سميحة حسنين هي ملكة تصميم الغلاف العربيّ وفقا للقب الذي منحته إياها الكاتبة صافي ناز كاظم، التي تعد المصدر الأساس لمعظم ما نعرفه عن تلك التشكيلية الرائدة، سواء في ما دونه المصمم والباحث والكاتب محمود الحسيني في (مستودع التصميم) الذي يأخذ على عاتقه التوثيق لهذا الفن، أو بمعظم المراجع الأخرى التي ترد في هذا الفصل.
صافي ناز كاظم في شبابها
ويعتبر محمود الحسيني أنّ الكتابة عن تاريخ التصميم الجرافيكيّ العربيّ ما زالت في بداياتها / في مهدها. ومع ذلك، فإنّ انخراطاً بسيطاً في هذا التّاريخ من خلال البحث، يكشف دون مفاجأة عن عدم المساواة في تمثيل النّساء والاعتراف بهنّ. يبدو أنّ الشخصيّات الرئيسيّة المهمّة في ما نعرفه عن ذلك التّاريخ هي في الغالب من الرجال. مثل أغلب المجالات، تعرّضت النّساء عبر التّاريخ للتّهميش والتّجاهل على الصّعيدين الاجتماعيّ والمهنيّ. ويؤكد الحسيني أهمية الوعي والإدراك لمسألة تشويه المرأة العربيّة بشكل ممنهج وإخفاء مساهماتها في هذا التّاريخ الضّبابيّ أصلاً، ولم يزل هذا يحدث حتّى يومنا هذا. وتلك كانت مقدمته المقتضبة التي تعترف بالتّحيّز الضّمنيّ للرجال في المناصب القياديّة، بهدف تشجيع المزيد من الأشخاص على استكشاف المزيد من النّساء المصمّمات ومشاركة قصصهنّ.
كان عمل الحسيني على أرشفة تصاميم الأغلفة العربيّة وإتاحتها للجمهور بحيث يمكن استخدامها من قبل الطّلاب والباحثين لأغراض البحث والمرجعيّات الأخرى، قد قاده خلال تلك الرّحلة، للتعرف على بعض الأسماء النّسائيّة التي برزت عدّة مرات في بعض الأغلفة الّتي يقوم بتوثيقها وأرشفتها، لكنّ اسمًا واحدًا ظلّ يتردّد في العديد من المرّات، ولم يسعه إلّا أن يتساءل: مَن تكون سميحة حسنين.
والواقع أم رحلة البحث عن رسّامي نجيب محفوظ تقودني إلى التشكيليين وحدهم، إلا أنّ توقيع (سميحة) على بعض حلقات قصته الطويلة (بين القصرين)، التي صنفت بالرواية لاحقا، جعلني أجدّ في البحث وراء ذلك الاسم، خاصة وأن لوحاتها المصاحبة للسرد لم تكن أقل تمكنا ممن تناوبوا على رسم الرواية ذاتها، في المجلة نفسها. كما جعلني هذا الاكتشاف أبحث عن سر التعتيم على هذه الريشة النسوية في فضاء مجرة محفوظ الروائية التي دار في فلكها نجوم التشكيليين.
سنعرف أن سميحة حسنين هي رائدة رسم الأغلفة الصحفية في دار الهلال المرموقة، وأن لوحاتها الإنسانية كانت تحفر حضورها في ذاكرة المبدعين، ومنهم الكاتبة صافي ناز كاظم، التي سردت في مدونتها رحلة بحثها المبكرة عن سميحة حسنين، بعد أن نشرتها في مجلتهما (الهلال)، فضلا عن تخصيص مقال حواري عنها في أسبوعية (نصف الدنيا)، أصبح أحد فصول كتابها (صنعة لطافة)، وهكذا أصبحت صافي ناز المرجع الأساس في ألا يغمر النسيان تراث الفنانة الرائدة، وهو ما جذب مواقع متخصة في التصميم في توثيق أعمالها.
