مفهوم جديد لاقتصاديات المياه في المنطقة العربية

في منطقة هي الأكثر شحاً مائياً ،يقع الوطن العربي مواجهاً العديد من التحديات بموارده الطبيعية، وعلى رأسها قضية شح المياه العذبة المتجددة.، وإزاء ذلك الواقع الصعب للوضع المائي العربي، وبخاصة في دول تشهد نزاعات وصراعات على المياه من أجل البقاء أولاً ،وتلبية مطالب القطاعات التنموية الاقتصادية ثانياً ،وتحقيق الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي ثالثاً ،تأتي أهمية الحفاظ على مواردنا المائية الشحيحة وتنميتها بطريقة متكاملة ومستدامة.

ولا يمكن تحقيق الإدارة المتكاملة والمستدامة لهذا المورد الحيوي، دون النظر لاقتصادياته سواء كانت تكاليف الإنتاج أو العائد الاقتصادي من القطاعات المستخدمة لهذه الموارد، ولكي تتضح الصورة أكثر قليلا ،دعني أسرد للقارئ الكريم بعض الحقائق عن موارد المياه العربية.

يوجد بالوطن العربي العديد من مصادر المياه ،منها موارد المياه التقليدية مثل :الأمطار والمياه السطحية كالأنهار والبحيرات العذبة والمياه الجوفية ،وتمثل نحو 92%. غير أن 70% من الأنهار العربية تأتي من خارج المنطقة، وتعتبر الدول العربية دول مصب، وهو ما يجعل لدول المنبع بعض الميزات الجيوسياسية في التحكم في هذه الموارد، والخلاف الحادث على تقاسم مياه نهر النيل يعد نموذجا لذلك.

وهناك الموارد المائية غير التقليدية مثل: التحلية وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالج ،وهي تمثل نسبة 8% من إجمالي الموارد المائية المتاحة بالمنطقة. وينتج الوطن العربي نحو ستة مليارات متر مكعب من مياه التحلية متصدراً بذلك الإنتاج العالمي بنسبة تصل إلي حوالي 60%. غير أن صناعة التحلية مكلفة وتستخدم كميات كبيرة من الطاقة ناهيك عن بعض الآثار البيئية السلبية نتيجة تصريف مياه المحلول الملحي الناتج عن التحلية في البحار أو الخلجان ،مما يؤثر على البيئة البحرية في هذه المناطق.

وفي الوقت الحالي ،لا يتم إعادة استخدام سوي 25% من إجمالي مياه الصرف الصحي المعالج في المنطقة، وذلك بسبب الصعوبات الفنية والاقتصادية؛ نتيجة عدم القدرة على معالجة هذه الموارد بالدرجة الكافية ؛لإعادة استخدامها بأمان في القطاعات المختلفة ،وعلى رأسها الإنتاج الزراعي والحيواني. 

ونتيجة لزيادة عدد السكان ،فقد وصل متوسط نصيب الفرد في عام 2016 إلي أقل من 500 متر مكعب ،وهو ما يجعلها في مصاف الدول الفقيرة مائياً. ،ناهيك عن التحديات الأخرى التي تواجهها هذه الموارد من تلوث وهدر وسوء استخدام.

ويعتبر القطاع الزراعي هو القطاع الأعلى استخداما للموارد المائية في المنطقة بنسبة تتجاوز 80% ،في حين أنه لا يساهم في إجمالي الناتج القومي العربي بأكثر من 4% ،وفقاً لإحصائيات المؤسسات الدولية.، ويعمل في القطاع الزراعي حوالي 27% من إجمالي القوى العاملة في المنطقة ،وهو ما يجعل دخل هذه الفئة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصادر المياه المستخدمة في القطاع الزراعي. ،كذلك يلعب القطاع الزراعي دوراً هاماً في الاقتصاديات العربية ،نظراً لمساهمته في تحقيق الأمن الغذائي ،وتوفير المواد الأولية للعديد من الصناعات التحويلية ،لذا وبالرغم من كونه المستهلك الأكبر للمياه إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنه ،ولكن يجب النظر إلي حسن إدارة الطلب على المياه في هذا القطاع.

 ومن المتوقع أن يصل العجز المائي العربي إلي حوالي 150 مليار متر مكعب بحلول عام 2030، كما أن الاستثمار في تنمية وتطوير قطاع المياه وزيادة الإنتاج يستلزم استثمارات رأسمالية ضخمة ،وكذلك نفقات تشغيلية وطاقة قد تتجاوز قدرة بعض الدول العربية على تدبيرها. 

ويرتبط أمن المياه بأمن الطاقة والغذاء بشكل كبير مما جعل منها مورداً استراتيجياً قد يتجاوز في أهميته الاقتصادية أهمية النفط أحياناً ،وخصوصاً في ظل الزيادة المضطردة في الطلب عليها ؛نتيجة زيادة عدد السكان أو التنمية الاقتصادية المتسارعة ،وكذلك تأثير التغيرات المناخية على هذه الموارد في المستقبل، لذا فإن الاهتمام بموارد المياه العربية والحفاظ عليها ودراسة اقتصاداتها إنتاجاً واستخداماً لم يعد ترفاً بل ضرورة حتمية.

وقد تلعب الموارد المائية والصراع عليها في العقد القادم الدور الأبرز في رسم خارطة القوى السياسية في المنطقة. وعلى المختصين والعلماء والباحثين يقع الدور الأكبر في  دراسة العلاقة بين منظومة المياه والموارد الطبيعية الأخرى والغذاء والطاقة واستنباط تقنيات لإنتاج المياه أو إعادة تدويرها تكون أقل تكلفة وأعلى كفاءة.

ثم تأتي الكفة الأخرى للميزان المائي ،وهي الطلب على المياه وخصوصاً في قطاع الإنتاج الزراعي والحيواني الأكثر استهلاكاً بهدف تعظيم الناتج من كل نقطة مياه ،ومضاعفة الإنتاج منها من خلال طرق الري الحديثة أو استخدام طرق الإنتاج الزراعي ذات الكفاءة العالية في استخدام الموارد المائية.

كما يجب توطين صناعة التحلية في منطقة تنتج نحو 60% من الإنتاج العالمي.، وهو أمر في منتهى الأهمية، ومن هنا تأتي أهمية مبادرة صاحب السمو ولي عهد أبوظبي بالبدء في مشروع تجريبي؛ لتقييم التقنيات الحديثة في التحلية باستخدام الطاقة المتجددة الصديقة للبيئة ،والذي أعلنت نتائجه الأولية في المنتدى العالمي للمياه في أبوظبي في يناير 2017 ،والتي تشير إلي تقليل استخدام الطاقة باستخدام هذه التقنيات الحديثة إلي حوالي 3,2 كيلو وات ساعة للمتر المكعب مقارنة بالاستهلاك الحالي في طرق الأغشية ،والتي تتراوح من 5-6 كيلو وات ساعة للمتر المكعب، أو الطرق الحرارية ،والتي تتراوح بين 16-25  كيلو وات ساعة للمتر المكعب، وهو ما يعتبر طفرة وإنجاز كبير.

لذا ؛فإن الاستثمار في العلم أولاً لتطوير تقنيات حديثة ،والاتجاه نحو إدارة الطلب على هذه الموارد الحيوي الهام ثانياً من خلال الترشيد، وإعادة الاستخدام واتخاذ الإجراءات القانونية وتوعية المستخدمين ،قد يكونا هما الحل الأمثل في المستقبل.     

د. محمد عبد الحميد داود             

مستشار الموارد المائية، الإمارات العربية المتحدة

التعليقات