الحرث في البحر

يؤكد الجميع أن الصحافة هي السلطة الرابعة في أي دولة لما لها من قوة وتأثير في المجتمع، فما بالنا بقوة أخرى ناعمة تقوم بالتأثير والتغيير نفسه لكن عبر استخدام أقوى الوسائل المغرية والمحببة للجميع، وهنا نتحدث بالطبع عن الفن وتحديداً الفن السابع.

فما تقدمه السينما من أفكار معلبة في ورق سوليفان يجعلنا نتساءل هل أدى الفن دوره في إصلاح المجتمعات، أم أنه اكتفى بتقديم الواقع مهما كان سيئاً؟ وهل قدم الفن رؤيته الخاصة بغض النظر عن الأنظمة السياسية الموجودة أم كان بوقاً لها ومنفذاً ومروجاً  لسياساتها؟!

فإذا بحثنا عن أفضل مثال يجيب عن تلك الأسئلة فأننا لن نجد أفضل من فيلمي "مراتي مدير عام" و"تيمور وشفيقة"، واللذين يجسدان حقبتين سياسيتين مختلفتين كل الاختلاف بينهما أكثر من أربعة عقود شهدت تغييرات جمة في الطبقات الاجتماعية والحالة الاقتصادية والسياسية.

وعند المقارنة بين الفيلمين الذي يفصل بينهما 41 عاماً (مراتي مدير عام 1966) و(تيمور وشفيقة 2007) نجد أن الأول هو الفيلم التقدمي بينما يجسد الثاني انتكاسة لعملية تمكين المرأة رغم ما حققته من مكاسب عديدة خلال هذه الفترة.

ويناصر فيلم مراتي مدير عام عمل المرأة، بل ويمنحها الدعم الكامل عندما تصبح رئيساً للزوج الذي لم يألو جهداً في تقديم الدعم لشريكة حياته، ولم يكتف الفيلم بذلك بل قدم تشريحاً لطبيعة الرجل ونظرة المجتمع ونظرته لنفسه في هذا الموقف، ويظهر الفيلم الدعم للزوجة فكانت النهاية تقبل الزوج لزوجته كمديرة بل وسعيه ليكون في المصلحة التي ترأسها تأكيداً لتفهمه ودعمه لها.

 وعلى النقيض من ذلك نجد أن تيمور وشفيقة يتحدث لنا عن علاقة استبداد وتسلط بزعم الحب ورغبة في القهر بزعم الخوف على الحبيبة حتى أنها عندما تركته صارت وزيرة!! وعند عودته لها لا يتقبلها في منصبها الجديد بل ويحقر من شأنها ويربط بينها كوزيرة وبين هديته لها (عروسة راجل) فهو يراها بهذا الشكل، ويربط بين نوع عملها وبين أنوثتها وكأنهما لا يجتمعان، وفي النهاية يؤكد لنا المؤلف أن عليها الاستسلام لرغبته بدافع الحب أيضاً، وأن تتخلى عن الوزارة وترجع طيعة بين يديه تحقيقاً لرغبته وتنازلها بعاطفة لا تندم عليها في الفيلم!!

وهنا نتساءل هل كان النظام السياسي في الستينيات يدفع المرأة للعمل نتيجة حالة الحرب ووجود الرجال في ساحات الدفاع عن الوطن، وهل قدم الفن في هذا الفيلم فكرة النظام ورغبته؟! أم أنه بالفعل كان الفن يجسد الفكر السائد في الستينيات والمتمثل في المساواة والعدالة في الفرصة بين الجميع حتى ولو صار الرجل مرؤوساً من قبل زوجته؟

وهل ينطبق هذا التصور على فترة فيلم تيمور وشفيقة في الألفية الجديدة على الرغم من كفاح الحركة النسائية في تلك الفترة وما قبلها، وخروج المرأة بأكثر من فوز مثل الترشح للانتخابات والكوتة في المجالس التشريعية ووجودها في ساحات العمل؟ أم أن النظام هنا كان له وجهة نظر أراد أن يمررها عبر الفن الناعم باستخدام ممثلين لهم شعبية وجاذبية لدى المجتمع، حيث أراد أن يرسخ فكرة أولوية الرجل والمنزل وأولوية النجاح له والتبعية المقدسة له على الرغم من التميز وكأن الزواج والحب لا يعادلهما أي نجاح!

 في الواقع لن نبحث هنا حول هل السينما رصد للواقع أم تغيير له؟! وكأننا نتحدث حول البيضة الأول أم الفرخة! دعونا نؤكد أن يكن الفن من أجل التغيير للأفضل فهو فن "بزنس" ليس له هدف سوى المادة فقط، بينما فيلم مراتي مدير عام رصد واقعاً بالفعل كان موجوداً في الستينيات بل وأوجد له عقدة ذات حساسية شديدة متمثلة في علاقة الزوجة والزوج في العمل، ورسم شخصية في غاية النضوج، وهنا قدم فكرة التغيير للمجتمع بتقديمه للنهاية التي لم يحدث مثلها في فيلم تيمور وشفيقة، بل هنا سرد لنا واقعاً موجوداً بالفعل، لكنه ساهم في استمراره وتقديم مبررات له وقدمها لنا بألوان مبهرة حتى نتقبلها.

وهذا يدعونا إلى النظر في أهمية الفن ودوره المؤثر على المجتمعات والذي يتقدم نحو تغييرها بمنتهى النعومة وكأنه السم في العسل لنجد في النهاية من يتبنى الفكرة وينشرها لتصير فكراً مجتمعياً، نبذل بعد ذلك الكثير من الجهد والوقت لتغييره وكأننا نحرث في البحر.

لذلك إذا كان الفن مرآة الشعوب كما يقولون، فليكن مرشدها للأفضل فهذا هدف أسمى بكل تأكيد.

نجوان ضبيع

كاتبة مصرية

التعليقات