تقول صافي ناز: “الرسامة الصحفية الرائدة “سميحة” ملكة فن لوحة الغلاف لنصف قرن، وأنا متيمة مغرمة برسوماتها منذ وعيت التذوق وحب الفن. لم تبهت أبدا في ذاكرتي، منذ كنت في العاشرة من عمري، صورة تلك الطفلة الجميلة الباكية التي رسمتها “سميحة” وشغلت صفحة كاملة من صفحات قصة مترجمة بعنوان “اليتيمة” بمجلة الهلال بين عامي 1947 و1948.
اللوحة التي أشارت إليها صافي ناز كاظم، بريشة الفنانة سميحة حسنين
تستطرد الكاتبة: “تعلقت عيني بالصورة التي أثارت شغفي فقرأت القصة وأنا أتطلع بين كل سطر وآخر، متأثرة غاية التأثر، إلى الوجه الحزين المعبّر الذي رسمته “سميحة” للبطلة الصغيرة التي كان عليها أن تثبت جدارتها في تحمل مسئوليات البيت بعد وفاة الأم. توحّدتُ مع العيون الدامعة وحاولت أن أحاكيها. أكثر من نصف قرن الآن واللوحة بذاكرتي لم تبهت. كانت رسومات “سميحة حسنين” و”عزيزة عيد” تشد انتباهنا، نتابعها ونتكلم عنها ونعلن النتائج أيهما هذه المرة أفضل: “سميحة” أم “عزيزة”؟ كنا نحب رومانسية “عزيزة” وخطوطها المشغولة كالدانتيل وحروف اسمها التي ترسمها ممطوطة تائهة نهايتها كالدخان المتلاشي، لكنني حسمت موقفي وأعلنت انحيازي الكامل لـ”سميحة”وقلت لشقيقاتي وأصحابي : “انظروا إلى خطوطها التي تجتمع فيها الرومانسية الهفهافة والحيوية النابضة والحضور الطاغي، ثم هذا التناسق الأنيق في توقيعها الذي يبدو فيه اسمها مبتسما سمحا حقا “سميحة” هكذا باختصار وبساطة ولطف.”
تضيف صافي ناز كاظم: “صاحبتني رسومات “سميحة” من طفولتي وصباي وشبابي إلى وقتنا الحالي أبحث عنها وأتوق إليها وأتعرف عليها؛ لايمكن أن يقع ناظري على رسم لها ولا يستوقفني. تميزت سميحة برسم غالب لوجوه حلوة بؤرتها العيون، معسولة وآسرة حزينة كانت أم مبتهجة، جادة أو مراودة، مفكرة أو لاهية. ريشة نذرت نفسها للتوهج والوسامة، لاتحتمل الإنطفاء ولا تجيد القبح.”
سميحة حسنين بمكتبها في دار الهلال
(من المجموعة الشّخصيّة لابنتها السيّدة منى سعد الدّين وهبة)
ولدت سميحة حسنين في الثالث عشر من أكتوبر ١٩٢٥، وحصلت الفنانة الرائدة على ليسانس آداب وعملت مدرّسة، بعدها درست الرسم في أكاديمية فنون خاصة كانت تقع بميدان مصطفى كامل، قبل أن يدمرها حريق القاهرة قبل 72 عاما (26 يناير 1952). ثم التحقت سميحة شابة في مطلع عشريناتها بدار الهلال لتكرّس توجهها رسامة صحفية، وقد تكون مع عزيزة عيد – ابنة الرائد المسرحي عزيز عيد والفنانة فاطمة رشدى – أول مصريتين تقتحمان هذا الطريق في الصحافة المصرية، وتسجلان فيه الريادة.
