أخلاق بتاح حُتب...

أخلاق بتاح حُتب...

محمد منير

كنت ما أزال طفلاً عندما بدأت أرصد وأتابع تلك المشاهد التي كانت تجمع بين جدي ووالدي وبقية أعمامي، وكان فارق السن بين جدي وعمي الكبير 14 سنة فقط، وكنت أحياناً أرى علاقة صداقة تجمع جدي بأبنائه، وكنت أسأل نفسي كيف نجح جدي في تحقيق تلك المعادلة الصعبة في التربية، فهم أصدقاء، لكن هذا لا يمنع أن يُقَبِّلْوا يده عندما يرونه، ويقفوا جميعاً لمجرد أن يهم هو بالوقوف، ولا يتقدمه أحد عندما يسيرون إلى جانبه، ولا يرفعون أصواتهم عندما يتحدثون معه، ولا يجرؤ أحدهم أن يُدخن أمامه، وقد وصل الأمر في إحدى المرات أن اضطر والدي إلى إطفاء السيجارة بين أصابعه عندما رأى جدي أمامه، المشهد نفسه تكرر بعد سنوات بالتفاصيل نفسها مع أخي الأكبر.

كان جدي "رحمه الله" عمدة كفر ميت بيشار، التابع لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، وكنت دائماً أعتبره عمدة استثنائياً بمواقفه التي لا تزال عالقة في ذاكرتي، والتي ربما أكتب عنها فيما بعد، لأنها مواقف تُرسخ ما نفتقده الآن من عادات وتقاليد وتربية وأخلاق.

تذكرت هذا المشهد اليوم لأنه يُترجم حجم تأثير ما نُشاهده ونحن أطفال على سلوكياتنا في الكبر بصفة خاصة ما يتعلق بالتربية، فأنا أعتقد أنه لو كان والدي على قيد الحياة، ورأيته أمامي فجأة وأنا أُدخن، سوف أكرر ما فعله هو وأخي بنفس تفاصيله، ليس خوفاً ولكن تقديراً واحتراماً، فالمشاهد التي تتراءى أمام عيني كثيرة، وأتذكرها جيداً وكأنها حدثت بالأمس القريب، مشاهد تُترجم معاني كثيرة للتربية والأخلاق.

ومثلما تأثرت بتلك المشاهد من المؤكد أن أبناءنا سوف يتأثرون أيضاً بما يُشاهدونه في المسلسلات التليفزيونية من مشاهد الابن الذي يضرب أمه، والابنة التي ترفع صوتها على أبيها، إضافة إلى الخيانات الزوجية، وإدمان المخدرات، والزواج العرفي، وغيرها من المشاهد التي من المؤكد أنها سوف تؤثر بشكل أو بآخر على سلوكياتهم، وتُرسخ للانحلال الأخلاقي والمجتمعي، وفي الوقت نفسه سوف يتأثرون أيضاً بما يشاهدونه من مسلسلات وبرامج هادفة تحث على التربية والأخلاق وتُقوِّم السلوكيات المجتمعية.

وفي ظل غياب الدور الرقابي والتربوي للأسرة، واستحواذ وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات التليفزيونية بما تحمله من محتوى أحياناً مُدمر لأبنائنا سواء عبر القضايا المطروحة في المسلسلات أو الرؤى والأفكار التي تتناولها البرامج، والبعيدة كل البُعد عن التربية والأخلاق، لكل هذا أعتقد أننا أصبحنا بحاجة مُلحة لإعادة النظر في تدريس"مادة الأخلاق" في المدارس مثلما كان يحدث خلال فترة الثلاثينيات، عندما كان مقرراً على طلبة الصف الثاني الثانوي، كتاب الأخلاق للأديب والمُفكر أحمد أمين، وكانت مادة أساسية لها امتحان ودرجات.

وهذا الكتاب لم يُكتب منذ البداية ليدرس، بل كان موجوداً بالفعل واختارته وزارة المعارف العمومية وقتها أو وزارة التربية والتعليم ليكون ضمن برنامجها الجديد لتعليم الأخلاق في المدارس الثانوية، كما ذكر المؤلف في مقدمة كتابه، والذي ذكر أيضاً أنه حاول التركيز على الجانب العملي أكثر من النظري، لأن التعمق في النظريات سوف يُنفر الطلبة من الكتاب، وأن الحياة الأخلاقية تعتمد على الروح التي تبعث على العمل أكثر مما تعتمد على قواعد العلم.

وأكد أنه يأمل في أن يكون هذا الكتاب مُرشداً للطلبة في حياتهم الأخلاقية، ويلفتهم إلى نفوسهم، ويُبين لهم أهم نظريات الأخلاق، ويشحذ إرادتهم لتأدية الواجب واكتساب الفضيلة، والكتاب عبارة عن عشرة فصول، تبدأ بتعريف الأخلاق كعلم يبحث عن معنى الخير والشر داخل الإنسان، وما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضاً، وكيف يجب على أن يكون لدى الإنسان مسؤولية أخلاقية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، وتجاه ضميره، قبل أن يكون مسؤولاً أمام القوانين التي تحكم هذا المجتمع.

وفي الفصول التالية يتحدث عن الإرادة وتربية وبناء الضمير، وأن الإنسان كلما زاد علمه ونما عقله كلما ارتقى ضميره، ويسترسل في مفاهيم الخير والشر، وعلاقة الفرد بالمجتمع، على مستوى الحقوق والواجبات، ومعنى الحق والواجب، وكأنه أراد أن يقنع الطالب بداية بتلك المعاني قبل أن يفرضها عليه، ويتحدث عن المثل الأعلى للإنسان في الحياة، وكيف يكون لك مثل أعلى، ويشرح معنى الفضيلة وقيمتها وأهميتها، ويستعرض فضائل الصدق، والشجاعة، والعفة والاعتدال وضبط النفس، والعدل والمساواة والرحمة والإحسان، والاعتماد على النفس والطاعة والتعاون وكيفية الانتفاع بالزمن.

وفي الخلاصة ينصح الطلبة بأن يُحاسبوا أنفسهم كل يوم، وإلى أي مدى نجحوا في الالتزام بتلك الفضائل، وإن لم ينجحوا اليوم، فعليهم أن يُعيدوا المحاولة غداً، وبإرادتهم القوية سوف ينجحوا بالسيطرة على أنفسهم، وتحقيق كل الفضائل.

وهذا الكتاب لم يكن بداية عهد وزارة المعارف العمومية في تدريس الأخلاق في المدارس، بل بدأ في عهد علي باشا مبارك وزير المعارف العمومية، عام 1870، عندما ألف رفاعة الطهطاوي رائد النهضة كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين"، وكان وقتها ناظر قلم الترجمة، وعضو قومسيون ديوان المعارف، وهو كتاب في الأخلاق والتربية والآداب، وأيضاً كتاب "مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية" في التربية والتعليم والتنشئة.

كلمة أخيرة قالها في عهد الفراعنة منذ آلاف السنين "بتاح حتب" وزير الملك إسيسي، وكانت في وصيته لابنه:

حصِّل الأخلاق… واعمل على نشر العدالة

وبذلك تحيا ذريتك، وتكن مثالاً لأولاد العظماء.

محمد منير

Mhmd.monier@gmail.com

التعليقات