رجل مصري بسيط، نشأ وسط أسرة متوسطة الحال، درس وتعلم في المدارس الحكومية، تخرج من كلية طب القصر العيني عام 1967، وعمل طبيباً في الوحدات الصحية بالقطاع الريفي في محافظة الغربية، إلى أن أصبح مديراً لمستشفى الأمراض المستوطنة، أسس عيادته الخاصة عام 1975، ولازالت حتى الآن، في عمارة بسيطة، وتبدو متهالكة، بالقرب من مسجد السيد البدوي، تهالكها يجعلك تعتقد للوهلة الأولى أنها خالية، أو مهجورة، ولا يقطنها أحد، لكن مشهد الناس الغلابة الذين يصطفون أمام العمارة، ويجلسون على درجات السلالم، ويغلقون مدخلها، في انتظار الدكتور محمد مشالي، أو طبيب الغلابة، أو ملاك طنطا، أو أي لقب يلقبونه به أهل طنطا،
هو رجل بسيط زاهد في الحياة، لا يفكر في غير الناس الغلابة، وكيف يُساعدهم؟، رغم عمره الذي يُناهز الأن الـ75 عاماً، إلى أنه مازال يعمل بكامل طاقته من أجل الغلابة، من الساعة العاشرة صباحاً حتى التاسعة مساءً بشكل متواصل، وبعد ما يقرب من 11 ساعة عمل، يخرج من عيادته إلى محطة قطارات طنطا متجهاً إلى قرية "محلة روح"، ليصل إلى عيادته الثانية في تمام التاسعة والنصف، وبعد أن يُنهي عمله يستقل القطار مرة أخرى متجهاً إلى عيادته الثالثة في قرية شبشير الحصة، بعدها يعود إلى طنطا حيث يسكن، والدكتور مشالي يعمل من أجل الغلابة 365 يوم في السنة بدون أجازات، ومقابل كشف قيمته 10 جنيهات فقط في عيادة طنطا، و5 جنيهات في العيادات الأخرى، ويُجري التحاليل الطبية بنفسه دون أجر إضافي من أجل أن يوفر على الغلابة، وكما يقول الدكتور مشالي: هم لا يملكون قيمة الكشف أحياناً، كيف يستطيعون إجراء تحاليل طبية.
والدكتور مشالي لم ينس والده الذي أوصاه بالفقراء وهو في فراش المرض، ولم ينس أيضاً رائعة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين "المُعذبون في الأرض"، والتي قرأها عدة مرات من شدة تأثره بها، والتي تُجسد الواقع الأليم الذي كان يعيشه الشعب المصري خلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي، واقع الفقر والمرض والطبقية، واقع حياة المُعذبين في الأرض، في محاولة لتحريك مشاعر من يملكون قدر من الإنسانية لتغيير هذا الواقع.
دروس كثيرة نتعلمها من حكاية الدكتور مشالي مع الغلابة، والتي تبدأ بعيادته التي ربما لم يُجدد أثاثها منذ أسسها عام 1975، وربما لم تُطلى جدرانها منذ سنوات، لكنها عامرة بحب وامتنان مرضاه، ورغم الحياة البسيطة التي يعيشها، والتي تنحصر في التنقل بين عياداته الثلاث في عمل متواصل لأكثر من 16 ساعة يومياً، دون أجازات، إلى أنه يشعر بسعادة بالغة، ويقول دائماً لقد أعطاني الله أكثر مما أتمنى، وأكثر مما أستحق، حالة من الرضا تستحق التأمل، حالة إنسانية تجعلنا نرى أنفسنا أصغر مما نعتقد أمام هذا العطاء الإنساني.