تتحدث سميحة حسنين إلى صافي ناز في مجلة نصف الدنيا:
“أنا بحق تلميذة الفنان منير كنعان، ساعدني، ووجهني وأرشدني لأساليب إنضاج موهبتي، فنان عظيم وأستاذ كبير، عندما بدأتُ في دار الهلال اشتغلت في كل شيء، في المطبعة والإعلانات والتحرير، ولم أرفض أي تكليف، كان معنا الفنان جمال كامل ولما طلبوا منه النزول إلى الإعلانات رفض وراح روز اليوسف. “أنا ما ما فرقتش معايا”. رحت رسمت في الإعلانات وتفوقت وصاروا يطلبونني بالاسم، وكنت أكافأ في نهاية العام بكام جنيه….” وتصف نفسها: “أنا انطوائية، لا أسعى إلى اقامة صلات وعلاقات، منسحبة من الأضواء والزحام، جبانة، أخذت الصفعة من المدرسة وسكت، أرسم وخلاص، سعادتي في الرسم والصمت والاختفاء… “
تسألها نصف الدنيا عن زواجها:
“متى قابلت الكاتب المسرحي الراحل الأستاذ سعد وهبة؟”
مجلة الرسالة الجديدة
فترد بسرعة: “هو اللي قابلني في مجلة “الرسالة الجديدة” عند عبد العزيز صادق (سكرتير التحرير حينها) وطلب منی أن أرسم لمجلة البوليس.” لا تذكر سميحة حسنين متى تزوجت من سعد الدين وهبة ولا حتى تم بينهما الطلاق، ولا متى أنجبت ابنتيها منه، “منى” و”أماني”، وتذكر فقط أن الطلاق تم أثناء ولادتها لابنتها الصغرى أماني.
تألمت بتكتم ونبل:
“عندى المقدرة إني أنسى وأغرق في الرسم، كنت ألبي طلبات الرسم في دار الهلال في التحرير لكل اصداراتها، ولا أمتنع عن طلبات الإعلان، أنا احترم فنى وأشوف أن عملي في رسم الإعلانات كان تجربة خصبة، كل طلب رسم أهتم به وأخدمه بضروراته بإخلاص، واجباتي في الرسم للمجلات كانت كثيرة؛ رسمت في مجلة “التحرير”، و”الرسالة الجديدة” رسمت فيها رواية نجيب محفوظ، و”البوليس” طبعا، كانت حياتي الرسم وتربية ابنتيّ بعناية واهتمام، ولم أغضب من أحد، ظلت علاقتي بسعد وهبة محترمة إلى النهاية، حزنت لوفاته ومرضت بسبب هذا الحزن، كنت أريد أن أسلم عليه قبل رحيله”.
كانت سعيدة لأن مروان على حفيد سعد وهبة وحفيدها ابن ابنتها أماني الذي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره (يوم نشر الحوار)، ورث عنها موهبة الفن، وصنع من الصلصال الملون كل حيوانات الغابة، وفاجأها بصورة رائعة رسمها لأم كلثوم، قال بثقة إنها تصلح غلاف مجلة.
تقول صافيناز كاظم: “لا أدرى لماذا بدا لي دائما أن لقائي بها مستحيل – أحببتها وتمنيت لقاء معها وكلما سألت عن طريقها تأتيني الإجابات شاردة رغم أننا مازلنا نعمل في مؤسسة واحدة.
الكاتب الصحفي الأمير أباظة ـــ رئيس مهرجان الأسكندرية السينمائي ــ والذي كان قريبًا من سعد الدين وهبة في مهرجان القاهرة السينمائي، والذي منحه و”هبة” مذكراته الشخصية، يرى أن المنطقة الأكثر بريقًا ولمعانًا في الملف.. حديث ابنتيه (أماني ومنى) عن أمهما الفنانة الراحلة سميحة حسنين .. رائدة رسم الأغلفة الصحفية في دار الهلال، والتي تم التعتيم عليها إعلاميًا.. مع سبق الأصرار والترصد لحساب زوجته الثانية، لدرجة ان المواقع الصحفية تتعمد إخفاء اسمها، كما تقول الصحافية رودينا طاهر، مستطردة، رغم إن هذه السيدة الفاضلة سميحة حسنين كانت الخطوة الأولى في مشوار سعد الدين وهبة الذي تعرف من خلالها على الكاتب احسان عبد القدوس، ودخول مؤسسة “روزاليوسف” .
