يشهد العراق وجواره موجة حر حارقة في أغسطس "اللهاب". مع التبعات الاقتصادية والاجتماعية
الأمن المائي-الغذائي
كما أن السدود التي تبنيها الجارتان تركيا وإيران تعدّ سبباً رئيسياً في تراجع منسوب نهري دجلة والفرات، اللذين ولدت على ضفافهما أقدم الحضارات والبشرية إلى جانب الثورة الزراعية.
كما أن تراجع هطول الأمطار إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية عاملان ساهما في تعميق الأزمة وأيضا المخزون المائي هو "الأدنى في تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ مطلع عشرينات القرن الماضي".
ما سبق يلقي بظلاله على الواقع الزراعي وخاصة في الأهوار. "يحتاج العراق لتغير سياساته في ملفي الزراعة والمياه: القيام بحملة توعية للحد من استهلاك المياه في الزراعة عن طريق الري بالتنقيط، والابتعاد عن زراعة المزروعات التي تحتاج كميات كبيرة من الماء كالأرز، والانتقال لزراعة المنتجات الموفرة للمياه وذات المردودية العالية والتي تحتاجها الأسر العراقية كالخضروات".
كما ذكّر الأسدي بضرورة الإسراع بإنشاء "ناظم سد البصرة" بهدف التقليل من المياه الذاهبة "هدراً" إلى البحر في الخليج والاستفادة منها.
وفي يوليو، حذرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) من أن منطقة الأهوار التاريخية في جنوب العراق تشهد "أشدّ موجة حرارة منذ 40 عاماً"، متحدثةً كذلك عن تراجع شديد لمنسوب المياه.
ومؤخراً كشف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن خسارة العراق حوالي 100 ألف هكتار كل سنة بفعل التغير المناخي.
"شعور" بالخذلان
في العراق تمثل الزراعة نسبة 20% من الوظائف وتعتبر ثاني أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5%، بعد النفط.
ويجب دعم المزارعين والأسر الأكثر هشاشة للحفاظ على أرزاقهم وحيواناتهم للحيلولة دون الهجرة من الريف إلى المدينة وما يرافقها من تبعات اقتصادية واجتماعية، ووقف النزيف في قيمة الدينار العراقي وفي العملة الصعبة نتيجة زيادة فاتورة المستوردات بالدولار".
وحتى منتصف مارس، كانت هناك "12 ألفاً و212 عائلة (73 ألفاً و272 شخصاً) نازحةً بسبب الجفاف في عشر محافظات عراقية" في وسط وجنوب العراق، بحسب تقرير نشرته مؤخراً منظمة الهجرة الدولية.
في أبريل، حذّر تقرير أممي من خطر "الاضطرابات الاجتماعية" التي قد تنشأ عن العوامل المناخية. ونبّه التقرير إلى أنه "في ظلّ غياب الخدمات العامة والفرص الاقتصادية الكافية... قد يؤدي التحضّر والانتقال إلى العيش في المدينة بفعل المناخ إلى تعزيز هياكل قائمة مسبقاً من التهميش والإقصاء".
و يشعر الكثير من العراقيين في الغالب بأنهم يواجهون الطقس الحار بمفردهم بدون دعم من الحكومة.
هل شارفت المياه الجوفية في الشرق الأوسط على النفاد؟
على وقع تعرض بلدان الشرق الأوسط للجفاف وضعف منسوب الأنهار وقلة الأمطار، تزايدت أهمية المياه الجوفية وتوسع الاعتماد عليها. لكن مع تفاقم ظاهرة تغير المناخ، هل يشكل ذلك خطرا على هذه الثروة؟
جنى العراق محصولا قياسيا في القمح هذا العام رغم الجفاف فيما يعود الفضل في ذلك إلى المياه الجوفية
تزايد الاعتماد على المياه الجوفية في العديد من بلدان الشرق الأوسط مع تفاقم تداعيات ظاهرة تغير المناخ وما نجم عنها من طول أمد مواسم الجفاف وشدة ضراوتها وقلة مواسم الأمطار مع ارتفاع درجات الحرارة. وإزاء ذلك بات الاعتماد على المياه الجوفية بشكل أساسي لري محصول القمح هذا العام في العراق الذي يعد من أكثر البلدان المهددة بتبعات تغير المناخ والجفاف في العالم.
كذلك ساهمت المياه الجوفية في ري عدد مزارع النخيل في تونس فضلا عن دورها في الحفاظ على الزراعة في اليمن وضمان حصول مدن ليبيا الساحلية على المياه. وعلى وقع ذلك، يمكن القول بأن المياه الجوفية لعبت دورا مهما في بلدان الشرق الأوسط القاحلة حتى باتت المصدر الرئيسي للمياه العذبة في قرابة عشر دول عربية، وفقا لتقرير أصدرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) قبل عامين.
