التجربة الكورية

 
يصنف رجال الاقتصاد العالمي اليوم ( كوريا الجنوبية) كدوله وصلت لما يسمى بالمعجزة الاقتصادية الأولى على مستوى العالم .... بلد صناعي وزراعي وتقني بامتياز ، هي نمر آسيوي ناهض لا يمكن اللحاق به أبداً أو حتى مجاراته.....
حتى ستينيات القرن الماضي كانت المجاعة تعم أرجاء كوريا الجنوبي مما اضطر الكثير من الكوريين لأكل أوراق الشجر ومضغ الأعشاب بالطرقات .... المجاعة الكورية كانت مهولة بينما كانت نظيرتها الشمالية تتمتع بنظام اشتراكي شيوعي جعلها ضمن توازن غذائي جيد .... لدرجة أن كوريا الشمالية قامت بإرسال الأرز لعدوتها الجنوبية بعدما اجتاحت الفيضانات كوريا الجنوبية وقضت على معظم حقول الأرز عام ١٩٧٤ وذلك خوفا من تفشي المجاعة مرة أخرى بالبلاد بعد مجاعة الستينات ...
كتب رئيس كوريا الجنوبية السابق ( ميونغ باك ) بمذكراته أنه حينما كان طالباً بالمرحلة الابتدائية بالستينات كاد أن يهلك من الجوع ويموت بسبب الفقر والمجاعة ، لكن زميله بالمدرسة أنقذه من الموت إذ كان يساعده يوميا لأن والد زميله كان غنيا وقتذاك .... المضحك بالموضوع هو مقياس غنى و ثراء أبو زميله بمقاييس الثراء حين ذاك ... يقول ( ميونغ باك) بأن والد زميله كان يملك بمنزلهم دجاجتين أي أنه من الطبقة الغنية وكان يأتي له ببيضه كل يوم للمدرسة وتكون هذه طعامه وقوت يومه وبفضل هذه البيضة لم تقضي عليه مجاعة الستينيات ....
اليوم معدل دخل الفرد في كوريا الجنوبية عالي جدا ، والبطالة بأقل مستوياتها ، كوريا الجنوبية اليوم عملاق صناعي جبار ، سياراتها تغزو العالم بسبب رخص ثمنها وقوة أدائها ، بالإلكترونيات لا يخلو بيت بالعالم لا يحتوي على شيء مصنوع في كوريا سواء أكان تلفاز أو هاتف محمول أو غساله أو مكواة أو ثلاجة .....
ترى ما السبب الآخر غير الإلهي طبعا الذي قفز بكوريا من بلد فاشل فقير معدم لبلد حقق المعجزة الاقتصادية الأولى بالعالم .... علما بأن كوريا وحتى عام ١٩٨٧ كانت بلد خاضعه للانقلابات العسكرية والمظاهرات دائما ما كانت تعم شوارع سيئول ليل نهار ، وفي كل يوم تقريبا ثمة غازات مسيله للدموع تشتم رائحتها في أركان الشوارع لتفريق الجموع الغاضبة ......
الجواب بكل بساطة هو الشعب .... نعم الشعب الذي قرر أن ينتفض من قيود الفقر والحرمان والتبعية وينطلق للبناء بشتى المجالات ، كذلك ثمة دور حكومي كبير تمثل بخلق البيئة المناسبة لهذه الانتفاضة .....
بقناعه فظيعة جعلت الكثير من العمال والتقنيين والمهندسين يرضون بقبض اجور رمزيه ومتدنية بالثمانينيات من أجل النهوض بكوريا مستقبلا .... وقامت شركة ( هيونداي ) بدخول السوق العالمية بأقل التكاليف والأسعار ، وقدمت كوريا يد عامله كفوئة ورخيصة للعالم الصناعي الأوربي كألمانيا وايطاليا وكانوا هؤلاء يحققون دخلا كبيرا لكوريا ...
أساتذة الجامعات رضو بمعاشات قليله ذاك الوقت لأنهم كانوا يدركون بأن الجيل القادم سيعوضهم وهذا ما كان فعلا ، فالصندوق الاجتماعي لكوريا قوي جدا ويدعم جيل الثمانينيات كثيرا كونهم جيل أوصل كوريا لما هي فيه الآن .... 
أنا شخصيا تعطيني تجربة كوريا قبس نور نحيل جدا جدا لأمل ما ينتظر سوريا .... لمجرد الدعابة فما بين سوريا وكوريا تشابه لفظي كبير ولكن ثمة اختلاف بالوضع ملحوظ .... لما لا نكون يوما ما مثل كوريا بعد توقف آلة القتل اليومي في سوريا لما لا ..... كوريا الجنوبية خرجت من حرب شرسة طاحنة عام ١٩٥٣ كانت فيها سيئول مدمرة بالكامل ومن قبلها بسنوات كانت ترزح تحت الاحتلال الياباني لأكثر من أربعين عام ... كوريا بخمسينيات القرن الماضي كانت نسبة الأمية فيها تتجاوز ٩٠٪ لأن اليابانيون حاربوا التعليم بكوريا بشكل كبير .....
لما لا تنهض سوريا من ركام الحرب يوما ما ثم يعيد أبنائها بنيانها من جديد .... لأن الأمل شيء مشروع ، والقنوط من رحمة الله أمر مرفوض تماماً لذلك سأبقى متمسكاً بالأمل حتى لو عاشه جيل أبنائي ولربما أحفادي .

سعد وليد بريد

التعليقات