في المذكرات تقول أماني: “ولدت في غياب والدي، الذي تزوج وأمي حامل في، لم أعش معه في بيت واحد، شقيقتي مُنى الأكبر مني عمرها كان ثلاث سنوات تقريبًا، ورغم هذا عندما بدأنا نكبر ونستوعب ما حدث وتفاصيله، لا أتذكر يومًا تكلمت أمنا عنه أمامنا بشكل غير لائق، بل كانت حريصة أن تبقى صورته النقية أمامنا لا تتعرض للخدش، على المقابل “المرأة الأخرى” استطاعت أن تؤدي بجدارة دور زوجة الأب، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان مخيفة، نجحت في تهميش أمي، ولكنها فشلت أيضًا بجدارة أن تبعده عني وعن أختي، رغم المحاولات الشرسة والمستميتة، لأن شهادة للتاريخ وأمام الله، إن سعد الدين وهبة، كان أبا حنونا جدًا علينا، لم يقصر في مراعاة أي شيئ يتعلق بنا، في جميع مراحل حياتنا، كان ينفق علينا بما يرضي الله، رغم المكائد، والدسائس، والمؤمرات النسائية، كنا في حياته الأغلى، إذا أراد أن يحلف أمام أحد على شيئ يقسم “بغلاوة بناته” وكان صادقًا لم نشعر مرة واحدة منه بأي جفاء، وإذا كانت أمي كانت حريصة على أن يبقى في هذا البرواز “الشيك” أمامنا، هو أيضًا كان يبادلها نفس الإحترام، ولا يتكلم عنها أمامنا إلا بكل ما هو طيب، وبعيدًا عن سميحة حسنين، أمي كانت سيدة طيبة راضية، أشبه بالأميرات في القصص الأسطورية”.
على مدى نصف قرن تألقت لوحات الفنانة سميحة حسنين على أغلفة مجلة “الهلال” وروايات الهلال وسلسلة كتاب الهلال، ورغم هذا طواها النسيان حتى قبل رحيلها.
في “دردشة” أخرى تحكي ابنتها الثانية منى: “هذه السيدة لم يشغلها إلا فنها.. وكانت بسيطة جدًا. لم تبادل الكُره بالكُره ولا المؤامرة بالمؤامرة، أغلقت بيتها على نفسها وبنتيها ولم تهبط إلى مستنقع الحماقات الذي كانت تمارسه ضدها الأطراف الأخرى. يكفي إنها رحلت عن الحياة بهدوء وسكينة، ولم يبق منها إلا السيرة الجميلة، والفن الراقي، وكأن القدر يعيد إليها حقوقها المسلوبة من خلال ما نقرأه هذه الأيام على الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وتراشق إتهامات وتبادل قضايا، وصور!”
مثالٌ آخر نجد فيه إشارة نادرة ومتسائلة للتشكيلية الرائدة هو أرشيف التصميم العربي، الذي يسعى إلى إتاحة مساحاتٍ أكثر عدالة ومفتوحة للجميع، فالتصميم العربي مساحة غير مُكتشفة بسبب غياب الآليات الفعّالة في توثيق تاريخ الفن العربي والرائدين فيه، كما في مقال يمان طعمة، وقد عثر الأرشيف من خلال أبحاثه على أعمال المصممة المصرية سميحة حسنين التي رغم ريادتها في تصميم الأغلفة العربية، إلّا أنّ وجودها غائبٌ تماماً في المنصات الرقمية والمادية. فبالإضافة إلى غياب توثيق المصممين الروّاد العرب، نجد الغياب النسائي مُتعمّق أكثر رغم غزارة أعمالهن المُنتجة.
منذ انضمّت سميحة حسنين إلى دار الهلال عام 1947 عملت هناك لمدّة نصف قرن على تصميم مجموعاتٍ واسعةٍ من أغلفة الكتب والرّسومات التّوضيحيّة، ويتضّح من خلال أعمالها أسلوباً واضحاً يتمثّل في استخدام الأشكال الهندسية تطوّر عبر السنين.
