السينما مرآة أحلامنا تضيء الشاشة الفضية العملاقة، فيسري النور منها إلى قلوب وعقول المشاهدين، وفي مدينة قازان، قبل عشرين عاما، أضاف رمز المنبر الذهبي بعدا إنسانيا لهذا الضوء، فكان مهرجان قازان لسينما العالم الإسلامي، الذي تابعته منذ نشأته، وحظيت بحضور عديد من دوراته، وشاركت في إحدى لجان تحكيمه قبل ثلاث سنوات، وكان من المدهش والمثير في آن واحد أن يفتتح المهرجان دوما بمباركة وحضور مفتي البلاد، وكأنها رسالة بأن للإسلام قلبا يتسع للفن والجمال.
في العام 2006 بدأت رحلاتي إلى تتارستان، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، فوقعت في غرام مدينتها العاصمة قازان التي احتفلت آنذاك بمرور ألف عام على تأسيسها، وهي حاضرة للتاريخ والفن والجمال، تتوسط دلتا نهر الفولجا مع النهر المسمى باسمها على بعد نحو 800 جنوب العاصمة الروسية موسكو. لم يكن جمال المدينة سببا وحيدا، بل أهلها ومحبوها الذين تنافسوا على حماية تراثهم، بالبحث والكتابة والتوثيق.
في تتارستان، وبعد اعتناق بُلغَار نهر الفولجا الدين الإسلامي عام 922 ميلادية، تاريخ وصول الرحالة أحمد بن فضلان إليها، بدأت "قازان" تتشكل على هيئة بيوت بدائية من الخشب، حتى أعلن مولدها في سنة 1005 ميلادية، وليظهر اسمها للمرة الأولى في الأدبيات المكتوبة سنة 1177 ميلادية.
ستنعم المدينة بإسلامها وسلامها أربعة قرون، إلى أن تدك بواباتها جحافل جيوش إيفان الرهيب في الثاني من أكتوبر عام 1552 ميلادية. واجه التتار المسلمون ببسالة الجيش الفتاك لإيفان الرهيب لخمس سنوات من الحرب الإستنزافية لاستعادة "قازان". وهي المدة التي تحولت فيها لأول مرة في المدينة أساليب بناء البيت من الخشب إلى الحجر، كما شهدت أيضا بناء جدران حماية جديدة. ثم جاء المعماري إيفان شريعي إلى "قازان" مع 200 من مساعديه لإعمار المدينة بالبيوت الحجرية في 1555 ميلادية.
منذ إسلامها ظلت تتارستان تكتب لغتها بالحروف العربية، قبل أن يجبر القيصر بيتر الأول أبناء التتار وسواهم على استخدام الأبجدية الروسية في القراءة والكتابة، سنة 1707 ميلادية. كلُّ شارع في قازان له قصة، وكل بيت في شوارعها له رواية، وكل مسجد في أطرافها تقف منارته شاهدة على تاريخ عريق، وعجيب أيضا. واليوم نجد في المدينة الكثير من هذه الأماكن التاريخية التي تم ترميمها بالفعل، وبعضها تحول إلى مزار سياحي. وقد نال أول رئيس للجمهورية منيمير شامييف، مؤسس مهرجانها السينمائي، جائزة الملك فيصل في خدمة الإسلام، تقديرا لدوره في ترميم مساجدها، وإنشاء أشهر معالمها، مسجد قول شريف.
في العقدين الأخيرين كان لدى جمهورية تتارستان فريق للرؤية الاستراتيجية بين روسيا والعالم الإسلامي، وقد أثمر عمله بشكل كبير جدا. فكان الشعار، حوار الثقافات من خلال ثقافة الحوار، وهو الحوار الذي أثمر سينمائيا عبر أيام المهرجان. وشهد المهرجان رعاية خاصة من وزراء ثقافة الجمهورية، بدءا من السيدة زيليا فاليفا، حتى السيدة إرادة أيوبوفا، فضلا عن الدور الكبيرللسيدة مديرة المهرجان ميلوشا آيتجانوفا. وأشكر السيدة رئيسة صافيولينا - عضو المجلس العام التابع لوزارة الثقافة بجمهورية تتارستان، مؤسسة ومنسقة النادي الدبلوماسي "الدبلوماسية العامة - في حوار الثقافات"، التي قدمتني لهذا الحدث منذ قبل نحو العقدين.
في كل سنة تضاف فكرة جديدة، ومشروع متجدد، بإنتاج مشترك، أو سوق دولية، أو ورشات عمل، وندوات، ومعها يستعيد المهرجان اسمه الذي ولد به (المنبر الذهبي)، ويقاوم كل الصعوبات، بفضل القائمين عليه، الذين آمنوا بقدرة السينما على صناعة الأحلام، وقدر الإنسان على تحويل أحلامه إلى واقع.
خارج الإطار الغربي، يأتي مهرجان يتجاوز الحدود، ويؤمن بالقيم، ويشجع القدرات الوطنية ويحث الشباب والنساء والأجيال الجديدة على المشاركة، ويستضيف أصواتا مختلفة ومتحققة جديرة بالتقدير والمشاركة. إنه المهرجان السينمائي العالمي الذي يعتق مساره على طريق الحرير، لا يربط القارات وحسب، ولا يحاور الثقافات فقط، بل يوحد القيم الإنسانية جمعاء.
التعليقات