بعد وقوع الحادث الإرهابى فى بريطانيا بلحظات أعلن مهرجان (كان) إلغاء المظاهر الاحتفالية التى نراها يوميا، حيث تنطلق مئات من الصواريخ فى السماء التى ترسم ملامح البهجة على المهرجان، إلا أنه فى نفس الوقت أكد أن استمرار الفعاليات والعروض هو الرد الحاسم لمن يريدون اغتيال الجمال، وكان أول الأنشطة التى أعلن فيها المهرجان موقفه هو ليلة حب المخرج الإيرانى عباس كيروستامى.
قال عنه المخرج الفرنسى الشهير جان لوك جودار عندما جاءه بنبأ الرحيل، «السينما ولدت مع (جريفث) وانتهت مع رحيل كيروستامى»، وجريفث لمن لا يعرفه هو أحد آباء السينما فى العالم عاصر بدايتها وأضاف الكثير لها، المخرج الإيرانى عباس كيروستامى من وجهة نظر الكثيرين واحد من أهم عشرة مخرجين عرفتهم شاشة السينما فى العالم طوال تاريخها، وهكذا أفرد له مهرجان (كان) ليلة كاملة فى قاعة لوميير للاحتفاء به، حيث غادرنا قبل نحو عام.
كثيرا ما شارك فى المهرجان بأفلامه، وقبل 20 عاما وفى اليوبيل الذهبى لمهرجان كان (50) عاما على بدايته، كانت رئيسة لجنة التحكيم إيزابيل أدجانى أعلنت عن فوزه بجائزة السعفة الذهبية، بينما كاترين دينيف طبعت قبلة على خده وهى تمنحه الجائزة عن فيلمه (طعم الكرز)، يومها توقفت كل الأحداث فى إيران ونسى الجميع، خاصة من المتزمتين دينيا، أنه لأول مرة يحصل فيلم إيرانى على السعفة الذهبية، تجاهل الجميع كل ذلك فى طهران وتذكروا فقط تلك القبلة، ولم يتم الاحتفاء به فى بلده بما يليق بهذا الإنجاز التاريخى، عاقبوه رغم أنه لم يسع ليقبل كاترين، هى التى سارعت لإعلان سعادتها بالجائزة للتأكيد على أنها ذهبت لمن يستحقها.
قبل يومين فقط كان مدير المهرجان تيرى فريمو ينعيه اسم (كان) موجها رسالة لابنه باهمان، الذى كان حاضرا للعرض، وهو أيضا ورث هذه الموهبة عن أبيه، حيث قال له وللجميع لن يموت إبداع كيروستامى. وعرض المهرجان بعدها لكيروستامى آخر أفلامه (24 كادر) فكانت أمامنا السينما الخالصة، فلا حوار تسمعه ولكن الشاشة بكل تفاصيلها تتكلم سينما.
كيروستامى حالة خاصة جدا بين كل المخرجين فى إيران، فهو لم يعاد الثورة الإيرانية عام 79، لكنه حافظ على استقلاله، لم يكن أبدا من رجال العهد الجديد، ولكنه أيضا لم يعلن الثورة ضدهم أو يسافر خارج الحدود مثلما فعل عدد من المخرجين من جيله وهم يقدمون أفلاما لتوضيح موقفهم السياسى المناصر للحرية، كيروستامى يرى أن بقاءه داخل بلده هو فقط الذى يمنحه القدرة على الإبداع، لم يصطدم مثلا مع النظام بعنف مثلما فعل تلميذه النجيب (جعفر بناهى)، حيث صدر بحق بناهى من القضاء الإيرانى حكم يمنعه من السفر خارج الحدود عشرين عاما، ويمنعه أيضا من ممارسة المهنة، ورغم ذلك فإن أفلام بناهى تتجاوز الحدود وتهرب للمهرجانات، بل وتحصل على جوائز مثل فيلمه (تاكسى) الذى اقتص قبل عامين (الدب الذهبى) من برلين، هناك طريقة أخرى اتبعها زميله محسن مخلباف، الذى سافر مع عائلته المكونة من زوجته وأبنائه إلى باريس، وكلهم يمارسون المهنة ويقدمون أفلاما ضد كبت الحريات فى إيران، كيروستامى اتبع سياسيا طريقة تضعه فى مأمن من السلطة، وفى نفس الوقت هو لا ينتظر منها شيئا، فلا هو يخشى عصا الدولة ولا هو ينتظر الجزرة، تلك هى مساحة الحرية التى ينبغى أن يتحرك خلالها المبدع، وظل كيروستامى حتى رحيله محافظا على تلك المساحة، حتى يستطيع مواصلة الإبداع داخل حدود بلده، ليتم تكريمه فى واحد من أهم ثلاثة مهرجانات فى العالم، ويعرض آخر أفلامه (24 كادر)، وهو الفيلم الذى من الممكن أن ترى فيه كل ملامح المدرسة التى يمثلها كيروستامى القائمة على التأمل، الرجل أساسا شاعر ومصور فوتوغرافيا ورسام ومصمم جرافيك وفنان كاريكاتير، كل تلك الملكات الإبداعية ومن خلال كيمائية خاصة جدا تتشابك فى داخله مع أحاسيس المخرج لنرى فى الشريط السينمائى حالة (كيروستامية) هى تلك التى يقدمها لنا على مدى 40 فيلما هى مشواره، اختيار رقم حميم جدا عرفناه مع اختراع السينما بعد دخول عنصر الصوت، حيث أصبحت سرعة الشريط داخل الكاميرا هى 24 كادر فى الثانية، حتى تتحول الصورة الثابتة من خلال انعكاسها على شبكية العين إلى صورة متحركة، فى الفيلم نرى دائما روح سينما هذا المخرج. فهو يلتقط صورة ثم يبدأ فى تأملها، الكاميرا ثابتة لا تتغير لا هى تتحرك ولا العدسة عن طريق الزوم تغير المنظر أمامنا، هو يترك لك كمتلقٍ أن تضيف للكادر ما يحلو لك أثناء قراءته، المؤكد أن المخرج صور مئات الكادرات حتى استقر على تلك الـ24 التى صنعت فيلمه، التى تقتطع جزءا من الطبيعة وبعد ذلك ينتظر أن تكتمل الحكاية من خلالك أنت كمبدع أيضا، فهو إبداع مشترك بين المخرج والجمهور، مثل اللوحات التجريدية التى تمنحك دائما حالة ما عند تأملها، وكأنك أنت أيضا من خلال قراءتها مشارك فى الإبداع.
مثلا فى واحد من تلك الكادرات يقدم لنا مجموعة من الأبقار تتحرك فرادى ومجموعات فى مقدمة الكادر نلمح واحدة لا تتحرك وتقف أمام البحر تبدأ الغربان فى التجمع انتظارا للنيل من الضحية والتهامها، فى هذه اللحظة تتحرك فتبتعد الغربان، ستجد دائما أن المشترك الأعظم فى تلك الصور هو الطيور وقطرات الجليد التى تتساقط، لديك كادر آخر، أقدام داخل الشقة وترفع الستار فنستمع إلى موسيقى على إيقاع الفالس وتتراقص أمامنا الشجرة على ضربات الريح. وقع أقدام مجددا تغادر الشقة فينتهى الموقف، ثم ننتقل إلى لقطة أخرى، العصافير تلعب تأتى قطة تأخذ واحدا بين أنيابها لتلتهمه فتبتعد العصافير لحظات، تعود مجددا العصافير وتنسى ما فعلته القطة، الكادر 24 هو الختام والذروة لهذا الفيلم عندما نشاهد الصورة بين رجل وامرأة من داخل الكادر ترتدى قبعة ويقتربان فتسقط القبعة ويهمان بقبلة كل ذلك والكاميرا تحافظ على تلك المسافة ونقرأ فى نهاية الفيلم والكادر الختامى رقم 24 كلمة النهاية أيضا على الشاشة.
حياة كيروستامى تستحق التأمل، هذا الفنان يذكرنى بما لم يستطع الكاتب الكبير عبدالرحمن الخميسى تحقيقه فقال (عشت لا أعزف ألحانى، بل أدافع عن قيثارتى)، طلب الخميسى من الورثة أن يضعوها على قبره، وهى فى الحقيقة لها تنويعات عديدة فى عالمنا الشرقى كله، حيث إن السلطة والمثقف دائما فى علاقة تتشابك فيها المصالح والأهداف، الرغبة والخوف، الفنان يريد طبعا أن يعزف لحنه ويخرج فيلمه ويرسم لوحته، ولكن الدولة على الجانب الآخر لديها أيضا حساباتها المعقدة، فهى تريده مدينا لها، هاتفا باسمها، هناك من يصبح من الفنانين صوتا للدولة ولا يحيد أبدا عن الهتاف لها فى كل الأحوال، وفى العادة ينعم برضاها، وفى كثير من الأحيان يحتل المقدمة ويغدقون عليه بالجوائز، كيروستامى لم يصدر ضده مثلا قرار بعدم السفر مثل عدد من تلاميذه، وهو مثلا على عكس أى مخرج إيرانى عندما يقدم إنتاجا مشتركا يحرص على أن يقدمه طبقا للقواعد الإيرانية لا عنف ولا جنس ولا عرى، الفيلمان (طبق الأصل) إنتاج مشترك فرنسى- إيطالى، والثانى (مثل من يحب) إنتاج مشترك فرنسى- يابانى، هذا هو المخرج الذى استطاع أن يعزف ألحانه مدافعا عن قيثارته، فشاهدنا فى (كان) وخارج المسابقة أفضل أفلامها!!.
التعليقات