شاهدنا تبادل الرسائل الليلية عبر الصواريخ والطائرات المسيرة بشكل دقيق ومحسوب بين أصحاب مشاريع الهيمنة على المنطقة، والتى تحمل فى طياتها أهداف كل طرف، وكأنها أحد أفلام الأكشن بإخراج أمريكى متقن وسط ترقب وذهول وربما سخرية المتابعين. كشفت الوقائع للمشاهد العادى ليس فقط عن أوراق اللاعبين المفخخة وإنما أيضا عن مفارقة أكثر غرابة وهى أن أولئك اللاعبين أتوا من أقاصى المنطقة شرقا وغربا فضلا عن أبناء التيه والشتات المحتلين، بينما يغيب أصحاب الأرض عن الملعب مما جعل غالبية أبناء المنطقة مجرد متفرجين على فرق أجنبية!
حملت المٌسيرات الصاخبة رسائل تحذيرية تتعلق بحدود وقواعد الاشتباك وحفظ ماء الوجه تحت شعار (إن عدتم عدنا) وحاولت إسرائيل كعادتها الاستفادة القصوى مما حدث وفى الوقت نفسه استمرت فى مجازرها ضد الفلسطينيين بمشاركة أمريكية بالسلاح والفيتو وغض الطرف عن المزيد من الإبادة الجماعية بخاصة فى رفح.
أما الرسالة الأقوى التى جاءت بين السطور، فهى خطورة غياب المشروع العربى مما شجع عدة مشاريع على التنافس فى السيطرة على المنطقة، ومنها المشروع الصهيونى الذى لا ينتمى بأى شكل من الأشكال للمنطقة والمسنود بالدعم الغربى، والمشروع الإيرانى الذى ينطلق من رؤية طائفية ضيقة تصنفه بالضرورة فى خانة مشروع أقلية، أما أصحاب الأرض الأصليون واللغة الواحدة والتاريخ المشترك والمذهب الدينى الواحد فهم غائبون أو مغيبون!!
إن بلورة المشروع العربى أصبح الفريضة الغائبة فى هذا العصر ليس فقط لمواجهة المشاريع الأخرى وإنما أيضا للحفاظ على مصالح الأمة العربية ومقدراتها وحماية أمنها واستقرارها وتحقيق ما تصبوا إليه شعوبها من تقدم ورقى، فى عالم تتزايد فيه التكتلات الكبيرة كضرورة للمنافسة والبقاء.
إن هذا المشروع الذى ينبغى أن يبنى على أهداف ورؤية واضحة حول أهم القضايا والتحديات التى تواجه الأمة العربية ويستجيب لتطلعات أبنائها، يحتاج الى تشكيل البيئة الخصبة لاحتضانه جماهيريا وتوفير المستلزمات التى تكفل له النجاح. لذا لابد أن يكون المشروع المأمول منتميا لتاريخ المنطقة العربية وجغرافيتها ودينها وثقافتها، وينبثق عن مكوناتها السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية.. مشروع مدنى ديمقراطى وسطى يتجاوز كل الانتماءات الفكرية والأيديولوجية والتحيزات الضيقة لمصلحة الشعوب العربية.
يتطلب ذلك أن ينبع أساسا من النخب الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويتبلور كمشروع حضارى واضح الأهداف والمحاور والمعالم الوسائل والأساليب، ويبنى على ما تحقق من خطوات على مختلف الأصعدة منذ ظهرت الفكرة مع تأسيس جامعة الدول العربية فى عام 1945 والتى نص ميثاقها على هذا التعاون والتكامل السياسى والاقتصادى، ومواجهة المعوقات التى حالت دون تحقيق الأهداف. وقد يقتضى ذلك العمل إعادة ترتيب أوضاع الجامعة العربية لتصبح صاحبة قرار على المستوى العربى. كما يتطلب توافر الإرادة السياسية وهى بالتأكيد قائمة لدى قادة الدول العربية الذين برهنوا فى أكثر من مناسبة على رغبتهم فى العمل العربى المشترك.
إن البعد الاقتصادى ينبغى أن يكون سابقا للبعد السياسى ومقدمة ودافعا له، حيث تتوافر لدى الوطن العربى الكثير من المعطيات التى تؤهله ليكون قوة إقليمية كبرى مؤثرة فى التوازنات الدولية، على سبيل المثال تبلغ مساحة الأراضى القابلة للزراعة بالدول العربية 197 مليون هكتار، ومساحة المراعى الطبيعية 376 مليون هكتار، فضلا عن نحو 37 مليون هكتار من الغابات، ويعد الوطن العربى سوقاً واسعة قوامها نحو400 مليون نسمة، وهى مؤهلة لتحقيق التكامل الاقتصادى، بما لديها من ناتج محلى إجمالى للدول العربية بلغ 3.5 تريليون دولار فى عام 2023 وفقا للمؤسسة العربية لضمان الاستثمار.
كما بلغت الاحتياطات المؤكدة من النفط بالوطن العربى، حتى العام 2021، نحو 3.719 مليار برميل، بنسبة 55.2% من إجمالى الاحتياطى العالمى المؤكد، بينما بلغت احتياطات الغاز الطبيعى 2.55 تريليون متر مكعـب، بنسبة 26.9% من الاحتياطى العالمي. (التقرير الاقتصادى العربى، 2022)
ولكن للأسف هذه المعطيات لا تترجم فى شكل تكامل عربى يجعل من الوطن العربى قوة اقتصادية لها فعالية على المستوى العالمى مثل التكتلات الاقتصادية الدولية الأخرى... لماذا؟ هذا موضوع لمقال آخر!
التعليقات