خلال مشاهدتي لمجموعة اللقاءات التليفزيونية التي أجراها الدكتور مشالي، وبصفة خاصة عندما أغرورقت عيناه وهو يتحدث عن بعض الحالات الإنسانية التي طرقت باب عيادته، تذكرت واقعة مر عليها 20 عاماً، كنت أكتب برنامج "رمضان الخير" لإذاعة صوت العرب، وكان يعرض مشاكل واقعية في شكل درامي، وكنت أزور الحالات بنفسي للتأكد من مصداقيتها، وكان من ضمن الحالات عم عبدالجليل، الذي كان يعيش في بيتاَ مهجوراَ لدرجة أنني راودني الشك في صحة العنوان، حيث كان نصف مدخل العمارة مدفوناً في الأرض، نتيجة قدمها، والعنكبوت يُغطي الأسقف والجدران، وقررت دخول العمارة بعد أن أكد لي أحد المارة أنه بالفعل يسكن هنا، لتظهر أمامي فجأة فتاة منكوشة الشعر ممزقة الملابس، يبدو من ملامحها وحركاتها أنها مريضة عقلياً، واشتبكت معي، وأنا أحاول تهدئتها إلى أن ظهر رجل ربما في الستين من عمره، أخذ في تهدئتها، وسألته: إنت عم عبدالجليل، قال لي: نعم، قلت له: احنا من إذاعة صوت العرب، برنامج "رمضان الخير"، فبكى الرجل وكان في حالة لا يرثى لها، واصطحبني للداخل.
في غرفة تطل على الشارع عبر سنتيمترات قليلة باقية من نافذة قديمة دفنها الزمن أيضاً، ورغم اتساع المنزل إلا أنه يخلو من أي نوع من الأثاث فلا يوجد شيء سوى البلاط.
دون أن أسأله بدأ عم عبدالجليل يروي حكايته:
منذ ثماني سنوات كنت أعيش في بيت غير هذا مع ابنتي المريضة عقلياً وزوجتي المريضة، وابني وزوجته، وكنت أعمل في بقالتي التي أمتلكها، إلى أن قرر إبني طردنا من البيت بحجة أن أخته تمثل خطراً على أولاده، ولم نجد مأوى غير هذا البيت المهجور الذي لم يستطيع أصحابه بيعه بسبب ما يتردد حول العفاريت التي تسكنه، فقد كنت أحد ساكني هذه المنطقة وأعرف حكايته، ونرى أحياناً أشباحاً لكنها لا تؤذينا واعتدنا عليها كما اعتادت هي علينا، واكتشفنا أنها أكثر رحمة من البشر!!
على مدار الحكاية لم يتوقف الرجل عن البكاء، وسألته: ماذا تأكل وماذا تشرب؟وكيف تعيش؟، فكشف عن بطنه فإذا به يربطها بشدة بلفافة من القماش، وقال: نأكل ما نجده ليلاً في القمامة، وعندما لا نجد فقد اعتدنا على حزام الجوع.
لدينا الألاف ربما الملايين يعيشون نفس الحياة التي يعيشها عم عبدالجليل، لكن كم دكتور مشالي لدينا؟، وكم نحتاج؟، لهؤلاء المُعذبون في الأرض الذين يعيشون بيننا؟، فالدكتور مشالي لا يملك أموالاً يوزعها على الفقراء، لكنه يملك عِلْمْ يُداوي به مرضاه، وعلى مدار 50 عاماً لم يفكر في عمل ثروة من عمله كطبيب رغم أنه كان يستطيع، فالطبيب الذي يملك نفس الخبرة والكفاءة والشهرة يتقاضى ربما 300 جنية أو أكثر وليس 5 أو 10 جنية من كل مريض.
ربما يعيش على هذه الأرض من يملكون أدوات إسعاد هؤلاء المعذبون في الأرض، لكنهم لا يملكون ما يملكه الدكتور مشالي من حب للخير والعطاء، ونعمة الرضا والقناعة، وربما أيضاً لا يشعرون بنفس ما يشعر به من سعادة ونفس مطمئنة.
كلمة أخيرة لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في رائعته "المُعذبون في الأرض":
إلى الذين يجدون ما لا ينفقون
إلى الذين لا يجدون ما ينفقون
يساق هذا الحديث،
محمد منير
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات