اقرأ الحادثة

اقرأ الحادثة

محمد منير

«اقرأ الحادثة» تلك كانت الجملة الشهيرة لبائعي الصحف والمجلات، وبالطبع كانت هناك حادثة تستحق أن تُقرأ، حيث كان لبائع الجرائد في ذلك الزمن سياسة خاصة في بيع الصُحف، وفي الترويج لما تحمله بين طياتها من عناوين، فكان يقرأ جميع الصحف، ويُردد عناوينها المهمة، والأكثر جاذبية، وإن لم يعجبه عنوان موضوع ما، كان يستخرج هو بنفسه من بين السطور العنوان الأكثر جاذبية للقارئ.

وعندما تُقرر أن تشتري الجريدة، خلال اللحظات القليلة التي تُعطيه فيها ثمن الجريدة وتنتظر استرجاع الباقي، يكون قد أعطاك مُلخصًا لجميع الأخبار، ولا مانع لو لن تشتري الجريدة وسألته: عرفوا مين إللي قتل النقراشي باشا؟، فيرد: نعم.. طلع من جماعة الإخوان المسلمين، وحياخد إعدام، والباقيين مؤبد، وحسن البنا اتبرأ منهم وقال "ولا أعرفهم، دول ولا إخوان ولا مسلمين"، وسيظل يحكي لك القصة كاملة إلى أن يختفي أو تختفي أنت، لأنه ليس بائع جرائد بل بائع ثقافة.

مرت سنوات منذ آخر مرة ذهبت فيها لشراء صحيفة أو مجلة، رغم عشقي القديم لهذه العادة، حيث فوجئت بانتهاء اشتراكي في مجلة "ناشيونال جيوغرافيك"، وحتى لا أغامر بفقد العدد الجديد، قررت شراءه، وعلى مقربة من مكتبي بمؤسسة الأهرام، رأيت شابًا يجلس أمام صحف ومجلات يفترشها على الأرض أمام كُشك صغير، لم ينتبه لوجودي؛ لأنه كان مُنشغلًا في تصفح تليفونه المحمول، وكانت أصوات الفيديوهات التي يُشاهدها أعلى من أصوات المارة والسيارات والضوضاء في الشارع، ولم يكتفِ بعدم الانتباه بل كان يصدر من وقت لآخر ضحكات بصوت عالٍ، حالة من الاندماج مع التليفون جعلته لا يشعر بوجودي إلا عندما قررت أن أسأله عن مجلة "ناشيونال جيوغرافيك".

لم ينتبه لسؤالي في المرة الأولى، فكررت سؤالي مرة ثانية، فقال لي وهو يتابع ما يُشاهده على الموبايل، "مش بتيجي يا أستاذ من كم شهر"، فقررت إعادة البحث مرة ثانية، لأنني شعرت أنه لا يعرف أي شيء عن المجلات والصحف التي يبيعها، والمفاجأة أنني وجدت المجلة أي أنها لم تنقطع كما أبلغني، وفي تلك اللحظة أدركت أنه "(كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)، ولم أجادله، وأخذت المجلة وذهبت.

عادت بي الذاكرة لأكثر من 30 سنة، عندما كان عمري ربما 12 سنة، حيث كان والدي «رحمه الله» أول من علمني قراءة الصحف، وكان يطلب مني أن أقرأها، ثم أقول له العناوين المهمة، بحجة أنه مشغول ومش فاضي يقرأ، لكنه فقط يُحاول تشجيعي على القراءة، وقد كان وأصبحت القراءة جزءًا من تكويني.

 كان والدي مواظبًا على شراء الكتب والمجلات لي، وكنت أحب كثيرًا أن أذهب بنفسي لمكتبة الأهرام فجرًا، في مدينتي بلبيس، أنتظر مع العشرات غيري سيارة الأهرام القادمة من القاهرة بالصحف والمجلات والكتب، وكأننا نحتشد لحفل استقبال شخصية مهمة.

كانت مكتبة الأهرام عبارة عن محل صغير متر في مترين، تجلس داخله "أبلة ليلى" أطال الله في عمرها، وتقف بجانبها ابنتها تُساعدها، وكنت أشتري يوميًا معظم الصحف والمجلات، وكانت تحفظ عن ظهر قلب ما أتابعه، فيكفي أن تراني فتعطيني الصحف والمجلات التي أتابعها، لدرجة أنها كانت تحتفظ بالمجلات لي لو لم أذهب في موعد صدورها لأي سبب.

