في لحظات بعينها، يدرك الطبيب أن الطب ليس مهنة فحسب، بل رسالة تتجاوز الحدود والجغرافيا والاختلافات الثقافية. هذا الإدراك تكرّس في وجداني وأنا أقود بعثة طبية إنسانية لإجراء عمليات قلب مفتوح مجانية في نيجيريا والكاميرون، على مدار أيام حملت من المعاناة بقدر ما حملت من الأمل.

نيجيريا.. قلوب تنبض بالشكر
في العاصمة النيجيرية أبوجا، وتحديدًا بين 20 و28 يناير 2023، جمعتني الأقدار بفريق طبي رائع ضمن “مهمة القلب الآمن” (Future Assured Cardiac Mission)، بدعوة ورعاية كريمة من السيدة الأولى، الدكتورة عائشة محمدو بخاري. كنا هناك من أجل الأطفال والكبار الذين أعياهم المرض، ولم تكن أمامهم سبل للعلاج المتخصص.
لقد أجرينا عددًا من العمليات الجراحية المعقدة بالمجان، كان من بينها حالات نادرة لأطفال وُلدوا بتشوّهات قلبية خطيرة. بعضهم لم يكن يُتوقع له أن يُكمل عامه الأول، واليوم هم في المدارس يلعبون ويضحكون ويعيشون الحياة.
وفي ختام المهمة، وبينما كنت أتهيأ للعودة، فوجئت بدرع تقدير ممهور باسم السيدة الأولى، يُكرّمني على “جهودي غير الأنانية” كما ورد في نص الدرع. لكن الحقيقة أن من يستحق التكريم هم هؤلاء المرضى الذين منحونا شرف ملامسة قلوبهم حرفيًا، وشرف دعواتهم الصادقة.
الكاميرون.. حيث تعلّمت أن الإنسانية لغة لا تحتاج إلى ترجمة
في الكاميرون، لم يكن الوضع مختلفًا. حالات طبية حرجة، وإمكانيات محدودة، وانتظار طويل لحلول قد لا تأتي أبدًا لولا التعاون الدولي والعمل الإنساني النبيل. ولكن في كل مستشفى، وفي كل غرفة إنعاش، كان هناك درس في الصبر، ودرس آخر في الإصرار على الحياة.
الوجوه التي كانت يعلوها القلق تحوّلت إلى ابتسامات، والآباء الذين كانوا على وشك فقدان الأمل عادوا يحملونه من جديد، فقط لأن هناك من قرر أن يكون موجودًا، في الوقت والمكان المناسبين.

الإمارات.. قلب الإنسانية النابض
ولا يمكنني الحديث عن هذه الرحلة الإنسانية دون أن أُشيد بما غرسته دولة الإمارات وقادتها فينا من قيم العطاء والعمل الإنساني. لقد تعلمنا أن العلم لا قيمة له إن لم يُترجم إلى رحمة، وأن الطبيب الإماراتي أو المقيم في دولة الإمارات يحمل في جعبته قدرًا من المسؤولية لا ينتهي عند حدود الوطن، بل يمتد ليشمل الإنسانية جمعاء.
إنّ ما حققناه في نيجيريا والكاميرون ليس جهدًا فرديًا، بل امتدادًا لنهج إماراتي راسخ في تمكين الطب من أن يكون جسرًا نحو الأمل، وحياةً تُمنح لمن لا يستطيع دفع ثمنها.
حيث تبدأ القلوب من جديد
ربما أنهيت المهمة وغادرت نيجيريا والكاميرون، لكنّ القلوب التي زرعنا فيها الحياة تظل تنبض، وتُذكّرني كل يوم أن الطبيب الحقيقي لا يُقاس بعدد الجوائز ولا بالألقاب، بل بعدد القلوب التي أعاد إليها النبض.
ولأنّ القلب لا يعرف الجغرافيا.. سأظل أؤمن بأن الطبيب هو جندي في جيش الإنسانية.
التعليقات