سميحة تقود سيارتها (من المجموعة الشّخصيّة لابنتها السيّدة منى سعد الدّين وهبة)
في (رصيف 22) تكتب أمل مجدي عن مذكرات سعد الدين وهبة “أيام من حياتي”، الذي قرر “أن تسير حياته مثلما أراد، فخلع بذلة الضابط ومارس الكتابة التي يحبها. ولم يبحث عن نساء يقبعن في الظل ليرتبط بهن، وإنما فضّل أن يقترن اسمه بسيدتين ناجحتين لهما بصمات إبداعية ملموسة، الأولى الفنانة التشكيلية سميحة حسنين، من الرائدات في مجال تصميم الأغلفة والرسومات التوضيحية للمطبوعات، والثانية الممثلة سميحة أيوب، صاحبة الطلة الأخاذة والأداءات القوية على خشبة المسرح.”
وسنعرف لاحقا أن محفوظا سيكون قاسما مشتركا بين سعد وسميحتنا في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، بعد أن قد ثبت قدميه في المسرح ولفتت نجاحاته اهتمام السينمائيين، فاستعان به المنتج رمسيس نجيب لكتابة سيناريوهات عدد من الأفلام، منها “زقاق المدق”.
توصلت صافي ناز كاظم مطلع 2000 إلى رقم هاتف سميحة حسنين من ساعي الدار الذي كان يحمل شغلها إلى المجلة. حين هاتفتها لتحدد موعد تأخر بشكل لايمكن الإعتذار عنه جاءني صوتها، على الرغم من ضعفه، هاشا باشّاً، قلت لها أنني من جمهورها الممتن لفنها فاندهشت متسائلة: هل أنا أعني أي شئ لأحد؟
ذهبت إليها حيث كانت تقيم مع حفيدتها في شقة ابنتها منى سعد الدين وهبة بالزمالك، تناديها حفيدتها: أنّة، أي جدتي بالتركية، على الرغم من أنها صعيدية ابنة عائلتي مسلّم وحسنين من سمالوط، إلمنيا. أكدت لها أنني اهتممت بارتداء صياغة لونية تجعلها تقول لي شاطرة!، وأنني لبست حذائي الجديد لأن مقابلتي لها مناسبة أحتفل بها، وأنني أرى في أعمالها العذوبة والجمال.
بين يديها كانت تتجمع حفنة قليلة من كتب رسمت أغلفتها ومالا يزيد عن 50 قطعة رسم بالجواش وألوان الماء على ورق سميك 30× 30 سم: “هذا كل ما تبقى من شغلي”!
سألت: “والبقية؟”
قالت بهدوء:
“كله ضاع في المطابع ..لم يرد لي أحد أصولي ولم ألح في المطالبة بها!”
أول رسم قدمته سميحة حسنين في “الرسالة الجديدة”، بتاريخ 1 يونيو 1954 (أدناه)
قلبت اللوحات لأختار ما أنشره من هذا القليل المتبقي من الحياة الحافلة لمن تستحق عن جدارة لقب “ملكة فن لوحة الغلاف لنصف قرن”، أشارت إلى واحدة :” هذه تعجبني، تصوري أنني لم أتأملها من قبل ..أرسم وأعطي وأنسى.. أول ما أطلع الرسم أهمل اللوحة لكن وأنا أجمع لك هذه اللوحات لم أصدق أنني التي أنجزتها!”. ضحكت!
كنت قد أحضرت معي جهاز التسجيل. لاجدوى من التسجيل فهي لاتتكلم إلا باقتضاب شديد، أفهم ماتريد بالإحساس والإستنباط. أعمالها مبعثرة، أوراقها ضائعة، صورها الشخصية اندثرت:
” فيللا العائلة هدمت وكل واحد أخذ نصيبه وضاعت صناديق مليئة بالصور والأوراق..ولا يهم..أنا ح أكون إيه؟ تراب!”
“أرسم من وجوه جميلة مختزنه في ذهني”، هل كانت ترى الدنيا مثل ألوانها مرحة وجياشة أم كانت ترسم ماتمنته؟ ترد: “أنا شايفة الدنيا كده ..مرحة جياشة!”.
لم تجد الفرصة لإقامة معرض خاص بلوحاتها لكنها تذكر أن لها لوحتين في متحف وأخرى في بينالي. تهدي لوحاتها ولم تبعها أبدا، تقول ضاحكة:
“بكامل وعي بددت ثروتي الفنية!”.
