العدالة الجنائية المجتمعية والتصالحية 

العدالة الجنائية المجتمعية والتصالحية 

الباحث - عادل عبدالله حميد

خلال العقود الأربعة الماضية مرت دراسات نظم العدالة الجنائية بمنعطفات عديدة مرتبطة بحركة الإجرام المعاصر ومتغيراته المتسارعة والاتجاهات العالمية المهيمنة على معالجتها، تمت دراسة تلك المتغيرات في سياق الإتجاهات الفكرية التي لم تخرج في مجملها عن الثوابت التي تأسست عليها مفاهيم العدالة الجنائية في أوائل الثمانينات من القرن العشرين.

تناولت الدراسات نظم العدالة الجنائية من حيث وظائفها وإجراءاتها وأجهزتها بمنظور غايته مكافحة الجريمة بمفاهيم تقليدية تقوم على تنفيذ القوانين، مع إشارات متواضعة لحقوق الإنسان داخل نظام العدالة الجنائية.

وكان ذلك في وقت لم تكن فيه حقوق الإنسان من أولويات المجتمع الدولي.

في أواخر القرن العشرين، حظيت  نظم العدالة الجنائية ومكافحة الجريمة بإهتمام الباحثين وطلاب الدراسات العليا، ونشطت الدعوة إلى تعزيز الإجراءات الجنائية السليمة Due Process بتسخير كافة طرق البحث الجنائي العلمي والفني والنفسي والاجتماعي في اكتشاف الجرائم والإثبات، لمواجهة مشكلة الجريمة المتفاقمة من جهة، والاستيفاء بمتطلبات حماية حقوق الإنسان من جهة أخرى ومع تراجع المنظور التقليدي لإنفاذ القوانين وبروز مفاهيم الشرطة المجتمعية.

واتجهت الدراسات نحو التعريف بالشرطة المجتمعية: مفهومها وتطبيقاتها ، داعية إلى الانتقال والدعوة بوضوح لمشاركة المجتمع في تحمل المسئوليات الأمنية التي بدأت  تكاليفها تفوق إمكانات وقدرات الأجهزة الحكومية في كثير من دول العالم. 

كما برزت الدعوة إلى الفكر الوقائي وحل المشكلات واستباق الحدث واللجوء إلى المشاركة المجتمعية لمواجهة الجريمة ومشكلات الأمن، الأمر الذي فتح الباب أمام دراسات العدالة الجنائية المجتمعية.

في أوائل القرن الحادي والعشرين، وفي ضوء التطور الهائل الذي عم استخدامات تقنية المعلومات والاتصالات دخل الإجرام مرحلة جديدة طابعها استغلال تقنية المعلومات والاتصالات في ارتكاب الجرائم وإخفاء معالمها ، مما أفرز أنماطًا مستحدثة من الجرائم الخطيرة فيما عُرِف بالجرائم السايبرانية، والتي اقتضت تعاملاً مماثلاً أساسه تقنية المعلومات والاتصالات الإلكترونية، والتحقيقات الرقمية والأدلة الجنائية الرقمية Digital Evidence وبينة الذكاء الاصطناعي Evidence of artificial intelligence، والتي أدخلت عبارات جديدة لأول مرة في قاموس الجنائيات وعلوم الشرطة. 

في عام 2005 جرى تطوير نظريات جديدة في علم الإجرام وعلم الضحايا وتطبيقات حقوق ضحايا الجريمة في نظام العدالة الجنائية لمواكبة الجرائم السايبرانية  فظهرت نظرية علم الإجرام السايبراني التي ألقت قدراً من المسؤولية على  الأنشطة  المجتمعية في معالجة مشكلة الجريمة والتركيز على حماية الضحايا بصفة خاصة ، كمدخل للانتقال بالعدالة الجنائية من مسئولية الدولة إلى مسئولية المجتمع المحلي الأكثر فاعلية في معالجة المشكلات المحلية.

وطرحت نظرية العدالة الجنائية المجتمعية Community-based Criminal Justice، باعتبارها الأقل تكلفة والأكثر نفعًا للأطراف المتنازعة، إن النظر إلى مشكلة الجريمة والعدالة الجنائية بمنظور الضحايا يفتح الباب واسعًا أمام جميع أعضاء المجتمع في تحمل مسئولية الأمن والعدل بحكم موقعهم في ميكانيكية التضرر من الجريمة.

