التحقيق الجنائي الحديث - تحديات عن بُعد

التحقيق الجنائي الحديث - تحديات عن بُعد

الباحث - عادل عبدالله حميد

تعتبر عمليات التحقيق الجنائي وجمع الاستدلالات من أهم إجراءات العدالة الجنائية وأكثرها حساسية، باعتبارها مفتاح الدخول إلى ساحات العدالة وكفالة الحقوق، والسبيل إلى برامج مكافحة الجريمة والوقاية منها.

فهي فوق ذلك كله معيار لقياس كفاءة الأجهزة التي أنيطت بها هذه المسؤولية الجسيمة، ومدى رضا المجتمع عن تلك الأجهزة التي تكلف الدولة مبالغ مالية طائلة.

للتحقيق الجنائي وجمع الاستدلالات قوانين تحكم إجراءاته وتنظم قواعده وأساليبه الفنية منها والإدارية، وذلك تحسباً لما قد ينجم عن تلك الإجراءات من إهدار للعدالة أو إعتداء على حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

تتخذ إجراءات التحقيق وجمع الاستدلالات – أحياناً – ضد أشخاص تفترض براءتهم حتى يثبت العكس، فهي بذلك تشكل خطراً على حرية الفرد وكرامته، لذا جاءت قوانين الإجراءات الجزائية وقواعد البينة لتنظيم تلك الحقوق وتحقق الموازنة بين حقوق المتهم وحقوق ضحايا الجريمة والمجتمع بصفة عامة.

التحقيق الجنائي هو: الإجراءات القانونية والإدارية والفنية التي تتخذها سلطة رسمية ذات اختصاص بقصد كشف الجريمة والتعرف على الجناة والمتضررين من الجريمة وجمع الأدلة التي تحقق العدالة الجنائية.

وتتكون إجراءات التحقيق الجنائي من مجموعة عناصر عمل نظامية متداخلة ومتكاملة بعضها مع بعض تعمل في تنسيق وانسجام من أجل مصلحة العدالة الجنائية . ويختلف التحقيق Investigation  عن المقابلة والاستجواب Interview and interrogation

فالمقابلة هي إجراءات ترمي إلى الحصول على المعلومات المتعلقة بتفاصيل الجريمة المرتكبة من أشخاص يملكون تلك المعلومات بهدف: 

- الحصول على حقائق قيمة .

- استبعاد البريء .

- التعرف على الجاني .

- الحصول على الاعتراف .

أما الاستجواب  Interragotion: فهو إجراء يرمي إلى ربط المعلومات التي وفرتها المقابلة بشخص الجاني، إلا أن المقابلة والإستجواب يعدان من عناصر التحقيق متى تعلقا بمسائل جنائية.

•   من هو المحقق: اصطلاحاً - المحقق هو أحد أفراد سلطة إنفاذ القوانين ، كلف باتخاذ جميع الإجراءات القانونية والإدارية والفنية المؤدية إلى كشف الجريمة والتعرف على الجناة وإلقاء القبض عليهم وجمع الأدلة ومعاونة المتضرر من الجريمة في الخروج من أزمته . قد يكون المحقق فرداً أو جماعة تأخذ شكل لجنة أو فريق حسبما تقتضي طبيعة الجريمة وظروف ارتكابها . والمحقق عموماً هو ذلك الشخص أو الجماعة المكلفة بموجب قانون ساري المفعول بجمع الحقائق والأدلة من أجل بلوغ خمسة أهداف هي: 

1-    اكتشاف الجريمة قبل أو أثناء أو بعد وقوعها .

2-    معرفة هوية الجناة و اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة بشأنهم .

3-    جمع الأدلة التي تساعد على تحقيق العدالة الجنائية .

4-    معاونة المتضرر من الجريمة لإعادة أوضاعه إلى طبيعتها .

5-    تطبيق قانون الإجراءات الجنائية في المرحلة التي تسبق المحاكمة.

أما قانوناً فإن المحقق هو فرد أو فريق من أفراد شرطة الجنايات أو النيابة أو القضاء منح سلطة بالتحقيق بالأصالة أو الوكالة وفقاً لقانون الإجراءات الجنائية، أو القوانين الخاصة.

القوعد العامة للتحقيقات الجنائية

بدأت محاولات اكتشاف الجرائم وملاحقة مرتكبيها بإجراءات التحقيق والمحاكمة منذ عرف الإنسان الجريمة، وظلت تلك المحاولات تنمو وتتطور مع تطور المجتمعات وتعدد أنماط الجرائم وأساليب ارتكابها. 

كانت محاولات اكتشاف الجرائم والتحقيق فيها في بداياتها تتم بأساليب وطرق أشبه بأساليب ارتكاب الجرائم والعقوبات التي كانت سائدة آنذاك.

