المشروع العربى.. مسألة وجود

المشروع العربى.. مسألة وجود

د. محمد يونس

تنعقد القمة العربية الخميس المقبل بالبحرين وسط تحديات وظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد، تحتاج إلى رؤية عربية واضحة، وإذا كان المشروع العربى يعتبر فريضة العصر الغائبة على نحو ما أوضحنا فى المقال السابق، فإن بلورة هذا المشروع تتطلب مكاشفة حقيقية لطبيعة المعوقات والتحديات التى تحول دون تحقيقه على أرض الواقع بخاصة فى ظل التطورات الإقليمية والدولية التى تنذر بأفول النظام الدولى الراهن الأحادى القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب، والتفاعلات الجارية فى الإقليم وأبرزها اتساع الفجوة بين طموحات الشعوب العربية والنظام الإقليمى العربى فيما يتعلق بمواجهة تحديات الأمن العربى بشكل عام وأسلوب التعامل مع القضية الفلسطينية بشكل خاص والتى أصبحت تتصدر المشهد ليس فقط على المستوى العربى وإنما أيضا على الصعيد العالمي.

إن بلورة مشروع عربى يحتاج إلى اغتنام الفرصة السانحة بدءا من الموارد الطبيعية ومرورا بالأسس الفكرية والروابط التاريخية المشتركة وانتهاء باصطفاف الرأى العام العالمى مع قضية العرب الجوهرية، وذلك لبناء مرتكزات قوية وفاعلة للأمن الإقليمى العربي، والاتفاق على أولوياته، وتحقيق تعاون وتكامل اقتصادى جدي. ولا يمكن التعاطى الجاد مع هذه القضايا بدون إعداد خطة عربية واضحة، ومتفق عليها وقابلة للتنفيذ، تجاه عملية السلام، واستعادة الأراضى العربية المحتلة، والتنمية المستدامة والتكامل الاقتصادي.

إن البداية الحقيقة لمشروع عربى متكامل ومستدام ينبغى أن تستند على أسس تعاون اقتصادى عميق وراسخ ينبع من مصالح الشعوب العربية بشكل متوازن، ويتطلب ابتكار أساليب من خارج الصندوق، ويمكن فى هذا السياق الاستفادة من تجربة مجلس التعاون الخليجى كتجربة ناجحة، وتطوير أنماط من التعاون الإقليمى مثل التعاون المصرى العراقى الأردني، والاتحاد المغاربي، وبحث إمكانية جمع كل هذه الأنماط فى إطار جامع يمهد للسوق العربية المشتركة التى طرحت فكرتها بعد سنوات قليلة من إبرام معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين دول الجامعة العربية عام 1950، ثم تبلورت الفكرة فى عام 1959. وعلى مدى70 عاما صدرت قرارات عديدة فى هذا السياق، ولكن غالبيتها لم ينفذ. وتشير الكثير من الدراسات إلى أن أسباب ذلك، تعود إلى عاملين أساسيين، الأول أن نموذج التنمية العربى قد ركز على الأولوية المطلقة لمبدأ السيادة الوطنية كأساس للنظام، وهو أمر يمكن تفهمه ولكنه ساهم فى عرقلة العمل العربى المشترك، والثانى هو الصراعات العربية ــ العربية.

وإذا كان مبدأ الأولوية للسيادة الوطنية لم يمنع تحقيق تكامل أو وحدة اقتصادية بين الدول الأوروبية ومجموعة الآسيان، فإن الصراعات العربية -العربية تحول دون ذلك مما يجعل من مسألة تصفية هذه الصراعات أولوية مطلقة. والمفارقة الغريبة فى هذا الشأن أنه قد بدأت بالفعل تصفية بعض الصراعات العربية -الإقليمية، حتى قبل الوصول إلى حل حقيقى لجوهر الصراع، بينما لا تزال الصراعات العربية ــ العربية مستمرة فى أكثر من موقع، وزاد عليها ظهور نوع آخر من الصراعات داخل بعض هذه الدول (مثل سوريا وليبيا واليمن والسودان).

ولكن التجربة التاريخية تثبت أن النظام العربى قادر على احتواء هذه الصراعات، (حدث ذلك مثلا بعد نكسة 1967) ومما يزيد من التفاؤل لإمكان تصفية هذه الصراعات، التوجهات للتهدئة وعقد المصالحات التى شهدته المنطقة أخيرا بين الدول الشقيقة والصديقة مثل المصالحات العربية -القطرية، والمصالحة المصرية ــ التركية، والمصالحة السعودية ــ الإيرانية، والمصالحة العربية- السورية.

ولكن المأساة الحقيقة تكمن فى أن تراجع العمل العربى المشترك لم يكن فقط على المستويات الرسمية وإنما أيضا على مستوى النخب الأكاديمية والثقافية التى كانت تقود بالفكر والبحث العلمى، التوجه نحو التكامل والأمن القومى!

وهو الأمر الذى يتطلب بذل المزيد من الجهود من جانب النخب الفكرية والثقافية العربية انطلاقا من الوعى بخطورة هذه الصراعات على وجود النظام الإقليمى العربى ذاته، وذلك بتقديم رؤى لتصفيرها وآفاق جديدة للعمل العربى المشترك، لأن استمرار هذه الصراعات وعدم التوصل إلى بلورة مشروع عربى موحد قابل للتنفيذ، قد يهدد باحتمال ذوبان النظام الإقليمى العربى ككل فى إطار مشروع شرق أوسطى أوسع بدأ الإعداد له منذ عقود، وتجهز الساحة حاليا لتنفيذه!

التعليقات