يبدو من تسلسل الدراسات السابقة في هذا الحقل أنها تأتي منسجمة ومتدرجة ، تدرجًا صادف المتغيرات الأمنية والمفاهيم الاجتماعية والسياسية والتحولات الدولية.

إن النظر إلى الجريمة والانحراف كظاهرة اجتماعية تتطلب المواجهة والمعالجة بآليات المجتمع وأسباب الرحمة والعطف ووسائل المصارحة والتصالح والمشاركة، ولكن من المفترض أن يتم ذلك في سياق القانون وأحكام الشرع وقيم المجتمع.

ويأتي هذا البحث جامعًا للأفكار والمفاهيم سالفة الذكر ليبرز تصورًا متكاملاً لحركة العدالة الجنائية من مرحلة نظام العدالة الجنائية الذي تتعهد به الدولة وأجهزتها الرسمية إلى مرحلة نظام العدالة الجنائية المجتمعية الذي يتعهد به المجتمع فيما يُعرف بالعدالة المجتمعية Community-based Justice.

يتكون نظام العدالة الجنائية التقليدية من أجهزة الشرطة، النيابة، القضاء والمؤسسات الإصلاحية والعقابية، وتعمل هذه الأجهزة وفق قوانين وإجراءات معروفة بتكاليفها المالية الباهظة في معالجة مشكلة الجريمة.

لقد آن الأوان للدعوة إلى تعزيز عمليات العدالة الجنائية المجتمعية على أسس المشاركة المجتمعية من خلال توسيع قواعد المساءلة والمحاسبة واسترداد الحقوق وإجراء التسويات من خلال مجالس الشورى والقضاء الأهلي وإنشاء نظم للعدالة المتوازية Parallel Justice ومناهج العدالة التصالحية Restorative Justice المؤهلة لمعالجة مشكلة الجريمة واقتلاع جذورها على المستويات المحلية، لتتفرغ الأجهزة الحكومية لمواجهة الجرائم الكونية العابرة للحدود الدولية، بكل تداعياتها وتعقيداتها الناجمة من بيئة التقنيات العالية للمعلومات والاتصالات الإلكترونية، الآن وقد أصبح من الممكن والمرغوب فيه الانتقال بالشرطة التقليدية ذات الطابع العسكري العتيق إلى نظام الشرطة المجتمعية.

إن أكثر ما يعزز الدعوة إلى هذا التغيير هو دعوة الإصلاح والمشاركة السياسية التي أقبلت عليها الحكومات والشعوب هذه الأيام عن قناعة وإصرار، فالمشاركة التي يتطلع إليها الناس ليست أداة سحرية تستبدل من خلالها نظام حكم بنظام حكم آخر، بل هي عناصر عديدة تغطي مختلف مناحي الحياة ونظم الإدارة وتشمل التعليم، الصحة، آليات الإنتاج، برامج التنمية وقطاعات الأمن والعدالة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن وظيفة نظام العدالة الجنائية المجتمعية لا تقتصر على معالجة الجرائم الفردية وحالات الانحراف، بل تمتد إلى معالجة النزاعات والمشكلات الأمنية بين الجماعات والشعوب والدول.

وتجدر الإشارة هنا، أنه ورغم وجود تطبيقات العدالة الجنائية والتصالحية في دولة الإمارات العربية منذ أكثر من عقدين، إلا أن المبادرة التي أطلقها المشرع الإماراتي المرسوم بالقانون الاتحادي رقم (17) لسنة 2018 بشأن تعديل قنون الاجراءات الجزائية رقم (35) لسنة 1992 تعد خطوة تشريعية رائدة في المنطقة ولعلها ترسخ مفهوم العدالة المجتمعية وتقدم نموذجًا يقتدى به.

وبحسب المرسوم المشار إليه تم إضافة الباب الثالث، المكون من المواد 332 إلى 385 تحت عنوان الإجراءات الجزائية الخاصة التي تفصل عمليات وغجراءات العدالة الجنائية المجتمعية في جرائم حددها المرسوم.