حين سألتها: هل لديك لوحة الفنانة بريشتها؟ قالت ببشاشة:
” أنا غير معجبة بنفسي!”
طيب لماذا؟
تواصل:
“.. لاأعرف حقوقي .. لابد أن يمسك أحد بيدي ويعطيني حقي على الرغم مني!”
توشوش لي بفرحة غامرة تسكنها بسبب ما حدث لها منذ سنوات وهي تزور قبر الرسول عليه الصلاة والسلام:
“لم يكن هناك زحام على الإطلاق، كنت أجلس مع قريبتي تقول الدعاء وأنا أردد وراءها، وشعرت بيد تربت على ظهري فتلفت ولم أجد أحدا…مرّتين يتكرر الأمر، قالت لي قريبتي الملائكة تربت عليك، تخوّفت، قالت لاتخافي…هذه الحكاية تظل على قلبي بردا وسلاما”.
تواصلت صافي ناز معها عبر الهاتف حتى فوجئت بنشر نعيها بالأهرام الخميس أول يوليو 2010 باسمها المكتوب في شهادة ميلادها “بهيرة حسنين علي سالم”! عرفت من ابنتها أن رحيلها كان مساء الثلاثاء وشيعت إلى مثواها الأربعاء، طيب الله ثراها “سميحة” الجميلة التي أشاعت برسوماتها الضياء الخلاب وآثرت أن تبقى دائما بعيدا بعيدا عن الأضواء.
مطلع أبريل 1954 صدر العدد الأول من مجلة الرسالة الجديدة، التي ترأس تحريرها يوسف السباعي. وقد بدأت المجلة نشر (بين القصرين) لنجيب محفوظ كقصة مصرية مسلسلة، والطريف أنه بالرغم من وجود رسامين عديدين لمواد العدد مثل الحسين فوزي وسميحة حسنين، كان أول الرسوم لنص محفوظ بريشة الفنان حسن محمد حسن، الذي رسم الحلقتين الأولى والثانية ليتناوب على رسم الأحداث معهما.
كان أول رسم قدمته سميحة حسنين في “الرسالة الجديدة” قد ظهر في العدد الثالث، بتاريخ 1 يونيو 1954 ، مصاحبا للنص الذي شغل الصفحات 48 – 51. وبالرغم من أن بعض الحلقات كانت تأتي بدون توقيع، إلا أننا يمكن أن نميز ريشة سميحة التي جمعت بين فطرية الريشة الأنثى، وربما المتحفظة كما أنبأت سيرتها، ودراية الشابة الدارسة، التي بدأت رسم بعض حلقات (بين القصرين) بعد سبع سنوات من التحاقها بالعمل الاحترافي في (دار الهلال).
كانت ريشة سميحة حسنين الدافئة مميزة لتلك السنوات الأولى في كل أعمالها، ولعلنا لا نكتشف فارقا جذريا لأن الثلاثة حاولوا أن تكون الرسوم المصاحبة متآلفة معًا، فتشعر وكأنه عمل جماعي لا يفرق بين محتوى الرسوم إلا تحرر حسن محمد حسن، وحرفية الحسين فوزي، الذي تصدرت لوحاته أغلفة “الرسالة الجديدة” حينها.
ولعل المشاهد لهذه اللوحات سيخلط بينها جميعا، وبين ما بدأه جمال قطب لاحقا، في أغلفة روايات محفوظ ورسومه الداخلية؛ وكأننا أمام مرسم واحد للمرأة المصرية بقوامها الممتليء والمثير حينا، والعيون الكحيلة، والرجال الفتوات العتاة، يجلس أمامهم الرسامون ليقدموا بريشاتهم زوايا متعددة لموديل واحد.
فصل سيضاف إلى الطبعة الجديدة من كتابي (نجيب محفوظ, السارد والتشكيلي)
نُشر طبقاً لبروتوكول النشر الدولي المشترك مع مجلة "آسيا إن"
التعليقات