  فقد كان التخمين والدجل والشعوذة أحياناً والضرب والتعذيب أحياناً أخرى هي الإجراءات المتبعة للوصول إلى الحقيقة. ثم انتقل التحقيق وإجراءات ملاحقة مرتكبي الجرائم إلى مرحلة الاعتماد على الشهود وتتبع آثار الأقدام والفراسة وغيرها من القدرات والمهارات الفطرية التي توفرت لدى بعض الأفراد والقبائل.

ومع تطور الإنسان وتوفر أسباب العلم والمعرفة ، دخلت الجريمة مرحلة استغلال مخرجات العلوم والمعرفة في ارتكاب الجريمة لتصبح الأسلحة النارية والمستندات والمواد الكيميائية والبيولوجية أداة وعنصراً من العناصر المكونة للجريمة. 

لذا لجأ المحققون إلى الإستفادة من ذات الوسائل والأسباب في إجراءات البحث وملاحقة المجرمين ، فكانت ظاهرة المختبرات الجنائية وطرق التحقيق الجنائي الفني التي انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين. 

وفي أواخر القرن العشرين ، ظهرت تقنية الحاسب الآلي كأداة من أدوات الجريمة مما استوجب اللجوء إلى التقنيات الرقمية Digital technologies  والذكاء الاصطناعي Artificial intelligence  في اكتشاف الجريمة وتوفير الأدلة الجنائية من ذات بيئة التقنية العالية High tech environment

فكانت النتيجة إنشاء مختبرات الأدلة الرقمية وإستحداث البحث التقني القضائي للحاسب الآلي واستخدام تقنية الاتصال المرئي للتحقيق عن بُعد.

وبما أن الجريمة ظاهرة اجتماعية فإن أنماطها وأساليب ارتكابها سوف تظل في تغير مستمر مع حركة المجتمعات وأساليب أفرادها في التعامل وممارسة الأنشطة اليومية، وإن كان من المتوقع أن تتجه أنشطة الإنسان إلى الأتمتة واستغلال التقنيات العالية ، إلا أنه من المرجح أن تبقى بعض الأساليب الفنية المعروفة في مجال التحقيقات الجنائية مرتكزة على ثوابت أساسها الخبرة ، والموهبة والمهارة الشخصية للمحققين. 

فإذا كانت الجرائم المستحدثة، تتطلب وسائل ومعينات تكنولوجية للتحقق فيها ، فلا يعني ذللك إلغاء القواعد التقليدية العامة ، بل تظل تلك القواعد والمهارات المكتسبة والقدرات الفطرية لدى المحققين ثوابت لا غنى عنها.  

وعليه رأينا أن نؤمن هنا بعضاً من القواعد العامة التي يرتكز عليها المحققون في جميع الحالات ، سواءً كان ذلك في الجرائم التقليدية أو الجرائم المستحدثة ، وتعتبر هذه القواعد العامة دائمة وملازمة في جميع أنواع التحقيقات الجنائية. 

من بين هذه القواعد العامة قواعد تتصل بسلامة الإجراءات القانونية الشكلية، التي قد يكون أي تجاوز لها سببـًا من أسباب بطلان التحقيق. 

وهنالك قواعد عامة تعزز دور خبرة المحققين ومهاراتهم المهنية ومواهبهم الفطرية ، التي تفيد عمليات التعرف على الأشخاص والأشياء واكتشاف الحقائق ، كما أن هنالك ثوابت تتعلق بأخلاقيات المهنة والشروط الواجب توفرها في المحقق والقيود القانونية التي يستوجب على المحقق الالتزام بها حتى تكون إجراءاته سليمة وغير مؤثرة على حقوق الإنسان و كرامته ،  وبالتالي تكون الأدلة التي يحصل عليها المحقق مقبولة أمام المحاكم الجنائية.

ختاماً .. إن الشرطة والقضاء في حاجة متواصلة إلى معرفة اللغة الجديدة للتمييز بين الأدوار المختلفة التي يمكن أن يلعبها الحاسب الآلي في مجال جرائم المعلوماتية، إذ إن معرفة اللغة الدقيقة ضرورية لتطوير فهم أعمق عن الكيفية التي يسهم بها الحاسب الآلي في الجريمة، ومع الانتشار السريع لجرائم الحاسب الآلي تتزايد حاجة رجال الشرطة والقضاء إلى فهم كيفية التمييز بين أنواع جرائم العصبيات التي بدأت تتشعب وتتعقد كل يوم ، فاللغة الدقيقة وحدها هي التي تساعد رجال القانون على التعمق في استراتيجيات التحقيق وجمع الأدلة الجنائية الرقمية.

نسأل الله العلي العظيم العفو والعافية وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان وأن يحفظ قادتنا وأولياء أمورنا ويحفظ وطننا وأوطان المسلمين ، وأن يقينا ويحمينا من شرور الأوبئة وعبث العابثين وكيد الكائدين. اللهم آمين.

الكاتب والباحث الإماراتي

عضو اتحاد كُتّاب وأدباء الإمارات

عادل عبدالله حميد

التعليقات