لعل المشاركة في تحقيق العدل هي أهم عناصر الإصلاح والمشاركة السياسية، وأكثرها وجوبًا وأقربها إلى الأذهان ووجدان العامة، لأنها قابلة للتطبيق على الواقع وملموسة المردود، فالعدالة المجتمعية بهذا المفهوم هي إقحام مرتكبي الجرائم، الضحايا، الأسرة وأعضاء المجتمع في معالجة الجرائم والمنازعات بالتشاور والتفاهم والمساءلة التي تستهدف عدالة الإصلاح والمعالجة الشافية، بعيدًا عن روح الانتقام والزجر وتدابير الردع والتخويف التي لم تحقق نتائجها المرجوة في السياسة الجنائية التقليدية.

ومما يعزز دعوتنا إلى إحداث هذه النقلة، ما جاء به ديننا الحنيف، دين العدالة والرحمة والتوبة والمغفرة والصفح والمحبة: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ " (22) سورة النور

"وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (40) سورة الشورى

العدل هو الإنصاف والتوسط في الأمور بين الإفراط والتفريط، هو أن يزن الناس كل شيء بقسطاس مستقيم، فلا يتظالمون ولا يجور أحد على أحد، لا بالقول ولا بالفعل، ولا يعتدي أحد على أحد لا في المال ولا في الجسد، وأن يسعد الجميع بأمن وافر وحقوق محفوظة وطمأنينة شاملة في الروح والقلب والجسد والمال والعرض والمعتقد.

العدل في الفقه الإسلامي هو التحلي بالأخلاق الفاضلة والورع والتقوى، والعدل بذلك يسع كل معاني الحق والصواب والسلوك السوي ويشمل العدل تمكين أصحاب الحقوق من حقوقهم ورد الأمانات إلى أهلها كما يشمل العدل في النفس ونفوس الآخرين وأعراضهم وأموالهم.

وفي القرآن الكريم والسنة ما يقرر أسباب العدل وضرورة تأمينه باعتبار العدل هدفاً أساساً جاءت الرسالة المحمدية لتحقيقه في مجتمع جاهلي انعدام فيه العدل وساد فيه الظلم والفساد. فكيف يتحقق العدل بصفة عامة والعدل الجنائي علي وجه الخصوص؟ هل يمكن أن يتحقق العدل الجنائي بالتوصل والتشاور بين أطراف الجريمة والتضرر منها؟ هل يمكن للعدالة المجتمعية التصالحية أن يطهر الصدور المريضة من الحقد والحسد والكراهية وسوء الظن والتشفي ونحو ذلك مما تفرزه الجريمة؟ كيف يمكن نشر ثقافة العدالة التصالحية قي المجتمعات المحلية بما يكسبها ثفة العامة؟ تسعى هذه الدراسة معالجة تلك التساؤلات وما يتفرع عنها وصولاً إلى رؤية ثاقبة تعزز إحياء الموروث الحضاري بشكل يواكب متغيرات العصر. 

تنبع أهمية الدعوة إلى الانتقال بإجراءات نظام العدالة الجنائية التقليدية إلى تجربة جديدة من شأنها أن تعين المجتمعات المعاصرة على إيجاد حلول ناجعة لمشكلة الجريمة والانحراف. فالإنسان منذ أن عرف الجريمة كظاهرة اجتماعية معقدة ، ظل يبحث دون توقف عن الحلول وسُبُل العلاج ؛ تارة بحرق المجرمين وتقطيع أجسادهم، وتارة أخرى بتوقيع عقوبات استئصالية أو سالبة للحرية وغيرها من المعاملات المهينة لكرامة الإنسان.

ومع تطور المجتمعات ظهرت بوادر الإصلاح في النظم العقابية التي تدرجت ببطء نحو سياسات عقابية تقوم على الردع والتعويض وتطوير تدابير إصلاح المجرمين وتأهيلهم وإعادة إدماجهم في المجتمعات ، حتى انتهت بعض المجتمعات إلى مناهج التصالح وتسوية المنازعات بالطرق الودية بعيدًا عن نظام العدالة الجنائية التقليدي، وتطبيقات نظام التوفيق Mediation والمساومة حول الدعوة Plea-bargaining.

