تنتابني هذه الأيام حيرة فكرية ومعضلة فلسفية تتضاعف كلما تأملت ما يجري حولنا من دمار وتجويع وقتل، فأجد نفسي غارقًا في أسئلة لا أملك لها أجوبة مطمئنة: متى يكون الدفاع واجبًا لا عذر في تركه، ومتى يكون السلام فضيلة لا يجوز رفضها؟ هل الشجاعة أن نموت واقفين حتى آخر رمق، أم أن البطولة الحقيقية أن نختار الحياة للأمة كي تبقى جذورها حيّة، ولو بثمن الانحناء المؤقت؟ وهل الانتصار يُقاس بعدد السيوف المرفوعة، أم بالقدرة على اتخاذ القرار الأصعب حين يبدو أن كل طريق يقود إلى الخسارة؟
يقال إن الدفاع فعل نبيل، فهل يظل نبيلًا إذا انتهى إلى خراب البيوت وهلاك الأبرياء دون جدوى؟ ويقال إن السلام فضيلة، فهل يبقى فضيلة إذا كان وليد خوف أو قناع استسلام يطمس الهوية؟ ألسنا في كل مرة أمام معادلة دامية: موت يحفظ الكرامة لكنه يُفني، أو حياة تُبقي الجسد لكنها تفرغه من معناه؟ وكيف نُفاضل بينهما ونحن نعلم أن كليهما يجرح الروح؟
حين أعود إلى شريعتنا الإسلامية الغراء، أجدها تؤكد أن مقاصدها الكبرى تتمحور حول حفظ الدين والنفس، والعقل، والنسل، والمال. فكما نص الغزالي في المستصفى أن مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوّت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة. فإذا كان الدفاع يؤدي إلى ضياع النفس والدين معًا، فكيف يكون مصلحة؟ وإذا كان السلام يحفظ النفس لكنه يُضيّع الدين، فهل يُسمى فضيلة؟ ألا يضعنا هذا أمام المعضلة الحقيقية: أي الضرورات نقدم إذا استحال الجمع بينها جميعًا؟ أما الشاطبي فيؤكد موافقاته أن «المصلحة إنما تُعتبر من حيث تحقق مقصود الشرع، فإذا خالفت المقصود لم تكن مصلحة، بل مفسدة». فهل يبقى الدفاع واجبًا إذا أضاع الغاية التي من أجلها شُرع؟ وهل يصبح السلام محمودًا إذا صان النفوس لكنه محا الإرادة؟ ألا نحتاج إلى نظرٍ عميق في الزمان والمكان والمآلات قبل أن نحسم الموقف بعبارات مطلقة؟
وأجد في القرآن ما يفتح لي بابًا للتأمل حين يقول تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106]. فإذا كان الشرع قد رخّص حتى في كلمة الكفر تحت الإكراه حفاظًا على النفس، أفلا يكون السلام في لحظة ما خيارًا مشروعًا إذا كان الغرض منه صون الأرواح؟ لكن ماذا عن حفظ الدين والكرامة؟ أليس الدفاع هو السبيل أحيانًا للحفاظ عليهما؟ فكيف نوازن بين نص يفتح باب الرخصة ومقصد يدعو إلى التضحية؟
التاريخ لا يخلو من شواهد تحمل هذه الجدلية. فعبد الله بن الزبير عندما صمد حتى قُتل ودُمرت مكة من حوله. أكان ثابتًا على المبدأ أم عنيدًا جرّ قومه إلى المهالك؟ والإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما عندما تنازل عن الحكم ليحقن دماء المسلمين، أكان ضعيفًا أم بالغ الشجاعة حين قدّم حياة الأمة على مجد السلطة؟ وصُلح الحديبية، الذي بدا لكثير من الصحابة تنازلاً مرًّا، سماه القرآن فتحًا مبينًا. ألا يعلّمنا ذلك أن الهزيمة الظاهرة قد تكون نصرًا باطنًا، وأن التنازل أحيانًا قد يكون عين الفتح؟
في التاريخ الحديث، كم من شعب اختار المقاومة المسلحة حتى الرمق الأخير، وكم من شعب اختار المقاومة السلمية حتى انهار الاحتلال من داخله. فأي الخيارين أصوب؟ وأيهما أقرب إلى روح الشريعة: أن نحفظ الأرواح لتستعيد الأمة كرامتها لاحقًا، أم أن نُضحّي بالأرواح لتبقى الكرامة مرفوعة وإن ذهبت الأجساد؟ أليس كلا الطريقين يحمل فضيلة ورذيلة في الوقت نفسه؟
وحين أطل على الفكر الغربي أجد أن هذه الأسئلة ليست غريبة عنهم. فـ "كانط" يرى أن الفعل الأخلاقي هو ما يمكن تعميمه ليصير قانونًا كليًا: فهل يمكن تعميم التضحية العمياء قانونًا عامًا؟ وهل يمكن أن يصبح الانحناء المؤقت قاعدة إنسانية عامة؟ أما "جون ميل" في فلسفته النفعية فيرى أن الفعل يُحكم عليه بمقدار ما يجلب أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، فهل يكون السلام مفضلًا إذا أنقذ آلاف الأرواح، ولو جاء على حساب الحق الواضح؟ أم أن الدفاع واجب إذا حفظ معنى الحرية ولو أزهق الأرواح؟ ونرى "تولستوي" دعا إلى اللاعنف والمقاومة الروحية ورأى في كسر دائرة العنف خلاصًا للإنسان، فهل كان بذلك أقرب إلى جوهر السلام الشرعي؟ أما "نيتشه" فقد رأى أن القوة الحقيقية هي في إرادة الحياة، فهل الحياة عنده أولى من حفظ الحقوق، أم أن الحق نفسه لا يكون إلا ثمرة لحياة قوية؟
وهكذا أجد نفسي بين مقاصد الشريعة من جهة، وبين مناهج الفلسفة من جهة أخرى، وكلها تؤكد أن الحكم على الفعل لا ينفصل عن نتائجه ومآلاته. فأي وزن أعطي لحفظ الدين أمام حفظ النفس؟ وأي قدر أقدّم للحق أمام الحياة؟ ومن يملك أن يحسم هذه الموازنة غير الضمير الذي يختبر لحظة القرار؟
يزداد القلق في نفسي حين أسمع من يقول إن الدفاع واجب مطلق في كل حال، فأخشى أن يكون ذلك طريقًا إلى هلاك لا جدوى منه. وأسمع من يرفع شعار السلام في كل وقت، فأخشى أن يكون ذلك طريقًا إلى خنوع يستنزف الروح. ألا نحتاج إلى ميزان أعدل، لا ينخدع بالشعارات، بل يزن الأفعال بقدر ما تحقق من مقاصد وما تمنع من مفاسد؟ أليس الانتصار الحقيقي أن نحافظ على إنسانيتنا وسط العاصفة، لا أن نحرقها باسم الشرف أو نبيعها باسم السلام؟
كلما أوغلت في هذه الأسئلة، أدركت أن القضية ليست دفاعًا في مواجهة سلام، بل امتحانًا دائمًا للإنسان في جوهره: كيف يحفظ وجوده وحقوقه معًا. الانتصار لا يُقاس بعدد السيوف المرفوعة ولا بعدد المعارك التي تجنّبناها، بل بالقدرة على اتخاذ القرار الأصعب حين يلتبس الحق بالباطل والبطولة بالهزيمة. أليس أحيانًا أعظم الشجاعة أن ننسحب حين يبدو التقدم وهمًا؟ وأليس أحيانًا البطولة في أن نكسر دائرة العنف لا أن نغذيها؟ وهل نستطيع أن نرى بعين الحكمة لا بعين الحماس؟
إن هذه الأسئلة قد لا تجد جوابًا قاطعًا، لكنها تظل حارسًا للضمير من الانزلاق إلى التهور أو إلى الاستسلام. إنها أسئلة لن تنتهي، لأنها في حقيقتها ليست عن حرب أو صلح، بل عن معنى الإنسان نفسه، وعن كيفية الموازنة بين الضرورات والمبادئ، بين الحياة والحق، بين الواقع والمثل. وأتركك الآن أمام السؤال الذي يواجهني كل يوم: لو كنت أنت صاحب القرار، وأمامك دماء شعبك من جهة وحقه من جهة أخرى، ماذا كنت ستفعل؟ هل تختار السيف أم الغصن الأخضر؟ وهل تعتقد أن التاريخ سينصفك مهما اخترت، أم أن الضمير وحده هو المحكمة الباقية؟
التعليقات