 وأذكر مرة أنني سافرت في توقيت صدور مجلات "هو وهي"، "هنا لندن"، و"العربي"، في إجازة العيد مع العائلة لبيت جدي، وعندما عُدت، ورأتني أعطت ابنتها مفتاحًا وطلبت منها أن تفتح خزانة خشبية أخرجت منها المجلات وأعطتها لي، وكانت أيضًا قارئة نهمة، فأحيانًا كانت تقول لي: الأستاذ أنيس منصور كاتب مقال مهم اليوم، أو تُعدد لي بعض العناوين المهمة في الصحف، وكانت تفعل ذلك ولازالت مع الجميع وليس معي فقط.

و«أبلة ليلى» لم تكن بائعة صُحف ومجلات، بل بائعة ثقافة، فرق كبير بين كل منهما، مثل الفرق بين المُتمدرس والمُتعلم، نفس الفرق بين أصل الشيء ومسخه.

كانت "أبلة ليلى" تعلم أنني أحب القراءة كثيرًا، لكنني لا أستطيع أن أشتري كل الكتب التي أرغب في قراءتها، فكانت تُعطيني الكتب أقرأها ثم أعيدها مرة أخرى على أن أحافظ عليها، وكانت تفعل ذلك دون أن أطلب منها.

وفي يوم رأيت كتاب "لعنة الفراعنة" للكاتب أنيس منصور، وكان مصروفي لا يكفي، فطلبت منها أن أقرأه فقط، فأعطته لي، وفي اللحظة نفسها جاء شخص ورأى الكتاب معي، فطلب منها نسخة، لكنها اكتشفت أنها النسخة الأخيرة، فقالت له: للأسف دي آخر نسخة، فشعرت بحرج، فأعطيتها الكتاب وقلت لها أنا ممكن أنتظر النسخ الجديدة، فأعادتها لي وهي تنظر للشخص الذي يريد الكتاب، وقالت: إنت عايز الحاج يزعل مننا "تقصد" والدي، وهي لا تعرفه من الأساس.

رغم مرور أكثر من 30 سنة، لكنها مشاهد لا يُمكن أن تُمحى من الذاكرة، مشاهد ساهمت في تشكيل وعينا الإنساني ونحن في مُقتبل عمرنا، مشاهد تجعلك تتساءل، أين ذهب هؤلاء البشر الذين كانوا يعيشون بيننا؟! ما هذا الوعي والفكر والتراحم والتعاطف والإنسانية، والذكاء؟! من المؤكد أن لدى كل واحد منا نفس الذكريات الإنسانية، ونفس التاريخ البشري، ونفس الشخصيات والملامح الإنسانية.

ومما لا شك فيه أن هناك رابطًا إنسانيًا يجعل كل واحد منا دائمًا يتذكر كل إنسان ساهم في تشكيل وعيه، رابط إنساني يجعل ذاكرة المدى البعيد داخل المخ تحتفظ بهم، وتُذكره بهم من وقت لآخر، ومهما مرت السنوات نتذكره.

كلمة أخيرة:

روى بيل غيتس أنه وهو في مقتبل عمره، وقبل طرح مشروع مايكروسوفت، كان مسافرًا في مطار نيويورك، وقبل الرحلة بدقائق، وقع نظره على إحدى المجلات، وعندما وضع يده في جيبه لم يجد نقودًا كافية لشرائها، وعندما لاحظ بائع الصحف أعطاها له وقال هذه هدية لك من دون مقابل، والغريب أن نفس المشهد بكل تفاصيله تكرر بعد ثلاثة أشهر، ولم يكن معه نقودًا، وأعطاه المجلة مرة ثانية من دون مقابل، وظلت صورة هذا الشاب عالقة في ذاكرة بيل غيتس، وبعد مرور أكثر من 20 سنة على تلك الواقعة، وبعد أن أصبح أغنى رجل في العالم، تذكر هذا الشاب وشكل فريقًا للبحث عنه، ووجده بالفعل، وعندما عرض عليه أن يطلب منه أي شيء وسوف يقدمه له، رفض الرجل، وقال له، أنا قدمت لك هذا وأنا فقير لا أملك شيئًا، لأنني أحب ما أقوم به، وأنت الآن تُريد أن ترده لي وأنت تملك كل شيء، وقد قال عنه بيل غيتس: لم أشعر يومًا أن ثمة من هو أغنى مني سوى هذا الشاب الفقير، هذا هو بائع الثقافة الحقيقي الذي يُدرك أن ما يبيعه لا يُقدر بثمن، ولا توازيه أموال بيل جيتس نفسه، وهذا هو الفرق بين بائع الثقافة وبائع الصحف والمجلات. 

الآن نحن لدينا باعة صحف، ولكننا اشتقنا إلى باعة الثقافة.

mhmd.monier@gmail.com

التعليقات