وقد اقتضى نهج معالجة مشكلات الجريمة بالتصالح والطرق الودية توسيع قاعدة تحمل المسئوليات الأمنية للمجتمعات، المتمثلة في نظم العدالة الجنائية Criminal Justice System، إذ انطلقت أصوات المفكرين في الثمانينات من القرن المنصرم تنادي بضم الهيئات والمنظمات الطوعية ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد إلى منظومة أجهزة العدالة الجنائية.

وقد لاقت الدعوة قبولاً من المنظمات الطوعية والهيئات غير الحكومية NGOs، كما وجدت دعمًا وتحفيزًا من المنظمات الحكومية الدولية منها والإقليمية، حتى حظيت المنظمات الطوعية بمقاعد متقدمة في الاجتماعات والمؤتمرات الحكومية وأصبحت لها صوتًا مسموعًا في منظمة الأمم المتحدة وإسهامات مادية ومعنوية فاعلة في تحقيق العدالة.

لقد حققت المشاركة الطوعية في نظام العدالة الجنائية الجتمعية  نتائج طيبة في بعض الدول، خاصة في مجال الرعاية اللاحقة لطلقاء السجون وتبني الأحداث الجانحين وإعادة الإدماج في المجتمع، ولعل في ذلك مدعاة للمضي قُدُمًا في توسيع قاعدة المشاركة المجتمعية في إجراءات نظام العدالة الجنائية المجتمعية.

إن نمط الحياة العصرية القائمة على بيئة التقنية العالية للمعلومات والاتصالات High Technology Environment والاتجاه بخطى متسارعة نحو ميكنة كافة المعاملات الخاصة والعامة تبشرنا بقدوم عصر المعاملات الإلكترونية الرقمية التي تفرز الجريمة الرقمية.

إن تعميم التقنيات الرقمية يفسح المجال لما يُعرف بالجرائم الرقمية، الأمر الذي يتطلب إجراءات وقائية رقمية ووسائل اكتشاف رقمية وأدلة جنائية رقمية لتحقيق العدالة، ولاشك أن هذه التعقيدات المتوقعة في مجال الإجرام وتدابير مواجهته تتطلب إجراءات غير تقليدية لتحقيق العدالة الجنائية، ولعل المشاركة المجتمعية وتوسيع دور المجتمع المدني والمنظمات الطوعية والانتقال ينظـم العدالة الجنائية الحكومية إلى نظم للعدالة المجتمعية Community-based Justice يكون مناسبًا للمرحلة القادمة، لأن في ذلك توسيع لمصادر المعلومات والبيانات والمعارف المساعدة على الوقاية من الجريمة.

ومما يضاعف من أهمية الدعوة إلى الانتقال بنظام العدالة الجنائية إلى نظام العدالة المجتمعية انسجامها التام مع ثوابت المجتمعات العربية والإسلامية التي عرفت ثقافتها هذا النهج في التعامل مع مشكلة الجريمة، فللمجتمعات العربية في تاريخها القديم نظم القضاء الأهلي وتسوية المنازعات بالطرق الودية والاحتكام لرؤساء القبائل والشيوخ والعُمد ( فيما عرف بالجودية).

إن التكاليف الباهظة التي تتحملها المجتمعات المعاصر للوقاية من الجريمة وملاحقة المجرمين ومعاملة المذنبين فاقت الحدود المعقولة وتجاوزات قدرات الدول والشعوب وانعكست آثارها السلبية على مشاريع التنمية الاجتماعية وأسباب رفاهية الإنسان ، دون أن تحقق النتائج الوقائية المرجوة، مما يحتم البحث عن إجراءات بديلة عوضًا عن الحرب على ظاهرة الجريمة والجريمة الافتراضية على وجه الخصوص لا لتحل مكان نظم العدالة الجنائية التقليدية وأجهزتها، بل لتعمل معها جنباً إلى جنب.

الباحث الإمارتي عضو إتحاد كتاب وأدباء الإمارات عادل عبدالله حميد

التعليقات