدا و دون أن يقلق راحة نومهم أحد.
…….
أستعيد من الذاكرة بعض صور القراءات وردود الفعل التي لقيتها قصائد هنا تونس + لا نحب الحروب+ لماذا أنا لا أحب سواك، هذه القصائد الثلاث كان لها الأثر الأهم والأكبر على الحاضرين وطلبت مني من عدد من المتابعين.. لا يمكنني أن أضع حكما نقديا ولكن من خلال تجربتي أشعر أن الذائقة الفنية للحاضرين وحتى لعدد كبير من شعراء أمريكا الجنوبية تقترب من تعابير الشعر الوطني الحماسي كما أن الصور والتعابير الشعرية القريبة إلى نفوسهم تميل إلى السهل الممتنع … اعتقد أن هذا أمرا يحتاج إلى دراسة مختصة.
…
العرب أمّة الشعر؟؟
لا أذكر أي يوم بالضبط خرجت مع بعض الشعراء إلى واحدة من المقاهي القريبة وكان بعضنا يلبس قميص المهرجان تم ايقافنا أكثر من مرة من قبل بعض المارة لمصافحتنا والترحيب بنا وإبداء فرحهم بوجودنا بينهم.. أحدهم تحمس وصاح Larga vida a la poesía يحيا الشعر.. أين نحن من هذا؟… وهل نحن أمة الشعر فعلا؟ طرحت السؤال على نفسي وعلى إثنين من الشعراء العرب فكانت الإجابة ابتسامة ساخرة لا تحتاج إلى تأويل.. شخصيا كنت اعتقد فعلا أن العرب أمّة الشعر حتى زرت مديين ورأيت ما رأيت من حب و(تقديس) للشعر والشعراء..
نُشر طبقاً لبروتوكول النشر المشترك مع مجلة "آسيا إن"
التعليقات