تزايد الاعتماد على المياه الجوفية
وفي ذلك، ترى آنابيله هودرت، الباحثة البارزة في المعهد الألماني للتنمية والاستدامة، ان الاعتماد على المياه الجوفية والإقرار بأهميتها "آخذ في الازدياد". كما أن سكان المنطقة "لم يدركوا في السابق أهمية المياه الجوفية نظرا لأنها بعيدة عن المشاهدة. إذا رأوا نهراً تنخفض فيه مستويات المياه بشكل كبير، فقد ينجم عن ذلك رد فعل، لكن هذه المياه تعد شيئا مجردا ما يعني أنه بحلول الوقت الذي ندرك فيه الضرر الذي اصابها، يكون قد فات الأوان"
من جانبه، قال الدكتور محمد محمود مدير برنامج المناخ والماء في معهد الشرق الأوسط ومقره واشنطن، إن المياه الجوفية تتسم بالتعقيد نظرا لطبيعتها المعقدة. وأضاف أن هناك ضغوطات متزايدة على استخدام المياه الجوفية في المنطقة، لكنه شدد على أنها مصدر معقد للمياه فيما تعتمد طرق إدارة المياه الجوفية على نوع الأرض والصخور وعمق المياه وتدفقها وأيضا اتصالها بمياه الأنهار والبحيرات فضلا عن كونها مياه جوفية تأتي من مصادر متجددة أم لا؟
يشار إلى أن الباحثين يطلقون على المياه الجوفية التي تجمعت تحت الأرض على مدى آلاف السنين "المياه الجوفية الأحفورية" التي من الصعب تجديد مصادرها فيما يشبه إلى حد ما النفط الذي يعد مصدر للطاقة يُستخدم مرة واحدة.
قال امون برنفيوهر، مدير مشروع خاص عن سياسات المياه الجوفية في المعهد الاتحادي الألماني لعلوم الأرض والموارد الطبيعية، إن موارد المياه الجوفية التي تتواجد في عمق كبير في الأرض "بالكاد قابلة للتجديد أو غير قابلة للتجديد على الإطلاق. وقد جرى استغلالها بشكل كبير خلال العقود الأخيرة".
وأشار إلى أن بعض مصادر المياه الجوفية تتجدد بانتظام بسبب الأمطار، مشددا على أنه رغم تجدد مصادر هذه المياه الجوفية، يتعين توخي الحذر في استخدامها للحفاظ عليها وللتحقيق التوازن بين المياه المستهلكة والمتجددة.
صعوبة قياس مستوى المياه الجوفية
وإزاء ذلك، تحذر منظمات مثل الإسكوا من خطورة اختلال هذا التوازن خاصة في ظل صعوبة تحديد مستوى المياه الجوفيةوالوقوف على الخلل في العديد من بلدان الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، فإنه من الصعب تحديد مستوى المياه الجوفية في بلد مثل اليمن الذي يئن تحت وطأة حرب أهلية مزقته على مدى السنوات الأخيرة.
في المقابل توجد دول مثل السعودية تدرك جيدا مستويات المياه الجوفية إذ أوقفت المملكة في عام 2018 برنامجها الزراعي الذي بدأ في السبعينيات واعتمد على المياه الجوفية لزراعة القمح. ويقول الباحثون إن وقف البرنامج يدل على أن المملكة تدرك أنها كانت تستنفد مصادرها من المياه الجوفية.
ويشير هؤلاء إلى إمكانية قياس مستوى المياه الجوفية من الفضاء باستخدام صور الأقمار الصناعية خاصة بيانات الأقمار المعروفة بالتقنية التي يُطلق عليها "استعادة الجاذبية وتجربة المناخ" أو (GRACE) والتي دشنتها وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) لأول مرة عام 2002. وبواسطة هذه التقنية لا تلتقط الأقمار الصناعية صورا للممرات المائية بل تقوم بقياس تحركات المياه في العالم مثل ذوبان قمم الثلوج ومستوى المحيطات عن طريق قياس جاذبية الأرض.
ورغم ذلك، قال الخبير المائي برنفيوهر إن هذه التقنية لا تقدم بيانات عن "مستوى إدارة المياه بشكل محلي حيث تقف هنا حدود تقنية الاستشعار عن بعد."
وأضاف "لذا يتعين إنشاء آبار مراقبة محلية، لكن تمويل ومراقبة هذه الأبار بشكل منتظم قد يمثل إشكالية في بعض المناطق"، مشيرا إلى أن نقص البيانات عن المياه الجوفية ليست المشكلة الوحيدة.
وقال "هناك معرفة جيدة بمستوى المياه الجوفية في الأردن، لكن هناك نقص في تنفيذ قواعد تنظيم استخراج المياه الجوفية للزراعة. أما في دول الخليج الغنية مثل السعودية، فهي تدرك مواردها المائية جيدا، لكن يعيبها نقص الشفافية."
وتتفق في ذلك آنابيله هودرت، الباحثة البارزة في المعهد الألماني للتنمية والاستدامة، قائلة "العديد من دول الشرق الأوسط سنت لوائح بشأن استخدام المياه، لكن التطبيق مازال يمثل إشكالية". واستشهدت في ذلك بمثال من المغرب، مضيفة بأنه "عندما يصل موظف سلطة المياه المحلية في المغرب لتفقد الآبار غير القانونية، فإن السيارة التي يقودها لإنجاز مهمته ذات وقود محدود رغم أن مساحة الأرض كبيرة فضلا عن أن أطفال بعض القرى يرشقونه بالحجارة حتى لا ينجز مهمته".
الحلقة القادمة: متى ستنفد المياه الجوفية؟
التعليقات