المربعات الرمادية

في ذكرى ميلاد الرئيس جمال عبد الناصر أثارت التعليقات التي تداولها البعض بهذه المناسبة تفكيري وفتحت باب النقاش في ذهني، وذلك لاختلاف التعليقات ما بين مهنئ ومقدم للإنجازات، ومنها من هو ساخط ومعدد لكل المساوئ.

ويعمد كل طرف من هذه الأطراف إلى تقديم الأدلة التاريخية التي يراها تؤكد رأيه والتي تتمحور حول مقالات أو دراسات لسياسيين تتحدث عن فترة الرئيس أو شهادات من مواطنين نُكل بهم في عهده أو العكس ممن تنعموا بالعدل في زمنه.

 هنا لا يعنيني الاسم إطلاقاً، فما حدث مع الرئيس جمال عبد الناصر حدث مع الرئيس أنور السادات ومع اللاحقين، ومنهم شخصيات عامة صارت من المحرمات علينا نقدها سواء سلباً أو تقديرها إيجاباً! وأجد أننا من المنطقي ألا نتفق على أحد.

واسترعى انتباهي سن من يتحدثون، فإذا كان من المنطقي أن يتحدث المعاصرون لتلك المرحلة، حيث إن لهم شخصيتهم المستقلة التي تؤهلهم لتكوين رأيهم لما عاصروه، فإن من الغريب أن تجد من لم يعيشوا تلك المرحلة ويعشقون هذا الرئيس أو ذاك أو تلك الشخصية العامة لدرجة التعصب والسب والقذف للمختلف في الرؤية معهم!!!

هنا أتساءل هل تاريخنا منصف وعلى حق في قصصه وأحداثه؟! بل هل يجب أن يكون سرد التاريخ واحداً لا يختلف عليه اثنان؟ هل التاريخ منزل من عند الله أم هو سرد بشري لأحداث من وجهة نظر تحكمها أحياناً مصلحة مدون التاريخ؟ وماذا يجب علينا نحن المواطنين أن نفعل؟ هل يجب علينا أن نستشهد بما يكتبه هذا المؤرخ حتى لو أشار البعض إلى توجهاته التي كانت معادية لإحدى الشخصيات على سبيل المثال؟ وهل يكون المؤرخ حيادياً ونزيهاً دائماً؟ وكيف نبحث لنجد الحقيقة في التاريخ؟ هل نبحث عما يؤكد نزعتنا لمعاداة أحدهم أم نبحث بمنتهى الحيادية لنقف على أرض ثابته ولو بالمبدأ الذي يقول (لا توجد ملائكة على الأرض) ولنذكر أنه عند عرض مسلسل السيدة العظيمة أم كلثوم خرجت أقلام لتؤكد أن المسلسل قدم لنا قديسة وأغفل أنها إنسانة لها أخطاء ومساوئ؟ فماذا علينا أن نفعل هل نأخذ جانب المربعات البيضاء أم جانب المربعات السوداء؟ ألا يمكن أن نجد مربعات رمادية تحمل من هنا وهناك، ما يجعلنا نردد المقولة التي اعتدنا ترديدها وأشك بتصديقنا لها (له ما له وعليه ما عليه) وهنا اتسع باب النقاش داخلي ليمتد لبناتي هل يجب أن يتشربن من أفكاري وأرائي فيما يخص التاريخ وما يحويه من أحداث وآراء تخص مراحل عاصرتها وفي حين لم يعاصرنها؟ هل يجب عليّ أن أقتل فيهم موهبة البحث وجمع المعلومات لإيماني بما أشعر به حتى لو كنت أؤمن به لمجرد أنني عاصرته؟

في الحقيقة، أرى شباباً يكرهون أناساً بعينهم وما بينهم من زمن يعد جيلاً كاملاً، وأرى العكس أيضاً لمن يقدسونهم ولم يعيشوا يوماً في عهد أي منهم! كذلك أرى البعض يتحدث بكل إيمان ويقين عن شخصية من الشخصيات ويؤكد أنه لا يوجد لها مثيل، فقط لأن والده أكد له ذلك! فكيف نقدم لأبنائنا وبناتنا دليلاً يرشدهم يمكنهم من العمل على الحكم على الشخصية بمنتهى الشفافية ونسمح لفكرهم الشخصي أن يتحرر من محبتنا أو كراهيتنا لأين من كان؟ وهنا نتحدث عن المقدسات من البشر والذين انتشروا في مصر في الفترة الأخيرة لدرجة أن تتداول عبارة عفواً أجدها مقيته وعنصرية حينما يتحدث البعض عن البعض الآخر بمفهوم (أنقى من فينا أو أنظف من فينا أو حذاء فلان برقبة من في البلد أو أشجع الشباب أو الحرائر من النساء) أين لنا بهذا اليقين؟! وإن كان بالمواقف فألا نجد أن تمادينا في إلباس من نحبهم ثوب الملائكة يضرهم قبل أن ينفعهم، ويجعلهم إما يخطئون بإيمان من ينصفهم في كل الأحوال أو يخطئون وتكون عاقبتهم وخيمة فأصبح الخطأ عبئاً كبيراً عليهم.

والتاريخ كما يقولون لا يرحم وتلك المقولة الحق في كل هذا اللغط الذي نعيشه، فالتاريخ قدم لكل من فيه أكثر من وجه وليس من بينهم من لم يخطئ في قرار أثر على شعبه أو محبيه، لذلك لماذا لا نرى المربعات الرمادية لنجلس فيها بعضاً من الوقت نتحرر من ملائكية البعض وشيطنة البعض الآخر، إنني اليوم أتحدث عن جيل المدارس الذي تفتحت أعينهم في سنهم الصغير على أحداث عصيبة بالفعل مرت بها البلاد، وعلينا دور ألا نجعلهم نماذج مستنسخة منا، وأن نجعلهم يعيشون زمنهم الحالي، حتى يكونوا رأيهم الشخصي عنه، أما ما لم يعاصروه فعلينا عند أي سؤال أن نفتح لهم مكتبة التاريخ المتعددة الآراء ليستقر رأيهم على ما استخلصوه بأنفسهم، وأن نجعلهم يكتبون تاريخهم المعاصر بأيديهم لا بأيدي بشر يراهم بعضنا قديسين والبعض شياطين الإنس، فدعونا نطلب لهم التحرر منا، وإن احتاجونا لنسجل رأينا فلنسجله ليكون في صف العديد من الآراء، حتى لا يكونوا قطيعاً من دون فكر، ولنسمح لهم دخول المنطقة الآمنة ولو لفترة من الوقت ولنعتبر المربع الرمادي غرفة الهدوء والبحث والاستقرار لتكوين شخصية مستقلة الملامح والفكر.

نجوان ضبيع

كاتبة مصرية

التعليقات